تنتهج الصين، الدولة التي تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، سياسات ناعمة في السيطرة على الدول النامية والفقيرة والاستيلاء على مقدراتها، من خلال إغراقها في الديون التي تقدمها للإسهام في بناء مشروعات للبنية التحتية وغيرها تحت مسميات عدة منها مبادرة "الحزام والطريق".
وعلى مدى 18 عاماً، أقرضت الصين أموالاً لـ 13427 مشروعاً للبنية التحتية بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة، وفقاً لمركز الأبحاث AidData في جامعة ويليام أند ميري بولاية فرجينيا الأمريكية.
ويشير تقرير المركز البحثي إلى أن 42 دولة تملك في الوقت الراهن ديوناً عامة مترتبة عليها لصالح الصين، تمثل أكثر من 10% من إجمالي ناتجها المحلي.
وتأتي تلك القروض مصحوبة بفوائد تثقل كاهل الدول المقترضة بالديون الكبيرة، مما يتسبب في إغراقها ببحر من الديون يجعلها عاجزة عن السداد، ومن هنا تتدخل الصين بدافع حماية أموالها للسيطرة على مقدرات الدولة المتعسرة مقابل تلك الأموال.
فتجد أن العديد من قروض الصينية تتطلب أشكالاً غير عادية من الضمانات، إذ يبدو أن القروض الصينية تتطلب من المقترضين التعهد بالسداد نقداً بالعملة الصعبة من الأموال الناتجة من بيع الموارد الطبيعية.
فعلى سبيل المثال، تفرض الصفقة التي أبرمت مع فنزويلا إيداع العملة الأجنبية الناتجة من بيع النفط مباشرة في حساب مصرفي تسيطر عليه الصين، وبالتالي في حالة عدم سداد الديون، يمكن للمقرض الصيني سحب الأموال النقدية الموضوعة في الحساب على الفور.
ووفقاً لتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي في يناير/كانون الثاني 2021، زادت مطالبات الديون الصينية المستحقة على بقية العالم من حوالي 1.6 تريليون دولار أمريكي في عام 2006 إلى أكثر من 5.6 تريليون دولار أمريكي اعتباراً من منتصف عام 2020، مما يجعل الصين واحدة من أكبر الدول التي تقرض البلدان منخفضة الدخل.
وبلغ الدين الخارجي المستحق للصين، بما في ذلك ديون الدولار الأمريكي، 2.4 تريليون دولار أمريكي في نهاية عام 2020، بزيادة 4% مقارنة بالإجمالي في نهاية سبتمبر/أيلول 2020، وفقاً لإدارة الدولة الصينية للنقد الأجنبي.
يأتي من بينها ما يزيد عن 80% من إجمالى ديون دول الأسواق الناشئة لصالح الصين منذ بداية انتشار فيروس كورونا.
ويوفر الاستثمار الخارجي للصين فرصة لزيادة التجارة والأعمال وتعزيز اقتصادها، في حين تمكن مبادرة الحزام والطريق الصين من الاستفادة من قوتها الاقتصادية لزيادة نفوذها في الخارج.
وعلى هذا النحو تتقاطع سياسة الدين الخارجي للصين بأهداف سياستها الخارجية في إطار مبادرة الحزام والطريق.
إلا أن بعض المحللين يرون أنه لا يوجد دليل قوي على أن الصين تهدف إلى دفع البلدان الفقيرة عن عمد إلى الديون كوسيلة للاستيلاء على أصولها أو الحصول على نفوذ أكبر في شؤونها الداخلية.
واستندوا في ذلك إلى أن بكين قدمت بعض الإعفاءات من الديون لأكثر من 20 دولة، بالإضافة إلى بعض البلدان التي ألغت لها الصين القروض من دون الفوائد التي كانت مستحقة في عام 2020، وفقاً لتقارير وزارة التجارة الصينية.
من هي الدول التي تسيطر الصين على مقدراتها؟
تأتي سريلانكا ضمن صدارة الدول التي سيطرت عليها بكين، حيث استحوذت الصين على 85% من حصة مرفأ هامبانتوتا لمدة 99 سنة مقابل 1.12 مليار دولار، وذلك بعد عجز سيريلانكا عن سداد القرض الصيني الذي بلغت قيمته نحو 8 مليارات دولار بسعر فائدة مرتفع بلغ نحو 6.3%.
كما استحوذت بكين على حوالي 15 ألف فدان قريبة من ميناء هامبانتوتا في سريلانكا كمنطقة صناعية.
وفي المالديف، تقدر ديون الصين لجزر المالديف بمبلغ 1.3 مليار دولار (أي أكثر من ربع إجمالي الناتج المحلي السنوي) وقد استأجرت بكين إحدى جزرها لمدة خمسين عاماً وبعد استلام إبراهيم صلح الرئاسة أخذ على عاتقه مراجعة الاتفاقيات مع الجانب الصيني، ووصفها بأنها مشروع للـ"استيلاء على أراضي الدولة".
