تتأهب ليبيا لإجراء أول انتخابات رئاسية في تاريخها في 24 ديسمبر/كانون الأول، وتحاول الدولة العضو في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) طيَّ صفحة ما يقرب من عقد من الصراع الداخلي منذ إزاحة الرئيس معمر القذافي. وما يبدو ظاهراً أن القوى الأجنبية التي خاضت حرباً بالوكالة في البلاد تدعم تجربة الانتخابات الديمقراطية، ومع ذلك فإن مآل الأمور غير محسوم حتى الآن، فالنزاعات المريرة والانقسامات الجغرافية تُنذر باحتمالات عدم قبول المرشحين الخاسرين بالنتائج، وهو ما قد يدفع الميليشيات الليبية المتعارضة إلى حمل السلاح مرة أخرى والدخول بحرب جديدة وربما إيقاف إنتاج النفط.
لماذا تأخرت الانتخابات الليبية حتى هذا الوقت؟
تلاشى أي حضور لمؤسسات الدولة الليبية خلال 42 عاماً من سنوات الحكم الديكتاتوري للقذافي، ومن ثم تركت الإطاحة به فراغاً شَغَله عدد كبير من الجماعات المسلحة، كثير منها يستند إلى أساس الانتماءات القبلية القديمة. وفشلت الحكومات المتعاقبة في استعادة النظام أو وقف تدفق الأسلحة إلى البلاد.
وزاد على ذلك أن البلاد انقسمت بعد الانتخابات الوطنية التي أُجريت في عام 2014، حيث باتت حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في العاصمة طرابلس، في مواجهة الجنرال الانقلابي خليفة حفتر وميليشياته التي أطلق عليها اسم "الجيش الوطني الليبي"، والذي حظي بدعم روسي وإماراتي وحتى فرنسي.
استطاع حفتر، خلال السنوات الماضية، تأمين قبضته على موارد نفطية رئيسية من خلال بسط قبضته في الشرق والجنوب قبل أن يتحرك إلى طرابلس في عام 2019 بدعم من عدة قوى خارجية. وفي المقابل، استندت حكومة الوفاق الوطني على تركيا للنصر بهذه المعركة، واضطر رجال حفتر إلى الانسحاب بعد معارك خلَّفت أكثر من 2000 قتيل وعشرات الآلاف من النازحين. وقد أُعلن وقف إطلاق النار في أغسطس/آب 2020.
وأدَّت سنوات الاضطرابات وغياب حكومة فعَّالة إلى استنزاف البنية التحتية للطاقة في ليبيا. أغلقت الجماعات المسلحة موانئ البلاد لعدة أشهر أكثر من مرة، ما حرم البلاد من عائدات بمليارات الدولارات من تصدير النفط. وأثار الانقطاع الدوري للتيار الكهربائي في أشهر الصيف الحارة احتجاجات عدة في جميع أنحاء البلاد.
وقالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في نوفمبر/تشرين الثاني إن نحو 200 ألف ليبي نزحوا داخلياً، ويُعتقد أن كثيرين غيرهم فروا إلى تونس المجاورة ودولٍ أخرى، وإن كانت التقديرات الموثوقة قليلة. ومنذ أن هدأ القتال، ارتفع إنتاج النفط إلى نحو 1.3 مليون برميل يومياً، مقارنة بنحو 1.6 مليون برميل يومياً قبل انتفاضة 2011 التي أزاحت القذافي.
ما سر إصرار الحكومات الغربية على إجراء الانتخابات في ليبيا؟
يصر الغرب، وخصوصاً فرنسا التي استضافت مؤخراً مؤتمراً في باريس حول أهمية إجراء الانتخابات الليبية، على تأكيد مكانته كطرفٍ كبير في مستقبل ليبيا، بدلاً من التطرّق إلى المواقف العنيدة لمختلف الأطراف الليبية، ومعالجة القضايا العالقة التي تُهدّد بتفكيك العملية السياسية القائمة وإغراق البلاد في فترةٍ أخرى من الفوضى.
وتقول مجلة Foreign Policy الأمريكية إنه من المذهل كيف أنّ المؤتمر الفرنسي الذي تجاهل القضايا الأساسية -مثل ترشح سيف الإسلام القذافي، والجنرال المتقاعد خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح للرئاسة- يرى أنه المسؤول عن إرساء دعائم الانتقال الديمقراطي في ليبيا.
