يتزايد نفوذ الصين داخل المؤسسات الدولية بطريقة تقلق الغرب، ولكن في الوقت ذاته يقول الصينيون إنهم مظلومون وإنهم يُمنحون وزناً أقل من مساهماتهم المالية في كثير من المؤسسات الدولية.
وكاد الغضب الذي ثار بشأن ما إذا كانت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، قد تلاعبت بالبيانات لصالح الصين خلال منصبها السابق في البنك الدولي، يكلف الخبيرة الاقتصادية البلغارية وظيفتها.
وبغض النظر عن حقيقة هذه المزاعم، فلا أحد يشك في تصميم الصين على ترك بصماتها على المؤسسات المتعددة الأطراف التي يقوم عليها النظام المالي العالمي، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Financial Times الأمريكية.
قال يو جي، كبير الباحثين في الشأن الصيني في "تشاتام هاوس": "الصين تريد صوتاً أعلى ومزيداً من المقاعد على طاولات المناقشات. وهي تريد تصنيف نفسها على أنها زعيمة الجنوب العالمي".
مجلس حقوق الإنسان يكشف حجم نفوذ الصين داخل المؤسسات الدولية
تمثل أزمة جائحة كورونا، والتحقيقات التي قادتها منظمة الصحة العالمية بشأنها نموذجاً واضحا لتوسع نفوذ الصين داخل المؤسسات الدولية، إذ يرى كثيرون من منتقدي منظمة الصحة العالمية أن المنظمة أصبحت دمية في يد بكين.
وعندما قلصت الصين الحريات السياسية في هونغ كونغ صيف 2020، تم توزيع إعلانين متنافسين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. واحد، صاغته كوبا وأشاد بخطوة بكين، حصل على دعم 53 دولة. وصدرت نسخة أخرى من المملكة المتحدة وأعربت عن قلقها وحصلت على 27 مؤيداً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
يُظهر هذا إلى أي مدى أصبح نفوذ الصين داخل المؤسسات الدولية قوياً حتى في مؤسسة مثل مجلس حقوق الإنسان يفترض أن تكون بطبيعتها مؤسسة محايدة ولا تتمتع دولة معروفة بانتهاكاته الحقوقية مثل الصين، بنفوذ استثنائي فيها.
وأصبح هناك اهتمام كبير في الغرب بوقف تمدد نفوذ الصين داخل المؤسسات الدولية، لاسيما طموحات بكين المالية والدبلوماسية في الأمم المتحدة والمؤسسات التي تتخذ من واشنطن مقراً لها مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي تقع في قلب النظام العالمي الذي صممته الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
والأمر لا يقتصر على القلق من نفوذ الصين داخل المؤسسات الدولية، ولكن هناك استياء من سعي الصين إلى تحقيق طموحاتها من خلال استخدام وضعها المزدوج غير العادي بصفتها اقتصاداً نامياً وقوة عظمى.
أكبر مُقرض ثنائي في العالم
قال سكوت موريس، من مركز التنمية العالمية، وهي مؤسسة فكريةٌ مقرها واشنطن: "لا توجد بالفعل سابقة لما نراه مع الصين. فهي لها أهمية فريدة بهذه المؤسسات، خاصة في البنك الدولي… بصفتها مساهمة ومانحة ومُتلقية".
وبالنسبة لأفقر دول العالم، صارت الصين الآن أكبر مُقرض ثنائي في العالم، بحصص أكبر في الواقع من جميع المقرضين الثنائيين الآخرين مجتمعين.
وقال تقرير دولي إن الشركات الصينية أصبحت تهيمن على العقود التي تقدمها بنوك التنمية، ورفعت بكين مساهماتها في تلك المؤسسات إلى 66 مليار دولار، متجاوزةً اليابان باعتبارها ثاني أكبر مساهم بعد الولايات المتحدة.
وها هي تقلص مبادرة الحزام والطريق لصالح مبادرة أخرى
وقلصت الصين مبادرة الحزام والطريق الطموحة للاستثمار في البنية التحتية بالخارج وأحلت محلّها مبادرة التنمية العالمية الأكثر اعتدالاً والتي أطلقها الرئيس شي جين بينغ بالجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول.
وقال كبير الباحثين يو جي إنَّ هذا مثال على أنَّ الصين "تلعب على الجانبين". من جانب، تسعى لتأييد المؤسسات العالمية مثل الأمم المتحدة لدفع أجندتها وكسب الدعم، لاسيما بين البلدان النامية. وأشار يو إلى أنَّ مبادرة التنمية العالمية "لا تبدو كأنها مبادرة صينية".
عندما يحجّم الغرب دورها فإنها تبحث عن بديل
لكن في الوقت نفسه، عندما تُقابَل طموحاتها العالمية بالبنك الدولي أو في أي مكان آخر بالإحباط، سرعان ما تضع بدائل مثل بنك التنمية الجديد ومقره شنغهاي والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
وإحباطات الصين مفهومة. فقد كان الدور البارز لمجموعة العشرين خلال الأزمة المالية لعام 2009 بمثابة اعتراف غربي متأخر بأنَّ الصين والاقتصادات الناشئة الرئيسة الأخرى تستحق أن يكون لها دور أكبر في الحوكمة العالمية.
ومع ذلك، لم يتغير شيء يُذكر في صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي منذ ذلك الحين.
