بينما ما زالت احتمالات قيام روسيا بغزو أوكرانيا قائمة، بدأت تظهر وجهة نظر في الغرب بأن روسيا وأوكرانيا على السواء تفضلان استمرار الوضع الحالي المتأزم في إقليم الدونباس المتمرد على أوكرانيا والخاضع للنفوذ الروسي.
والأسوأ من ذلك هناك مؤشرات على أن القوميين الأوكرانيين المتطرفين المعادين لروسيا، بل وبعض المسؤولين الغربيين، يفضلون ضم روسيا لإقليم الدونباس الأوكراني المتحدث باللغة الروسية، وعدم استمرار الإقليم ضمن الدولة الأوكرانية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
واندلعت حرب في الدونباس عام 2014، أودت بحياة أكثر من 13000 شخص. ونزح ما لا يقل عن 1.4 مليون من سكان دونباس داخلياً، وفر 75 ألفاً على الأقل إلى روسيا، ومنذ ذلك الوقت وهناك قتال منخفض الكثافة بين الانفصاليين وكييف، حيث توصف الحرب في دونباس قبل الأزمة الأخيرة، بأنها "الحرب المنسية" في أوروبا.
وما زالت أوكرانيا وكل دول العالم لا تعترف بهذا الوضع، فيما تعهد الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، باستعادة أراضي وحدة بلاده مع تحقيق السلام.
من المعروف أن الأوكرانيين والروس والبيلاروس متقاربون ثقافيان وهم يشكلون فرعاً محدداً من العرق السلافي (الذي يشمل أغلب شعوب شرق أوروبا) يطلق عليه "السلافيون الشرقيون"، وتحول هذا العرق إلى شكل الدولة لأول مرة في أوكرانيا وليس روسيا، قبل أن ينتقل المركز الحضاري للسلاف الشماليين إلى لموسكو، بسبب الغزوات المغولية.
نُذر الحرب تتصاعد
في الأيام التي سبقت اجتماع القمة الذي عُقد عبر الفيديو الأسبوع الماضي بين الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت التكهنات على أشدها بأن موسكو على وشك التوغل عسكرياً من جديد في أوكرانيا.
وأشارت تقديرات الولايات المتحدة إلى أن روسيا نشرت بالفعل قرابة 70 ألف جندي -وذكرت تقارير إعلامية أن الأعداد كانت أكبر بكثير- في عدة مواقع على طول الحدود الشرقية لأوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم.
وعلى ما يبدو، فإن الحكومة الروسية فعلت ذلك بدافع من نفاد صبرها على عدم حسم الأمور في حرب دونباس في شرق أوكرانيا، والتي دخلت الآن عامها الثامن. كما يبدو أن بوتين يعتقد أنه يستطيع منع دخول أوكرانيا إلى الناتو من خلال التهديد باندلاع حرب جديدة في قلب أوروبا.
كان المراقبون محقين في قلقهم، فقد أوردت صحيفة The Washington Post الأمريكية، أن تقريراً استخباراتياً أمريكياً خلُص إلى أن روسيا قد تنقل في نهاية المطاف ما يصل إلى 175 ألف جندي إلى الحدود، وهي قوات قادرة على غزو واسع النطاق لأوكرانيا في مطلع هذا الشتاء. وكما أشار كثير من المحللين، فإن القوات المسلحة في كلا البلدين أقوى بكثير مما كانت عليه في 2014-2015، مع أن التفوق الروسي سيظل محسوماً من جهة العدة والعتاد على القوات المسلحة الأوكرانية. وكل هذا يعني أن أي تصعيد عسكري جديد سيكون على الأرجح أشد تدميراً من التصعيد الأخير.
