تصاعدت المخاوف حول المخاطر التي يتعرض لها استقلال القضاء التونسي في ضوء التصريحات الأخيرة لرئيس البلاد قيس سعيّد، التّي أكد فيها أن القضاء "وظيفة من وظائف الدولة"، وتلميحه إلى حل المجلس الأعلى للقضاء.
وأصدر قيس سعيد الإثنين 13 ديسمبر/كانون الأول 2021 مجموعة من القرارات لتعزيز سلطته، حيث أعلن عن إجراء استفتاء، في 25 يوليو/تموز 2022، لتغيير الدستور والقانون الانتخابي.
ووفقاً لخارطة الطريق التي أعلنها الرئيس التونسي في خطابه، سيعقب الاستفتاء إجراء انتخابات تشريعية، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، وفقاً للدستور والقانون الانتخابي الجديدين، علماً أنه قرر استمرار تجميد البرلمان الحالي دون حله.
لماذا عاد الجدل حول استقلال القضاء التونسي؟
واشتعل النقاش حول استقلالية القضاء التونسي، منذ أن أعلنت وزيرة العدل ليلى جفال، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إعداد مشروع قانون يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، ما أثار حفيظة العديد من القضاة.
واعتبر قضاة تصريحات وزيرة العدل، تدخلاً في الشأن القضائي، فيما فنّد الرئيس سعيّد ذلك، مشدداً على أن إعداد هذا المشروع سيتم عبر إشراك القضاة أنفسهم.
ولم تخل خطابات سعيّد، في الفترة الماضية، من التطرق إلى مجال القضاء؛ إذ كثيراً ما أكد على أن القضاء "قضاء الدولة"، وأنه مستقلّ لا سلطان عليه غير القانون، و"لا طريق إلى تطهير البلاد إلا بقضاء عادل، وقضاة فوق كل الشبهات".
وسارعت حينها عدة هيئات قضائية للتنديد بأي تدخل في القضاء، عبر بيانات شددت فيها على ضرورة عدم المساس بالسلطة القضائيّة والبناء الدستوري.
القضاة يرفضون المساس باستقلالهم
وسبق أن أصدر المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين، بياناً شدد فيه على تمسكه بـ"استقلال السلطة القضائية بفروعها، العدلي والإداري والمالي، وبهياكلها من هيئات ونيابة عمومية، طبق الضمانات والمكتسبات الدستورية الواردة بالباب الخامس من الدستور". وأكد البيان أيضاً "التمسك بالمكسب الديمقراطي للمجلس الأعلى للقضاء، كمؤسسة مستقلة لنظام الفصل بين السلطات والتوازن في ما بينها، بما يضمن حسن سير القضاء واستقلاله، ويسهر على حماية الهيئات القضائية من الوقوع تحت أي ضغوط أو تدخل في المسارات المهنية للقضاة، أو يضعف ويقوض دورهم في مسؤولية حراسة الحقوق والحريات ودولة القانون، بالنزاهة والاستقلالية المستوجبة".
وشدد بيان جمعية القضاة على أن "مسار الإصلاح القضائي هو مشروع ممتد في الزمن، ولا يمكن أن يتحقق بإلغاء المكتسبات الدستورية لاستقلال القضاء التونسي، بل بالبناء عليها واستكمال نواقصها، وتقويم ما اعتراها من أوجه الخلل".
وأعرب الرئيس الشرفي لـ"اتحاد القضاة الإداريين" وليد الهلالي عن "الاستغراب من تكليف رئيس الجمهورية قيس سعيد وزيرة العدل بإعداد مشروع يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء". وعبر الهلالي عن "رفض القضاة الإداريين هذا التوجه أحادي الجانب من رئيس الجمهورية"، معتبراً أنه "إقصاء وخطوة إلى الوراء في مسار إشراك المجلس الأعلى للقضاء والهياكل المهنية القضائية وجمعية القضاة في كل ما يتعلق بالشأن القضائي"، مضيفاً أن "هذا التوجه يُعد تدخلاً مباشراً في السلطة القضائية ومسّاً باستقلاليتها".
قيس سعيد يلوّح بحل المجلس الأعلى للقضاء
وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2022، ألمح سعيد إلى إمكانية تعليق دستور 2014، وإمكانية حل المجلس الأعلى للقضاء، وإعادة صياغة المجلس بواسطة مراسيم.
والمجلس الأعلى للقضاء، هيئة دستورية معنية بالرقابة على حسن سير القضاء واستقلال السلطة القضائية.
يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، عبر، في مؤتمر صحفي، عقده في 13 ديسمبر/كانون الأول، عن رفضه المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية وحل المجلس في هذه المرحلة الاستثنائية.
جمعية القضاة (غير حكومية)، اعتبرت بدورها تصريحات الرئيس "خطيرة".
وشددت جمعية القضاة على تمسكها بالاستقلال التام للقضاء، وبالمكسب الديمقراطي للمجلس الأعلى للقضاء، باعتباره مؤسسة مستقلة تضمن حسن سير القضاء واستقلاله، وتسهر على حماية الهيئات القضائية من الوقوع تحت أي ضغوط.
"يحاول ترهيبهم للسيطرة عليهم"
في سياق متصل، اعتبر القاضي السابق أحمد صواب، أن رئيس الجمهورية، يمارس ضغطاً على القضاء من أجل ترهيبه، وصولاً إلى "تركيعه وتدجينه"، مشيراً إلى أن "بعض التوقيفات التي طالت شخصيات سياسية أخيراً، تستند إلى شبهات ولا تتطلب الإيداع بالسجن"، داعياً إلى تحييد المؤسسة القضائية عن التجاذبات السياسية، حسبما ورد في تقرير لموقع "إندبندنت عربية".
وحذر صواب من "محاولات السلطة التنفيذية السيطرة على القضاء"، مؤكداً أنه "لا وجود لديمقراطية في العالم من دون قضاء مستقل".
واعتبر مراد المسعودي، رئيس جمعية القضاة الشبان (غير حكومية) في تصريح لوكالة الأناضول، أن "لدى سعيّد نية كاملة للسيطرة على القضاء التونسي".
ولفت إلى أن هذا التوجه برز مباشرة بعد إقالة الحكومة وتعطيل عمل البرلمان منذ 25 يوليو/تموز الماضي، عندما ترأس النيابة العمومية، وسرعان ما تراجع عن ذلك، بعد ضغط المجلس الأعلى للقضاء عليه، ودفعه لضرورة النأي بالقضاء عن كل التجاذبات السياسية".
ومنذ 25 يوليو/تموز 2021، اتخذ سعيّد، إجراءات استثنائية منها: تجميد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وترؤسه النيابة العامة، وإقالة رئيس الحكومة، وتوليه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة عَيَّنَ "نجلاء بودن" رئيسةً لها.
خطاب متضارب والهدف واحد
وقال المسعودي إنّ "لسعيّد، خطاباً متضارباً، فمن جهة يؤكد حرصه على ضمان استقلال القضاء التونسي، ومن جهة أخرى يحاول توجيهه بشكل متعمّد".
ويرى أنّ "هدف سعيّد الأساسي السيطرة على القضاة، الذّين ينخرطون تحت لواء المجلس الأعلى للقضاء، من خلال حملة تطهير شعبوية للقضاء دون أسس قانونية".
ويضيف المسعودي أن "المجلس الأعلى للقضاء يجب أن يبقى قائماً في ظل التدابير الاستثنائية، التّي تعيش في ظلها البلاد، لأنه من يحفظ الأمن العام".
واستطرد: "القضاء ليس مجرد أفراد وإنما مؤسسة. كما أنّه لا يمكن للقاضي أن يشعر باستقلاليته إلا عبر هذا المجلس الذّي يضمن له ذلك".
وأشار المسعودي إلى أن "سعيّد أراد إقحام القضاة في تجاذبات سياسيّة".
وحذر من أنه "إذا أصبح القاضي خاضعاً للسلطة التنفيذية فإنه سيصبح حتماً غير مستقل".
صفحات تحشد ضد القضاة
وقال المسعودي إنّ "الطريقة الوحيدة التي وجدها سعيّد للسيطرة على القضاء، تتمثل في التوجه نحو حل المجلس الأعلى للقضاء، ورفع الحصانة عن القضاة، وأخذ قرارات انفرادية بشأنه".
وتابع المسعودي: "يريد سعيّد، أن يكون القضاء التونسي في قبضته، بعد أن سيطر على الأمن والجيش".
من جهته، يشير القاضي عبد الرزاق بن خليفة، كاتب الدولة لدى وزير الداخلية سابقاً إلى أنّ "هناك صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي موالية للرئيس سعيّد، تقوم بالتجييش والدعوة لحل المجلس الأعلى للقضاء".