كذلك في بنغلاديش، ومع تراكم الديون على الحكومة لتصل لعشرات المليارات من الدولارات، وضعت الصين يدها على أكبر وأهم ميناء بحري فيها وهو مرفأ شيتاغونع.
أما في باكستان، استثمرت الصين نحو 62 مليار دولار في باكستان لبناء محطات الطاقة الشمسية ومحطات توليد الطاقة، وبناء وتوسيع الطرق السريعة، وتجديد خطوط السكك الحديدية، كل هذه القروض المقدمة بالدولار، ستدفع باكستان للسعي وراء تحقيق فائض تجاري مرتفع حتى تستطيع سدادها.
إلا أنه إثر ذلك استحوذت إحدى الشركات الصينية على ميناء غوادر الاستراتيجي في باكستان لمدة 40 عاماً، وستمتلك الشركة 85% من إجمالي إيراداته.
وتأتي الدول الأفريقية ضمن أكبر الدول المقترضة من الصين مثل "أنغولا، وإثيوبيا، وكينيا، وزامبيا"، حيث يقدر إجمالي ديون القارة الإفريقية بنحو 385 مليار دولار أمريكي، نحو ثلثَي هذه الديون يعود إلى الصين، فيما تشير بعض التقارير إلى أن 143 مليار دولار، أي ما يزيد على ثلث الديون الإفريقية، أُقرضَ بين عامَي 2017 و2020.
ما يعكس خطورة الوضع لدى الدول المقترضة وسط توقعات باستحواذ الصين على منتج الطاقة في زامبيا والميناء الرئيس في كينيا إذا فشلت تلك الدول في سداد القروض التي أخذتها من الصين لبناء مشاريع كبرى.
فأنغولا مدينة للصين بنحو 21.5 مليار دولار، وكينيا بنحو 9.8 مليار دولار، وإثيوبيا بنحو 13.7 مليار دولار والكونغو بنحو 7.42 مليار دولار، وزامبيا حوالي 6.38 مليار دولار، والكاميرون نحو 5.57 مليار دولار.
وفي الجزائر تأتي الاستثمارات الصينية في قطاع البناء بحوالي 1.2 مليار دولار، والزراعة 500 مليون والباقي في قطاع الخدمات، إلا أنها تعد بعيدة بعض الشيء عن الفخ الصيني.
يضاف إلى ذلك دول أخرى وقعت في مأزق ضائقة الديون مثل قيرغيزستان ولاوس ومنغوليا والجبل الأسود وجيبوتي وجزر المالديف وباكستان وطاجيكستان.
ومؤخراً، جاءت أزمة أوغندا مع بكين التي أقرضتها نحو 200 مليون دولار خلال عام 2015، الأمر الذي اوقعها فريسة للتنين الصيني فبعد أن تخلفت الأولى عن السداد حاولت التفاوض على تأجيل الدين إلى أنه قوبل بالرفض ليقع في المقابل مطارها أوغندا الوحيد وهو "مطار عنتيبي الدولي" تحت سيطرة الصين.
كيف تقرض الصين تلك الأموال؟
معظم ديون الحكومة المحلية في الصين مملوكة من قبل المؤسسات المالية المملوكة للدولة أو التي تسيطر عليها الدولة.
حيث تعتمد الحكومة الصينية منذ عقود على الاقتراض خارج الموازنة العمومية من خلال آليات التمويل الحكومية المحلية، ولا يتم تسجيل العديد من هذه القروض، فالشفافية ضعيفة عندما يتعلق الأمر بكيفية استخدام الأموال.
وبالتالي لا تظهر مثل هذه القروض في الحسابات الرسمية للديون الحكومية، ذلك لأن مؤسسات الحكومة المركزية لم يتم ذكرها في الكثير من الصفقات التي أبرمتها البنوك الحكومية الصينية.
مما يجعل مثل هذه الصفقات خارج الميزانيات العمومية للحكومة، وتحجبها بنود السرية التي يمكن أن تمنع الحكومات من معرفة ما تم الاتفاق عليه خلف الأبواب المغلقة.
وقدرت وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيف الائتماني هذه الديون الخفية بما يتراوح بين 30 تريليون يوان (4.2 تريليون دولار أمريكي) و40 تريليون يوان (6.2 تريليون دولار أمريكي) في عام 2018.
ووفق تقرير مركز أبحاث AidData، فإن الديون الخفية أو المستترة تمثل نحو 38.6% من إجمالي الديون المستحقة للصين.
ولفت المركز البحثي إلى أن "ما يناهز 70 % من الإقراض الصيني الخارجي" موجه اليوم لشركات عامة ومصارف حكومية وآليات ذات مهمات خاصة ومشاريع مشتركة ومؤسسات من القطاع الخاص، عاملة في الدول المدينة"، بدلاً من المقترضين السياديين الذين هم كناية عن مؤسسات حكومية مركزية.