لكن مؤتمر باريس سلّط الضوء على أحد العوامل الرئيسية المسؤولة منذ وقتٍ طويل عن تقويض الدبلوماسية متعددة الجوانب بقيادة الأمم المتحدة: الاعتقاد الراسخ بأنّ إقامة انتخابات ستكون دواء كل داء وأنّها هدفٌ في حدّ ذاتها، بدلاً من أن تكون وسيلة لخلق الأوضاع اللازمة من أجل تحوّلٍ سلس ومنظم.
في السياق، تقول وكالة Bloomberg الأمريكية إن شركات، من بينها "توتال إنرجي" TotalEnergies SE الفرنسية و"إيني" Eni SpA الإيطالية و"شل" Royal Dutch Shell متعددة الجنسيات، تدرس استثمار مليارات الدولارات لاستغلال احتياطيات ليبيا الضخمة من النفط والغاز الطبيعي، فضلاً عن الاستفادة من إمكاناتها فيما يتعلق بتوليد الطاقة الشمسية. كما أن قرب البلاد من أوروبا يجعلها أشد جاذبية لهم بين الدول المصدرة للطاقة، واستقرار الوضع السياسي في ليبيا وصعود صديق لها يسهل هذه الاستثمارات.
مَن يدعم مَن في هذه الانتخابات؟
تقول بلومبيرغ إن مصر والإمارات ومن خلفهما فرنسا، دعمت انقلاب حفتر على حكومة طرابلس تحت شعار "إنهاء الجماعات الإسلامية" وخصوصاً تيار الإخوان المسلمين الموجود بالحكومة الشرعية، وبالتالي هم يدعمونه في هذه الانتخابات. أمَّا تركيا، فوجدت مصلحتها في الاصطفاف مع حكومة الوفاق الوطني الأقرب فكرياً وسياسياً لها، وبالتالي فهي تدعم فوز شخصية من طرابلس.
فيما دخلت روسيا على الخط التي دعمت حفتر أيضاً بمرتزقة فاغنر وأسلحة خلال السنوات الماضية، إذ تسعى الآن لترويج تولِّي سيف الإسلام القذافي رئاسة البلاد في المستقبل، وكان التدخل الروسي في السنوات الماضية دافعاً وراء ضغط الولايات المتحدة بقوة أكبر للوصول إلى اتفاق سلام.
كيف جاء التوصُّل إلى خطة الانتخابات؟
بعد شهرين من إعلان وقف إطلاق النار في أغسطس/آب 2020، وقَّع الخصوم على هدنة رسمية برعاية الأمم المتحدة في جنيف. وفي فبراير/شباط 2021، رشَّح المندوبون الليبيون هيئة تنفيذية وطنية مؤقتة لقيادة البلاد قيادةً موحدة حتى إجراء انتخابات رئاسية. واختاروا عن شرق ليبيا محمد المنيفي لرئاسة المجلس الرئاسي الليبي الجديد المكون من ثلاثة أشخاص، ومن مدينة مصراتة الساحلية، عبد الحميد الدبيبة، رئيساً للوزراء.
وتقدم قرابة 100 شخص بأوراق ترشحهم، وإن رفضت سلطات الانتخابات أوراق نحو عشرين منهم وواجه آخرون عقبات قانونية. ومع غياب الثقة حتى الآن فيما يتعلق بإمكانية إجراء اقتراع موثوق به، يُعتقد عموماً أن أبرز المرشحين المتنافسين هم:
- خليفة حفتر: وُلد في عام 1943، حاول الانقلاب على القذافي وأمضى سنوات في المنفى قبل أن يعود إلى الساحة أثناء الثورة. وقد يحصل على دعم قوي في الشرق، لكن من الصعوبة بمكان أن يحصد الأصوات في الغرب، نظراً للجرائم التي ارتكبها في المعركة ضد حكومة طرابلس.
- سيف الإسلام القذافي: نجل القذافي البالغ من العمر 49 عاماً والمستشار السابق للديكتاتور الليبي، وقد ظل بعيداً عن الأنظار لسنوات، واحتجزته الميليشيات بعض الوقت، وهو مطلوب للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولا يزال القذاذفة يتمتعون بالدعم في الجنوب. وقد يحصل سيف الإسلام على دعم من المواطنين الذين يشعرون بالحنين إلى الاستقرار النسبي لحكم والده، لكن من المستبعد أن يفوق ذلك مشاعر السخط ضده بين كثيرين من أهل البلاد الذين عانوا.