الصين تتعرض للتهميش في صندوق النقد والبنك الدوليين
وعلى الرغم من أنها تمثل ما يقرب من خُمس الاقتصاد العالمي، فإنَّ حصة الصين في كلتا المؤسستين تبلغ نحو 6% فقط، وهي أصغر من حصة اليابان وبالكاد تبلغ ثلث حصة الولايات المتحدة. وقد تعرقلت جهود إصلاح نظام الحصص في صندوق النقد الدولي من قِبل أولئك الذين قد يخسرون، وصمنهم الدول الأوروبية.
أما بالنسبة للبنك الدولي، فإنَّ الصيغة التي ابتكرها بعد الأزمة المالية كانت ستضاعف حصة الصين إلى 12%. لكن بحلول وقت النظر في هذا الاقتراح، خلال إدارة دونالد ترامب، كانت العلاقات الصينية الأمريكية قد شابها التوتر، وتعطلت طموحات الصين بعد تأجيل النظر في الخطة.
وتساءل موريس: "إذا كنت الولايات المتحدة، فهل ستود إغضاب [الحلفاء] بشدة من أجل إرضاء الصين؟ من الصعب استنتاج أنَّ الولايات المتحدة ستفعل ذلك بعد قراءة المشهد".
هل كانت جورجيفا تحاول تقليل غضب بكين؟
ووصلت هذه التوترات إلى ذروتها خلال زيادة رأس مال البنك الدولي لعام 2018. كان ذلك عندما زُعم أنَّ جورجيفا، التي كانت رئيسة تنفيذية للبنك آنذاك، أشرفت على التلاعب بالبيانات في تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال" البارز للبنك لتحسين تصنيف الصين.
وعندما أثيرت المزاعم في سبتمبر/أيلول من هذا العام، اتُّهِمَت جورجيفا، التي انتقلت منذ ذلك الحين إلى صندوق النقد الدولي لتصبح مديرة الصندوق، بأنها فعلت ذلك للمساعدة في إقناع الصين بضخ مزيد من الأموال. لكن كما أشارت في دفاعها، فإنَّ الصين قد "دعمت بشكل لا لبس فيه، زيادة رأس مال البنك لسنوات عديدة".
لكن في المقابل يقول منتقدوها إنها فعلت ذلك لتهدئة بكين بعدما رفض آخرون أي زيادة في حصتها.
ونفت جورجيفا ارتكاب أية مخالفات وخلص مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، بعد مراجعة المزاعم، إلى عدم وجود أدلة كافية لإثبات أنها تدخلت بدور غير لائق.
وحققت الصين نجاحاً أكبر بالأمم المتحدة. إذ على مدار الأعوام العشرين الماضية، ارتفعت مساهماتها من 1% إلى 12% مع سعي بكين إلى زيادة نفوذها؛ مما يضع البلاد بالمرتبة الثانية. وفي غضون ذلك، تراجعت مساهمات الولايات المتحدة من 25 إلى 22%.
إضافة إلى ذلك، يرأس مواطنون صينيون الآن 4 مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، منها منظمة الأغذية والزراعة والاتحاد الدولي للاتصالات، ليصيروا على قدم المساواة مع الولايات المتحدة.
يأتي هذا التأثير بتكلفة منخفضة نسبياً. يقول أوغوستو لوبيز-كلاروس، المدير التنفيذي لمنتدى الحوكمة العالمية: "عليك أن تعترف بأنهم فهموا أنه بمال قليل نسبياً، يمكنك أن تصبح مهماً في البيئة الدولية. لقد فهموا ذلك أفضل من الأمريكيين".
وقال تقرير لمركز التنمية العالمية (CGD)، إن "هناك حاجة إلى مزيد من التدقيق في دور الصين ببعض المؤسسات المالية الدولية" وإلى "جهود معقولة لتلطيف الوضع المهيمن للصين"؛ لمنعها من تقويض أهداف التنمية.
ويشمل ذلك الدور الذي تلعبه بكين كمُقرض للدول الفقيرة، التي يواجه كثير منها ضائقة ديون.
الصين أكبر متلقٍّ للمساعدات من البنك الدولي
وأظهر التحقيق الذي أجراه مركز التنمية العالمية في الدور المتوسع للصين بالمؤسسات متعددة الأطراف وبنوك التنمية الأخرى، أنَّ بكين أكدت مكانتها حيثما كان ذلك ممكناً في تلك الهيئات. ومع ذلك، بما أنَّ الصين لاتزال مصنفة رسمياً على أنها "دولة نامية"، فقد اعتمدت أيضاً على تلك المؤسسات للحصول على المساعدة المالية والتقنية.
وقال التحقيق إن الصين أكبر متلقٍّ للمساعدات من المؤسسات المالية متعددة الأطراف مثل البنك الدولي، حتى بعد أن اكتسبت قوة تصويتية وأدواراً قيادية فيها.
وقال موريس، من مركز التنمية العالمية: "لم تتراجع الصين على الإطلاق عن صفتها دولة نامية. وهذا حقاً وضع فريد من نوعه. لو نظرت إلى الهند أو غيرها من الاقتصادات الناشئة الكبيرة، فستجد أنهم يقترضون الكثير لكنهم لا يتمتعون بوضع القائد العالمي".