لكن الواقع أن الطرفين مرتاحان للوضع الحالي
أما من منظور الموقف في منطقة دونباس نفسها، فإن الخطوات الروسية المقلقة تأخذ بعداً آخر. فبالنظر إلى التحول الأخير في الأحداث في المنطقة المتنازع عليها، تزداد أسباب الشك في أن يكون لروسيا مصلحة ملموسة في المضي قدماً إلى غزو حقيقي لأوكرانيا. وهذا لا يعني أن هذه الخطوة الكارثية لا يمكن أن تحدث، بل يعني أن حدوثها سيكون مفاجأة.
في الواقع، على مدار العام ونصف العام الماضيين، تزايد ارتياح موسكو وأوكرانيا إلى ما آلت إليه الأوضاع من حالة جمود تعود بالفائدة على كليهما، حسب المجلة الأمريكية.
فمنطقة دونباس تشهد انفصالاً بطيئاً، لكن ثابتاً، عن أوكرانيا، وها هي روسيا تبتلعها شيئاً فشيئاً. ومع أن هذا المسار يتعارض مع التزام البلدين الرسمي إعادةَ الاندماج السلمي للمنطقة في الدولة الأوكرانية، فإنه يخدم مصالح قوية في كل من كييف وموسكو، ومن ثم يبدو أنه من المرجح أن يستمر.
فمن جهة كييف، فإن إطالة أمد الحرب يعفيها من المضي قدماً إلى سلام قد يكون مكلفاً لها سياسياً واقتصادياً، أما موسكو، فإن استمرار الصراع دون حل يُمكِّنها من الإبقاء على التوازنات مع كييف، وتقويض ما تعتبره مشروعاً سياسياً مناهضاً لروسيا.
ومن ثم، فإن ما يزعج موسكو حقيقةً ليس فشل اتفاقيات مينسك التي رمت إلى إنهاء حرب دونباس بشروط روسيا، بل إنها تخشى علاقات كييف التي باتت أوثق من أي وقت مضى بالغرب وحلف شمال الأطلسي. وبناء على ذلك، ترفع روسيا تلويحات الغزو للحدِّ مما تعتبره انزلاق أوكرانيا غرباً، وتأمين الإبقاء على الوضع القائم مع كييف في حدود المتوقع على الأقل، وفي الوقت نفسه تعزيز الوضع الذي منحها سيطرة واسعة على المنطقة الانفصالية.
اتفاقيات سلام فاشلة
الإطار الحالي لإنهاء الحرب في دونباس -اتفاقيات مينسك لعامي 2014 و2015- كان محكوماً عليها بالفشل منذ البداية. فحين بدأ الصراع في عام 2014، بدا أن القوات الحكومية الأوكرانية قريبة من الانتصار على مجموعة فوضوية من الانفصاليين المسلحين التابعين لروسيا، إلى أن أرسل الكرملين آلافاً من قواته النظامية للتغلب على القوات الحكومية الأوكرانية. ثم فُرضت بنود اتفاقية مينسك 2 فعلياً على كييف، مانحةً روسيا استقلالية واسعة في المناطق التي أسهمت في انتزاعها من السيطرة الأوكرانية.
بالنسبة لموسكو، كانت اتفاقية "مينسك 2" مخططاً يرمي إلى إنشاء دولة شبه مستقلة داخل أوكرانيا ترعاها روسيا وتستخدمها لمنع انضمام أوكرانيا للناتو والاتحاد الأوروبي.
وكان للاتفاقية مؤيدون أوكرانيون، ولو لبعض الوقت، لكن ما آلت إليه اتفاقية مينسك واجه معارضة شديدة من كلا الجانبين، فقد رآها القوميون الأوكرانيون بمثابة الخيانة لأوكرانيا وتهديداً لمساعيهم بإقامة دولة موحدة واقتلاع الروس تماماً من البلاد، أما القوميون الروس فانتقدوا الاتفاقية لأنها عجزت عن الوفاء بطلبهم في توحيد دونباس رسمياً مع روسيا.
