رغم زوال الخطر عن عاصمة إثيوبيا أديس أبابا مؤقتاً واستعادة الجيش بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد مناطق وبلدات عديدة على الطريق المؤدي إلى تيغراي، كان متمردو التيغراي قد سيطروا عليها، لا يزال بندول الحرب يتأرجح في الحرب الأهلية الإثيوبية بشدة بين الطرفين، في ظل غرق المدن المتنازع عليها ببحر من الدمار، وتعالي موجات النزوح.
معارك الكر والفر بين جيش آبي أحمد وقوات التيغراي
بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب العام الماضي، استولت قوات آبي أحمد على ميكيلي، عاصمة تيغري، وأعلن حينها رئيس الوزراء النصر، لكنه كان نصراً وهمياً. فقد كانت قوات التيغراي قد توارت في الجبال. وفي يونيو/حزيران الماضي عادوا ودحروا الجيش الإثيوبي، وبحلول أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، تقدموا إلى مسافة 160 كيلومتراً تجاه العاصمة الإثيوبية، وبدا أنهم عازمون على اقتحامها بعدما تحالفوا مع جماعات متمردة عديدة أبرزها جيش تحرير أورومو، فيما قامت السفارات الأجنبية بإجلاء الموظفين وحثت المواطنين على حزم حقائبهم.
كان هذا القدر الذي وصلت إليه جبهة التحرير الشعبية لتحرير تيغراي قبل أن يتأرجح البندول لصالح قوات آبي أحمد، التي ردت في الأسابيع الماضية الهجوم، واستعادت البلدات واحدة تلو الأخرى بما في ذلك ديسي وكومبولتشا، وهي معاقل المعارضة على الطريق المؤدية إلى تيغراي، بالإضافة مدن جاشينا ولاليبيلا الاستراتيجيتين.
كما طردت قوات آبي أحمد قوات المتمردين من محيط منطقة عفار، وهي منطقة شرقية تضم روابط طرق وسكك حديدية مهمة بين أديس أبابا والميناء في جيبوتي المجاورة. وفي شبه تكرار لإعلانه السابق، أخبر رئيس الوزراء الإثيوبي العديد من القادة الأفارقة بأن الحرب قد انتهت.
لكن مجدداً، يبدو أن هذا الأمر سابق لأوانه، كما يقول تقرير لمجلة Economist البريطانية، إذ لا تزال الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي
تحاول الوقوف والقتال، فرغم تقدم آبي أحمد الأخير فإن قوات المعارضة تكبدت خسائر في أماكن قليلة فقط مثل غاشينا. وفي أماكن أخرى، عادت قواتها إلى تكتيكات حرب العصابات كالتي قادتها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في الثمانينيات عندما أطاحت بالحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية.
وبعد أن تحافظ قوات التيغراي وحلفاؤها على قواتهم، قد يكونون قادرين على إلحاق أضرار جسيمة بالقوات الإثيوبية إذا تقدمت عبر الوديان الضيقة والممرات الجبلية على الطريق المؤدي إلى ميكيلي، ولا تزال هذه القوات تبدو قادرة على الرد السريع مثلما فعلت في استعادة غاشينا وليبيلا يوم الأحد 12 ديسمبر/كانون الأول 2021، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية.
معركة "عض أصابع" بين التيغراي والقوات الفيدرالية
لكن مع ذلك، فإن المتمردين ما زالوا في موقف ضعيف، فالبرغم من تقدمهم نحو أمهرة وعفر وبناء قوتهم بالوقود والطعام والأسلحة التي تم الاستيلاء عليها، فشلت جبهة تحرير تيغراي في كسر الحصار الذي تفرضه الحكومة على تيغراي، التي لم تتلق منذ يوليو سوى 10% من الغذاء اللازم لمنع المجاعة.
ومع تعرض الملايين لخطر الجوع، لا تستطيع القوات المتمردة تحمل المزيد من الحصار. ويعتقد رينيه ليفورت، الباحث الفرنسي الذي يعرف بعض قادة التيغراي منذ عقود، أن "الجبهة الشعبية لتحرير تيغري لا يمكنها الاستمرار في الحرب إذا لم تجد ممراً سريعاً إلى السودان أو جيبوتي المجاورين".
في غضون ذلك، توسع القوات الفيدرالية تفوقها العددي على المتمردين، الذين يشكلون حوالي 7% فقط من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 115 مليون نسمة. قبل استعادتها في 13 كانون الأول/ديسمبر، امتلأت شوارع مدينة غاشنة بمزيج من الجنود الفيدراليين وميليشيات الأمهرة والقوات شبه العسكرية، وآلاف من مقاتلي الأمهرة المتطوعين المعروفين باسم "فانو"، والذين تضخمت صفوفهم بسبب نداءات آبي أحمد المتكررة لحمل السلاح، حيث ارتفعت معنوياتهم بالفعل عندما توجه آبي أحمد إلى الجبهة قائلاً إنه سيقود المعركة بنفسه.