وقال بن خليفة: "أجزم أنه كان من بين القرارات التي سيعلنها سعيّد حل المجلس (الأعلى للقضاء) وتعيين القضاة من قبله. فمثلما حل البرلمان يريد أيضاً حل المجلس، ويريد أن تصبِح السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بيده".
ويضيف أن "تلك الصفحات تدفع باتجاه خلق مزاج معين، وحشد الشارع ضد القضاء".
وأردف أنه "من الغريب أن يتم عبر تلك الصفحات الموالية للرئيس تداول قائمة قضاة على أنهم فاسدون، في حين أنهم من أفضل القضاة، وهم يمثلون الخط المستقل في القضاء، والسبب دعوتهم إلى النأي بالقضاء عن أي تدخلات".
واعتبر بن خليفة أنّ "نظام الحكم الفردي المطلق الذي سار فيه سعيّد لم تعشه تونس منذ 1857، زمن حكم البايات، حينها لم يكن هناك دستور ولا برلمان ولا حكومة".
وتابع: "سعيّد، قام بحل الحكومة والبرلمان، والمؤسسة الوحيدة التي لا زالت تعمل حتى اليوم وقائمة بذاتها هي المجلس الأعلى للقضاء".
وأضاف: "سعيّد، أراد وضع يده على الدولة بكل أركانها.. خرج عن الدستور، والغاية السيطرة على القضاء، وتوظيفه ضد خصومه السياسيين".
إصلاح القضاء ضروري دون ضرب استقلاليته
من جانبه، يرى القاضي عمر الوسلاتي أنّ "القضاء لا يخلو من مشاكل، ولا بد من إصلاحه، وأن تلك الإشكالات تتعلق أساساً بالقوانين التي تدير القطاع".
وأضاف: "لم يتم تدريب القضاة في عدة مسائل على غرار الفساد الإداري والمالي وقضايا تبييض الأموال والفساد، وهنا يكمن ضعف الإمكانات المخصصة لهذا القطاع".
وأشار إلى أنّ "أبرز ما تحقق للقضاة أن يكون لهم مجلس أعلى للقضاء، يضمن استقلال القاضي عن السلطة السياسية".
واعتبر الوسلاتي أن "قانون المجلس الأعلى للقضاء، يحتاج لمراجعة دون المساس بباب السلطة القضائية المضمنة في الدستور".
واستدرك بالقول إنه "لم يتم إصلاح القضاء بالشكل المطلوب، ما يجعله مع كل أزمة سياسية يقع في اختبار، وهو إما الانتصار للجهة السياسية التي فرضت الأمر الواقع، أو أن يقع اتهامه بأنه يشتغل على المقاس وبأنه فاسد".
واعتبر الوسلاتي أن "إصلاح القضاء يتطلب الابتعاد عن كل ما هو سياسي، قد يؤدي به إلى التوظيف (السياسي)، وهي معضلة كبرى اليوم".
وأضاف أنّ "هناك خيبة أمل لدى القضاة من كل المنظومة السياسية عموماً سواء قبل 25 يوليو أو بعده".
ولفت الوسلاتي إلى أن "أي تدخل في السلطة القضائية سيمس حتماً بضمانات استقلال القضاء والقضاة، لأنه في استقلال القاضي ضمانة للمواطنين".
وتابع أنّ "القاضي يقوم بوظيفة، وضمانات السلطة القضائية تكمن في إقامة العدالة وفي عدم التدخل في قراراته".
وسبق أن نفى يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وجود أي ممارسات ضاغطة على المجلس من قبل الرئيس، لافتاً إلى أن "المجلس الأعلى للقضاء يقوم بدوره في إطار ما هو مخوّل به من صلاحيات" اعتبرها "محدودة نتيجة التشريع، وأيضاً لغياب آليات تضمن استقلالية القضاء، كالتفقديات وتكوين وانتداب القضاة".
وأقر بوزاخر بأن "المجلس الأعلى للقضاء هو محط أنظار الجميع في هذه الفترة"، معترفاً بأن "المجلس لم يقم بدوره كما يجب"، وداعياً إلى "بناء حقيقي لسلطة قضائية مستقلة". وشدد على أن "المحاسبة في المجال القضائي لا بد وأن تتم عبر آليات المحاسبة الموجودة في المؤسسة القضائية"، مشيراً إلى أن "دعوات رئيس الجمهورية للقضاء من أجل أن يضطلع بدوره، ناجمة عن تفشي الفساد في كل المجالات بما فيها المؤسسة القضائية".