- عبد الحميد الدبيبة: بنى رئيس الوزراء الحالي لنفسه صورةَ رجل الدولة خلال فترة وجيزة له في منصبه. وكان رجل الأعمال الثري رئيساً لشركة إنشاءات مملوكة للدولة ولديه خبرة تكنوقراطية أكثر من منافسيه الآخرين.
- فتحي باشاغا: وزير الداخلية الأسبق وشخصية رئيسية في حكومة طرابلس عندما كانت البلاد مقسمة بين الشرق والغرب. ويستطيع باشاغا التعويل على دعم كبير له في مصراتة والعاصمة طرابلس.
هل تنجح الانتخابات أم يتم تأجيلها أم تذهب البلاد إلى الحرب مجدداً؟
أحد العوامل الحاسمة في التوصل إلى اتفاق الانتخابات هو أن القوى الأجنبية، التي أفضى تدخلها إلى إطالة أمد الصراع، أزاحت جانباً خلافاتها العامة. وقد أوفت مصر والإمارات وتركيا حتى الآن بتعهداتها فيما يتعلق بدعم حكومة الدبيبة المؤقتة. ومع ذلك، قال مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، يان كوبيش، لمجلس الأمن في نوفمبر/تشرين الثاني إن المناخ السياسي لا يزال "شديد الاستقطاب"، فالخلافات المستمرة حول شرعية مختلف المرشحين، وحتى شرعية الانتخابات نفسها، يمكن أن تؤدي إلى تجدد القتال. وإذا لم يحصل أي مرشح على أكثر من 50% من الأصوات، تظل البلاد في حالة توتر حتى منتصف فبراير/شباط عندما تحسم جولة الإعادة الفائز.
ويخشى الآن من احتمالية تكرار الفترة التي أعقبت انتخابات عام 2014 في حال خسر عقيلة صالح وخليفة حفتر. فمنذ انتخابات يونيو/حزيران 2014، وقف كلاهما في وجه كل الجهود الدولية التي تستهدف الوصول بليبيا إلى بر الاستقرار والسلام؛ حيث دبّر حفتر انقلاباً عسكرياً ضد الحكومة المعترف بها دولياً، بينما رفض صالح الامتثال للاتفاق السياسي الليبي الذي توسّطت فيه الأمم المتحدة عام 2015 ووقَّع عليه هو بنفسه.
وعلى الأمم المتحدة أن تطرح السؤال التالي: ما الهدف من إقامة العديد من المؤتمرات الدولية إذا لم تُطبّق قراراتها بشكلٍ كامل؟ وأين مصداقية الأمم المتحدة إذا سمحت لأطرافٍ سيئة السمعة بالمشاركة في العملية السياسية التي شاركوا في تخريبها، وإذا ظلّت قرارات مجلس الأمن مجرّد حبرٍ على ورق؟
والإجابة بحسب "فورين بوليسي" بسيطةٌ للغاية: في غياب التحرك القوي لتحجيم تلك الشخصيات الإشكالية، فإنّ الدعوات لـ"انتخابات حرة وديمقراطية" وسط المناخ السائد في ليبيا ستُؤدي ببساطة إلى فترةٍ مُطوّلة من عدم الاستقرار والفوضى بعد انقضاء الانتخابات. وبدلاً من أن يكون عقد الانتخابات هو محور عملية صنع السلام في ليبيا، كان على الأمم المتحدة والقوى الكبرى أن تتحلى بالشجاعة والقيادة الكافيتين لتسمية الأشياء بأسمائها.
وكان يُفترض أن يبدأ النقاش الواقعي حول مستقبل ليبيا بضمان امتثال كافة الدول الأجنبية ووكلائها لبنود اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2020 وقرارات الأمم المتحدة رقم 2570 و2571 من أبريل/نيسان العام الجاري.
لكن بعد فشل الأمم المتحدة في فرض شروطها على الأطراف الداخلية والإقليمية التي رحّبت بالقرارات ثم تجاهلتها، بات يتعيّن على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التدخل وفرض عقوبات كبيرة على الأطراف الليبية مع التهديد بتعليق التعاون العسكري والأمني مع الأطراف الأجنبية.