يبدو أن إلغاء الصين سياسة الطفل الواحد لمواطنيها لم ينجح في تشجيعهم على الإنجاب، فلجأت بكين مؤخراً إلى إجراءات عقابية بحق من يرفض الإنجاب سواء إجهاضاً أو قطعاً للقناة الدافقة، فهل تنجح العصا حيث فشلت الجزرة؟
كانت قصة سيطرة الصين على سياسة الإنجاب في البلاد قد بدأت في عام 1980، حين فرضت السلطات سياسة الطفل الواحد، كجزء من برنامج شامل للسيطرة على زيادة المواليد، وفرضت إجراءات صارمة شملت عقوبات على المخالفين، وصلت إلى حد إجراء عمليات إجهاض قسرية.
لكن بعد عقود من تلك السياسة، ظهرت أضرارها الكارثية واختل التوازن السكاني بصورة خطيرة، فقررت بكين تخفيف السياسة الإنجابية وسمحت بالطفل الثاني، لكن ذلك لم يكن كافياً، فقررت السماح بالطفل الثالث، منذ مايو/أيار 2021، واستخدمت وسائل تشجيعية لحث الشباب على الزواج والإنجاب.
تشجيع بكين مواطنيها على الإنجاب جاء بعد انخفاض كبير في المواليد في أكثر دول العالم سكاناً، حيث يبلغ تعداد الصين نحو 1.48 مليار نسمة. ويهدف القرار "إلى تحسين التركيبة السكانية في الصين، والاستجابة بفاعلية لمشكلة الشيخوخة في البلاد"، حسبما ذكرت وسائل الإعلام الحكومية.
حملة تستهدف زيادة المواليد في الصين
لكن يبدو أن الإجراءات التشجيعية لم تفلح في إقناع الشباب بالزواج والإنجاب، فبدأت الصين تلجأ إلى إجراءات عقابية لتحقيق نفس الهدف، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية، رصد تضييق بكين الخناق على عمليات قطع القناة الدافقة، في إطار حملتها التي تستهدف زيادة المواليد.
فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، أجبرت السلطات الصينية الرجال والنساء على الخضوع لعمليات تعقيم من أجل السيطرة على النمو السكاني، والآن بينما تحاول الحكومة عكس مسار انحدار معدلات المواليد، الذي تخشى من أنه قد يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصاد، ترفض المستشفيات استقبال الرجال الذين يريدون الخضوع لعملية قطع القناة الدافقة، وهو إجراء جراحي لتعقيم الذكور.
عانت تزاو زيوان من إجهاض مرتين، قبل أن تنجب ابنها في العام الماضي، لتصير أماً لأول مرة في حياتها التي تعيشها في مدينة جينان الصينية. انتهى المخاض الذي استمر لسبع ساعات بعملية ولادة قيصرية طارئة.
وقررت الأم البالغة من العمر 32 عاماً، بالتشاور مع زوجها أن يكتفيا بطفلٍ واحدٍ، بعد أن أرهقتهما رعاية الطفل؛ ولذا في شهر أبريل/نيسان الماضي، بدآ في الاستفسار عن عمليات قطع القناة الدافقة، لكن مستشفيين رفضا قبول الطلب، أبلغ طبيبٌ زوجَ زيوان بأن العملية لم تعد متاحة بموجب قواعد تنظيم الأسرة الجديدة في البلاد.
قالت زيوان، التي تعمل في مجال النشر، للصحيفة الأمريكية: "كنت خائفة وغاضبة في نفس الوقت، ماذا إذا صرت حبلى بطريق الخطأ؟ لن يكون أمامنا خيار إلا إنجاب الطفل، سوف يصير العبء هائلاً للغاية".
وقال يانغ، مدير مستشفى في مدينة جينغتشو بمقاطعة هوبي الصينية: "إنها عملية جراحية بسيطة نظرياً، لكن المستشفيات الحكومية سوف ترفض استقبال المرضى دائماً، لأنها مدركة لمخاطر التورط في عمل شيء لا توافق عليه الحكومة بشكل صريح". وأضاف يانغ، الذي رفض ذكر اسمه بالكامل خوفاً من التعرض لعقوبة بسبب حديثه مع وسائل إعلام أجنبية: "السياسة الجوهرية هي أن الصين تحتاج إلى المزيد من المواليد".