القوميون الأوكرانيون يرفضون التهدئة
في عام 2019، انتصر فولوديمير زيلينسكي في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، وبعد وصوله إلى الحكم لم يعد بإسقاط اتفاقية مينسك، لكنه تعهد بإنهاء الصراع العسكري.
وواجه معارضة صريحة من "حركة مقاومة الاستسلام"، وهو تحالف فضفاض من القوميين الأوكرانيين، نجح في إيقاف جهود زيلينسكي المبكرة لسحب القوات الأوكرانية من على خط المواجهة.
في غضون ذلك، رفض الكرملين رفضاً صريحاً جهود كييف الساعية إلى السلام. فمنذ عام 2015، قدمت كييف عديداً من المقترحات التي تضمنت الاستعانة بقوة دولية أو إدارة انتقالية للإشراف على إعادة دمج دونباس في أوكرانيا.
لماذا لا تريد أوكرانيا استعادة الدونباس حالياً؟
على الرغم من أن كلاً من كييف وموسكو غالباً ما يكونان على خلاف مع الفصائل القومية في كل من البلدين، فقد عملت الحكومتان، كل منهما بطريقته الخاصة، على تعزيز حالة الجمود. ففي أوكرانيا، يبدو أن كلاً من زيلينسكي والمعارضة المتشددة التي تهاجمه يعتقدان، وإن لأسباب مختلفة، أن إعادة دمج دونباس أمرٌ غير مرغوب فيه حالياً.
فالحكومة الأوكرانية ترى مصلحتها في استمرار الصراع، لأن ذلك يكفل لها تجنب حقول الألغام السياسية الداخلية، كما يضمن الإمداد المستمر للمساعدات الغربية والتأييد لها في مواجهة روسيا.
أما الكرملين، فقد تراجع عن مساعيه المبكرة لفرض اتفاقية مينسك، بعد أن وجد أن المسار الأكثر عملية هو متابعة الضم الفعلي لدونباس فيما الوضع الرسمي لدويلتي دونيتسك ولوهانسك المكونتين لإقليم الدونباس لا يزال دون حل.
ما موقف سكان الإقليم؟
أما ملايين السكان في دونباس المتنازع عليها، فإن الحسابات الاستراتيجية لموسكو وكييف لا تعني الكثير لهم.
وأثناء الحديث معهم، غالباً ما يشيرون إلى أنفسهم على أنهم روس وأوكرانيون في الوقت نفسه، وكثير منهم فاتر الحماس تجاه بوتين، إن لم يكن معادياً له، لكنهم لا يثقون في كييف أيضاً. كما أنهم ليسوا مقبلين على المساعدات العسكرية الغربية، لأنهم قلقون من أن كل ما يرسله الغرب يزيد احتمالات التصعيد من أي من الجانبين.
وحلمهم ليس محاربة الروس، ولا هزيمة الغرب الفاسد، بل ابتعاد خطوط المواجهة التي تقطع أراضيهم بعيداً عنهم وعن البلد الذي يعيشون فيه. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى حل للنزاع قد يقود إلى تقديم الواقع لإجابته الخاصة.
الآن أصبحت روسيا تمارس عملية بطيئة للضم
فخلال المراحل السابقة من الصراع، أبقت روسيا دعمها المالي لدويلات دونيتسك ولوهانسك عند الحد الأدنى على أساس أنها جزء لا يتجزأ من أوكرانيا. ولكن منذ ربيع عام 2020، أدت القيود الروسية الأوكرانية المتعلقة بجائحة كورونا إلى زيادة انعزال سكان المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون عن أوكرانيا. وبالنظر إلى نقاط التفتيش التي لم يُعِد القادة الانفصاليون فتحها بالكامل، يضطر سكان المنطقة الراغبون في السفر إلى أوكرانيا إلى تحمل رحلات باهظة الثمن تستغرق أياماً عبر الأراضي الروسية.
في المقابل، تحركت روسيا سريعاً لتعزيز العلاقات مع السكان المدنيين في دونيتسك ولوهانسك. ويقول المسؤولون الروس إنهم منحوا جوازات سفر روسية لأكثر من 650 ألف مقيم.