الطائرات بدون طيّار تغيّر سير المعارك
ورغم أن بعض رجال الميليشيات ليسوا مسلحين بشكل جيد ويرتدون الصنادل البلاستيكية وقمصان كرة القدم، وهو ما قد يكون السبب في أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغري قد قللت من شأنهم، إلا أنهم بعد عام من القتال، أصبحوا نواة قوية من المقاتلين يقفون على قدم المساواة مع ميليشيات التيغراي، ويعتمد عليهم آبي أحمد بشكل كبير.
كما يزداد الجيش الإثيوبي قوة مع إعادة تسليح نفسه بأسلحة حديثة. منذ يوليو/تموز، ورد أن آبي أحمد اشترى طائرات بدون طيار جديدة ومعدات أخرى عالية التقنية من الإمارات وتركيا وإيران وإسرائيل والصين. ويبدو أن الضربات الجوية قد دمرت أسلحة تيغراي الثقيلة، لا سيما أن الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي انطلقت من الجبال نحو التضاريس الأكثر انكشافاً بالقرب من العاصمة. وحول ذلك، يقول مسؤول كبير في الحزب الحاكم لمجلة الإيكونومست: "لقد غيّرت الطائرات بدون طيار المعركة لصالحنا".
فيما يقول موقع شبكة BBC البريطانية، إن الانتكاسات التي واجهتها الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي كانت ضخمة بسبب ضربات الطائرات بدون طيار، حيث كان مقاتلوها يتواجدون حول بلدة ديبري بيرهان، على بعد حوالي 130 كيلومتراً من العاصمة أديس أبابا، قبل أن يجبروا على العودة لمسافة 400 كيلومتر إلى بلدة ويلديا، وهذا يعني أن المتمردين فقدوا بلدات رئيسية على الطريق السريع A2 الذي يربط معقلهم في التيغراي بالعاصمة أديس أبابا.
ويقول البروفيسور كيتيل ترونفول، أستاذ دراسات الصراع في كلية أوسلو الجامعية في النرويج، لموقع BBC، إنه بينما حشد آبي أحمد قواته على الأرض، لعبت الطائرات بدون طيار -التي تم الحصول عليها من الصين وتركيا- دوراً أكبر بكثير في إجبار قوات التيغراي على التراجع، ويضيف: "يُزعم أن طائرات Wing Loong II الصينية أثبتت قدرة عسكرية على إخراج الدبابات والمدفعية الثقيلة عن الخدمة، عبر إلقاء القنابل على قوات التيغراي في الأراضي المفتوحة".
تبعات التدخل الأجنبي في الحرب الإثيوبية
أخيراً، تلوح في الأفق أخطار عديدة مع استمرار سير المعارك والأخذ والرد بين المتمردين والقوات الحكومية، أحدها هو ما يسميه أليكس روندوس، المبعوث الخاص السابق للاتحاد الأوروبي إلى القرن الإفريقي، "سرينة" حرب إثيوبيا -في إشارة إلى الحرب السورية- حيث يتدخل عدد متزايد من القوى الأجنبية فيها. إذ تدعم إيران والإمارات حكومة آبي أحمد، رغم أنهما يكرهان بعضهما البعض. في المقابل، يطلب التيغراي المساعدة من السودان ومصر، اللذين يخاصمان آبي في أزمة سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على النيل. وإذا كانت الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي ستضرب غرباً لفتح طريق إمداد إلى السودان، فقد يؤدي ذلك إلى جذب القوات السودانية وإشعال حرب حدودية مشتعلة بالفعل بين السودان وإثيوبيا.
والخطر الأكثر إلحاحاً هو أن آبي أحمد مقتنع بأن النصر وشيكٌ أو أنه انتصر بالفعل، وسيقرر الدفع مرة أخرى بالحرب نحو التيغراي بدلاً من بدء المحادثات. يقول أحد مسؤولي الحزب الحاكم لمجلة الإيكونومست: "لا نعتقد أنه من الحكمة الذهاب إلى التيغراي حتى لو استطعنا ذلك.. هناك إدراك عام أننا بحاجة إلى خطة سلام ما". لكن الكثيرين في أمهرة، على وجه الخصوص، يعتقدون خلاف ذلك. حذر أحد قادة فانو في جاشينا بأنه "إذا تفاوضت الحكومة المركزية مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، فإنها ستقاتل على الفور ضد بقية إثيوبيا". أما بالنسبة للجبهة الشعبية فإن هدفها المتمثل في إزاحة آبي أحمد لم يتغير. وطالما يعتقد الطرفان أنهما سيكسبان من القتال أكثر من الحديث، فإن بؤس إثيوبيا سيستمر لوقت أطول مما نعتقد.