هل تطبق الصين إجراءات أشد صرامة؟
سجلت الصين 8.5 مواليد لكل 1000 شخص في 2020، وهو أدنى مستوى خلال أكثر من 70 عاماً، وذلك بحسب البيانات الرسمية المنشورة في نوفمبر/تشرين الثاني. ويتنبأ اختصاصيو علم السكان بأن التعداد السكاني للصين سوف يبدأ في التراجع خلال سنوات قليلة، بالنظر إلى أنها تملك أدنى معدلات خصوبة في العالم تصل إلى 1.3 طفل لكل امرأة، أي أنها أقل من اليابان. بيد أن جهود كبح هذا الاتجاه فشلت لأن كثيراً من الأزواج الصينيين يختارون عدم إنجاب أطفال.
تقول قوانين تنظيم الأسرة الصينية إن الحقوق الإنجابية للمواطنين، بما في ذلك اختيار تحديد النسل، تخضع للحماية. فليس هناك حظر رسمي أو تقييد محدد على هذه العمليات، لكن المستشفيات والأطباء الذين يجرون عمليات قطع القناة الدافقة، أو عمليات ربط البوق والإجهاض بالنسبة للنساء، يجب أن يكونوا معتمدين من الهيئات الصحية على مستوى المقاطعة، ولم ترد اللجنة الوطنية للصحة على أسئلة أرسلتها واشنطن بوست إليها عبر الفاكس.
يكمن القلق الذي ينتاب بعض الأزواج في أن السلطات قد تتخذ منعطفاً أشد قسراً أو قد تتخذ تدابير تقييدية تُعادل السياسات التي اتُّخذت لإنفاذ سياسات الطفل الواحد. قالت الإرشادات التي أصدرها مجلس الوزراء، في سبتمبر/أيلول، إن الحكومات المحلية يجب عليها أن تحاول خفض أعداد عمليات الإجهاض التي تُجرى لـ"أسباب غير طبية".
وقال 12 مستشفى حكومياً تواصلت معها صحيفة The Washington Post، بما في ذلك المنشآت الصحية الموجودة في شنغهاي وبكين وغوانزو، إنها لم تعد تجري العملية. فيما قالت 6 مستشفيات إنها لا تزال تجري العملية، لكن مستشفى واحد قال إن العملية لم تعد متاحة للرجال غير المتزوجين.
وقال الأزواج والرجال العزاب الذين حاولوا إجراء العملية، إن الأطباء وأطقم المستشفيات رفضوا، وأخبروهم أنهم قد يندمون على القرار لاحقاً. وطلبت بعض هذه المستشفيات وثائق تثبت الزواج، وأدلة تثبت أن الأزواج أنجبوا أطفالاً بالفعل قبل الخضوع لهذه العملية.
أخفق تسو ميون، وهو محرر إعلانات يبلغ من العمر 23 عاماً، ويعيش في مدينة غوانزو، في محاولته إجراء عملية قطع القناة الدافقة هذا العام. فقد انتقل هو وخطيبته هان فيفي، وهي طالبة دراسات عليا في الإعلام، للعيش معاً، وأرادا المحافظة على نمط حياة يُطلق عليه DINK، أي دخل مزدوج بدون أطفال.
قال تسو لواشنطن بوست: "كلما أعرف أكثر عن عمليات قطع القناة الدافقة يتعزز شعوري بشأن قراري، نريد ممارسة الجنس بلا إنجاب أطفال". وذكر أن العملية تسبب مضاعفات للرجال أقل مما تسببه عمليات تعقيم الإناث.
رفض مستشفيان طلب تسو، وأخبره الأطباء بأنه لا يزال صغيراً للغاية على هذا القرار. قال تسو: "إنجاب طفل من عدمه هو قرارنا الذي نتخذه، وحقنا الأساسي. لا نحتاج إلى أي شخص ليخبرنا كيف نعيش".
قصة قطع القناة الدافقة في الصين
خلال عهد سياسة الطفل الواحد كانت عمليات قطع القناة الدافقة يُنظر إليها على أنها محظورة في الصين، لكنها كانت شائعة في بعض المقاطعات، مثل سيتشوان وخنان وشاندونغ، حيث دفع المسؤولون بكل قوة نحو إجراء هذه العملية.