هل تقع مصر في الفخ الصيني؟
في عام 2018، وقعت مصر عدداً من الاتفاقيات والعقود مع الشركات الصينية لتنفيذ مشروعات تنموية في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، بقيمة استثمارية تبلغ نحو 18.3 مليار دولار، وفقاً لبيان صادر عن المتحدث باسم الرئاسة المصرية بسام راضي.
كما حصلت مصر على قرض بلغت قيمته 3 مليارات دولار من الصين فى أكتوبر/تشرين الأول 2016، قبل أن تحصل على قرض صندوق النقد الدولي.
حيث كان لزاماً عليها الحصول على 6 مليارات دولار وهو قيمة التمويل اللازم لحصول مصر على الشريحة الأولى بقيمة ملياري دولار من قرض صندوق النقد الدوليّ لمصر بإجمالي 12 مليار دولار على مدار 3 سنوات.
واطلع "عربي بوست" على تقرير الوضع الخارجي رقم 74 للاقتصاد المصري، الذي صدر مؤخراً عن البنك المركزي المصري، حيث جاءت الصين في صدارة الدول الدائنة لمصر بنهاية يونيو/حزيران الماضي مستحوذة على نحو 4.631 مليار دولار من إجمالي الديون الخارجية المستحقة على مصر للدول.
ويبلغ الدين الخارجي الإجمالي المصري نحو 137.85 مليار دولار بنهاية يونيو/حزيران 2021، تستحوذ الصين منه على نحو 3.35%.
إلا أن الكاتب عادل صبري، المتخصص في الشأن الصيني، قال إن هناك ديوناً مستترة اقترضتها مصر من الصين لإنشاء البرج الأيقوني ومجمع الوزارات التي تنفذه شركات صينية ولشراء قطار العاصمة والقطار السريع.
وأضاف صبري، خلال مقاله المنشور في موقع "الجزيرة نت"، إلى وجود أيضاً قروض حصل عليها البنك الأهلي وبنك مصر، وشركات قطاع الأعمال التي حصلت بمفردها على ما يزيد عن نصف مليار دولار من الصين لتطوير قطاع الغزل والنسيج.
ولكن قيمة هذه القروض اختفت، حيث أشار صبري إلى أن تقارير البنك المركزي والموازنة العامة للدولة جاءت بدون أرقام الدين الخاصة بالشركات والجهات المحلية التي اقترضت أموالاً من دول ومؤسسات أجنبية بالعملة الصعبة، والتي تحصل عادة على ضمان من وزارة المالية.
ويصاحب الديون المستترة، التي تدفعها الصين للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، فوائد أعلى من المعدلات الدولية، وفترة سنوات أقل، فضلاً عن كونها توجه للشركات والبنوك العامة كما ذكرنا سلفا.
وذكر صبري أن تكلفة بناء البرج الأيقوني بالعاصمة الإدارية الجديدة تبلغ 3.2 مليار دولار، ما يعني أن الصين حولت القرض إلى شركة العاصمة الإدارية الجديدة.
لذلك لم يظهر في الميزانية العامة ولا التقارير الدولية، ولم يعرض على البرلمان، ولم تظهر تفاصيل عقوده في الصحف أو أية جهة رسمية، أسوة بغيره من القروض الصينية المماثلة، ولا تظهر أرقام هذه القروض إلا فيما تذكره بيانات السفارة الصينية بالقاهرة أو حكومة بكين، وفق تعبير صبري.
كما أن البنوك الصينية يفترض أنها قدمت نحو 85% من التمويل اللازم لبناء ناطحة السحاب في العاصمة المصرية الجديدة والبالغ قيمتها 3 مليارات دولار، وذلك حسب تصريحات أحد المسؤولين في الشركة الحكومية الصينية المسؤولة عن مشروع العاصمة الجديدة، لوكالة "بلومبيرغ" الأمريكية.
وتلقى البنك الأهلي نحو 600 مليار دولار أمريكي من بنك التنمية الصيني، ونحو 500 مليون دولار لبنك مصر على هيئة ضمانات تصل لتمويل المشروعات التي يساهم فيها شركات صينية، ناهيك عن قروض أخرى لم يتم الإعلان عنها.
وبالتالي ينذر هذا الواقع بسيناريو كارثي يتطلب ضرورة الحذر والعمل على وقف شهية الاستدانة المفتوحة بشكل عام ومن الصين بشكل خاص حتى لا تقع مصر فريسة للفخ الصيني الذي قد يكرر سيناريو الدول التي عجزت عن سداد ديونها له مع القاهرة عبر السيطرة على المشاريع الحيوية داخل العاصمة الإدارية الجديدة التي يعمل على تمويلها.