ويقول أحد السكان في المنطقة التي يسيطر عليها الانفصاليون إن جيرانه استجابوا للعرض الروسي، لأن "البوابات ليست مفتوحة لنا إلا في اتجاه واحد [الاتجاه الروسي]".
في غضون ذلك، تبدأ موسكو لأول مرة في ضخ استثمارات كبيرة في المنطقة. ففي أكتوبر/تشرين الأول، حصل الصحفيون الأوكرانيون على نسخة من وثيقة حكومية روسية تتناول خطط "التنمية الاقتصادية العاجلة" لـ"الإقليم 1″ و"الإقليم 2″، وهما رمزا الدويلتين في الوثائق الروسية. ودعت الخطة الروسية إلى إنفاق 12 مليار دولار على المنطقة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، ويشمل ذلك زيادة رواتب موظفي القطاع العام . كما تحرك الكرملين لتسهيل التجارة الروسية في الدويلتين، وأمرَ بوتين حكومته بالاعتراف بشهادات المنشأ للسلع المنتجة في دونيتسك ولوهانسك، وهو ما يتيح تداولها في روسيا.
القوميون الأوكرانيون قد يفضلون انفصال الدونباس لقطع آخر صلة بموسكو
حتى الآن، لم تُبدِ كييف اهتماماً كبيراً بمحاولة الحدِّ من سيطرة موسكو المتزايدة على دونباس، وليس السبب أن الحكومة الأوكرانية داعمة للجهود الروسية، بل لأنها في واقع الأمر شديدة العجز عن وقفها.
ومع ذلك، فإن انزلاق الأمور نحو الانفصال الكامل قد يحمل نوعاً من الفوز للقوميين في أوكرانيا، والإشارة هنا إلى أولئك الذين يسعون إلى تطهير البلاد من التأثيرات الروسية، ويرون -ومعهم بعض المسؤولين الغربيين الذين يدعمونهم- أن التخلص من المناطق الانفصالية التي يتحدث أهلها الروسية قد يكون أمراً حسناً، وأنه قد يساعد في رسم خط واضح وحاسم بين أوكرانيا الحرة والديمقراطية المتوجهة نحو الغرب من جهة، وأوكرانيا الانفصالية المنتمية إلى روسيا الاستبدادية في الجهة الأخرى. وبطبيعة الحال، فإن هذا الموقف يتناسب تماماً مع بعض خطط الكرملين.
لكن الوضع الحالي قد يخرج عن السيطرة
يبدو أن التعزيزات العسكرية الأخيرة لروسيا، كان بعض أسبابها على الأقل هو الاستفزازات (أو الاستفزازات المتصورة) الغربية، مثل وجود السفن الأمريكية في البحر الأسود، والتأخيرات العديدة لخط أنابيب نورد ستريم 2 الذي يُفترض أن ينقل الغاز من روسيا إلى أوروبا دون عبور أوكرانيا بسبب المعارضة الأمريكية والأوروبية. وربما كان الهدف الأساسي لبوتين هو إجبار بايدن على الحوار معه وردع توسع الناتو.
كل ذلك لا يعني أن المرء يمكنه أن يتجاهل الاحتمالات القائمة بانحدار الأمور إلى المواجهة نتيجة تصعيد عرضي أو تحرك متهور من بوتين لإجبار أوكرانيا بأكملها على العودة إلى فلك روسيا. لكن ذلك ينطوي على سبب آخر للقلق وهو أن يستمر الصراع الحالي منخفض المستوى إلى ما لا نهاية، وأن تصبح المخاوف العرضية، مثل التي نشهدها حالياً، نمطاً ثابتاً للوضع المتأزم في أوكرانيا.
في الوقت الحالي، يعتقد كثير من المقيمين في المنطقة أنه من غير المرجح أن يتغير الوضع القائم.