ولما خففت الحكومة قواعد تنظيم الأسرة انخفض عدد عمليات قطع القناة الدافقة من 149,432 عملية في 2015، إلى 4,742 عملية في 2019، وفقاً للبيانات الرسمية. نفذت الصين سياسة طفلين بداية من 2016.
ويقول بعض العلماء الصينيين إن العملية الجراحية لم تُحظر، لكنها لا تحظى بتشجيع، ولا سيما بعد أن أعلنت السلطات، في مايو/أيار، أن جميع الأزواج يمكنهم إنجاب ثلاثة أطفال.
قالت شاومي صن، أستاذة الدراسات الجنسانية لدى جامعة نساء الصين في بكين: "مع سَن سياسة ثلاثة أطفال لدى الأطباء مخاوف جديدة طويلة المدى، إذ إن إجراء العملية على رجل في مجتمع ذي توجه أسري يعني حرمانهم من فرصة أن يكون لديهم أطفال وأحفاد، لا يريد أحد أن يُلام على هذا".
بعد الإعلان عن سياسة ثلاثة أطفال شعرت زيوان وزوجها بشعور شديد الإلحاح بوجوب خضوعه لعملية قطع القناة الدافقة، خوفاً من فرض السلطات مزيداً من القيود على الإجهاض أو وسائل منع الحمل.
زار جيانغ، الذي يعمل موظف خدمة عملاء في شركة إنترنت، ستة مستشفيات في مقاطعة فوجيان التي يعيش فيها، قبل العثور على مستشفى يمكنه إجراء العملية له، ويبعد 1200 ميل، ويوجد في مدينة تشنغدو بمقاطعة سيشوان. بعد إجراء العملية في مارس/آذار، نشر تفاصيل ومعلومات عن العيادة في منتدى على الإنترنت، لكنه عرف من مستخدم آخر أن المستشفى توقف عن إجراء العملية منذ ذلك الحين.
قال جيانغ، الذي لم يكشف عن اسمه بالكامل بسبب المخاوف الأمنية المتعلقة بانتقاد سياسة الحكومة: "شعرت أنني تخلصت أخيراً من عبء هائل، هؤلاء ممن حولي الذين تزوجوا وأنجبوا أطفالاً ليس لديهم أي شيء يجعلني أحسدهم عليه".
يعكس منع عمليات قطع القناة الدافقة وجهات نظر تقليدية بأن النساء يجب عليهن تحمل عبء تحديد النسل، عندما استفسر تسو ميون وخطيبته عن إجراء عملية قطع القناة الدافقة اقترح عليهم أحد الأطباء بأن خطيبته تستطيع استخدام اللولب الذي يوضع داخل الرحم.
وفي هذا المنحى، قالت يوي كيان، الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع بجامعة بريتيش كولومبيا، التي تركز على النوع الجنساني والديموغرافيا في الصين: "يعكس هذا تقليداً أبوياً ممتداً منذ عهد طويل، لا يوضع الرجال على الإطلاق في مركز الموضوعات المتعلقة بالزواج والأسرة والخصوبة وتحديد النسب".
ولعل ذلك الأمر آخذ في التغير، ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول، ظهر شخص مشهور على الإنترنت يدعى يوان فانغ، وهو معلم من مقاطعة جيجيانغ يعلق على موضوعات الأسرة والنوع الجنساني، ليصف تجربته مع إجراء عملية قطع القناة الدافقة، وذلك عبر موقع الفيديوهات Bilibili.
عثرت زيوان وزوجها أخيراً على طبيب في مستشفى حكومي صغير خارج مدينة جينان، يمكنه إجراء العملية، ولكن حتى على طاولة العمليات حاول الطبيب إثناء الزوج عن المضي قدماً في العملية.
تذكر زوج زيوان، الذي رفض ذكر اسمه الثاني بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية ما قاله للطبيب: "قلت له بالفعل إنني أريد فعل ذلك، إنني أفعله فعلياً"، وأضاف: "في نهاية المطاف نحن من يتوجب عليهم تربية طفل، وليست الحكومة".