يبدو أن إدارة جو بايدن تميل إلى الحلول الوسط في إدارة صراع أمريكا مع الصين، إذ من المتوقع أن تقاطع واشنطن أولمبياد بكين دبلوماسياً فقط، فماذا يعني هذا القرار؟
الألعاب الأولمبية هي أضخم حدث رياضي عالمي على الإطلاق، وتقام كل أربع سنوات في ضيافة إحدى المدن، لذلك تسمى باسم المدينة وليس الدولة فيقال "أولمبياد بكين"، على سبيل المثال. وأقيمت الألعاب الأولمبية الصيفية لأول مرة، بالعصر الحديث عام 1896، في ضيافة أثينا عاصمة اليونان.
وستقام الألعاب الأولمبية الشتوية القادمة ببكين في الفترة من 4 إلى 20 فبراير/ شباط 2022، وتليها أيضاً الألعاب الأولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة في مارس/آذار المقبل. وستكون العاصمة الصينية بكين أول مدينة في العالم تستضيف الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية، بعد أولمبياد بكين 2008.
مقاطعة الألعاب الأولمبية والحرب الباردة
على الرغم من أن الهدف الرئيسي أو بمعنى أدق، شعار الألعاب الأولمبية هو السلام والتقريب بين شعوب العالم، فإن الألعاب الأولمبية تحديداً استُخدمت في مناسبات عديدة كسلاح سياسي، عنوانه "المقاطعة".
واستخدم سلاح مقاطعة الألعاب الأولمبية بصورة مكثفة خلال حقبة الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق من جهة والمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا استضافت مدينة تنتمي لمعسكر منهما قاطعتها الدول التي تنتمي للمعسكر الآخر في بعض الأحيان.
فأولمبياد موسكو 1980 شهد مقاطعة الولايات المتحدة وحلفائها ومعهم أيضاً الدول الإسلامية؛ اعتراضاً على الغزو السوفييتي لأفغانستان، لتشارك في ذلك الأولمبياد 60 دولة فقط، وكان ذلك العدد هو الأقل من الدول المشاركة في الحدث الرياضي الأضخم منذ أولمبياد ملبورن 1956 (أستراليا).
وكانت الصين من الدول التي قاطعت أولمبياد ملبورن بأستراليا عام 1956؛ اعتراضاً على مشاركة تايوان كدولة مستقلة، وظلت الصين على موقفها الرافض تماماً المشاركة في الألعاب الأولمبية، بسبب مشاركة تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، حتى عادت للمشاركة في أولمبياد لوس أنجلوس 1984، بعد الاعتراف باللجنة الأولمبية الصينية كممثل وحيد للصين.
وكانت تلك الدورة من الألعاب الأولمبية (لوس أنجلوس 1984) هي آخر الدورات التي تشهد مقاطعة واسعة، إذ قاطعتها دول المعسكر الشرقي السوفييتي رداً على مقاطعة أولمبياد موسكو 1984 من جانب دول المعسكر الغربي.
وعلى الرغم من أن أولمبياد سيول 1988 (كوريا الجنوبية) قد شهد دعوات وجهتها كوريا الشمالية للدول الشيوعية لمقاطعة تلك الدورة من الألعاب الأولمبية، إلا أن تلك الدعوات لم تجد استجابة تقريباً وشاركت 160 دولة في أولمبياد سيول، الذي يعتبر من أفضل الدورات الأولمبية وأكثرها نجاحاً في القرن العشرين.
ماذا تعني المقاطعة الدبلوماسية؟
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه عام 1990 وإعادة توحيد ألمانيا، انتهت الحرب الباردة وأصبحت إقامة الألعاب الأولمبية خالية أو تكاد من المقاطعات التي صاحبت إقامتها منذ 1896. واستضافت بكين دورة الألعاب الأولمبية 2008 وكانت واحدة من أكثر الألعاب الأولمبية إبهاراً ومشاركة وتحطيماً للأرقام القياسية.
لكن سلاح المقاطعة بدأ مؤخراً يطل برأسه من جديد، وهذا أمر طبيعي فالعالم عاد مرة أخرى ليعيش أجواء الحرب الباردة، وإن كانت مختلفة حيث لا يوجد معسكر شرقي وآخر غربي، بل يتركز الصراع بالأساس بين الولايات المتحدة والصين.
ومع استعداد بكين للألعاب الأولمبية الشتوية، بدأ الحديث يتصاعد بشأن مناقشات بين الزعماء الغربيين لاتخاذ قرار بمقاطعة تلك الدورة على خلفية انتهاكات الصين بحق مسلمي الإيغور، والتي تصنفها بعض المنظمات الحقوقية الغربية بأنها إبادة جماعية، وانتهاكات حقوق الإنسان بحق أقليات أخرى، إضافة إلى التهديدات الصينية بغزو تايوان.
ومع اقتراب موعد الألعاب وزيادة الضغوط من جانب المشرعين الأمريكيين وجماعات حقوق الإنسان وبعض الحلفاء أيضاً، يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد يتخذ قرار المقاطعة الدبلوماسية بشأن أولمبياد بكين، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
والمقصود بالمقاطعة الدبلوماسية هو عدم حضور أي مسؤول سياسي حفل الافتتاح أو الختام، أو المشاركة في أي فعاليات خلال الألعاب الأولمبية، دون أن يؤثر ذلك على مشاركة الفرق واللاعبين الرياضيين في المسابقات التي تأهلوا للمنافسة فيها. بمعنى أن الرياضيين الأمريكيين سوف يسافرون إلى بكين ويشاركون في الألعاب الأولمبية بشكل طبيعي.
وتختلف هذه المقاطعة الدبلوماسية بالطبع عن المقاطعة السياسية، التي تكون شاملة وتمنع الرياضيين من المشاركة. فعلى سبيل المثال، عندما رفض الرياضيون الأمريكيون قرار الإدارة مقاطعة أولمبياد موسكو 1980، وشاركوا كأفراد تحت العلم الأولمبي، قررت واشنطن تجريدهم من الجنسية الأمريكية.
وقالت مصادر متعددة للشبكة الأمريكية إن أولمبياد بكين 2022 لن يشهد مشاركة أي مسؤول أمريكي، فيما يعرف بالمقاطعة الدبلوماسية، التي ترسل من خلالها واشنطن رسالة إلى المسرح السياسي الدولي دون أن تمنع رياضييها من التنافس في الألعاب.
وكان بايدن قد أخبر الصحفيين الشهر الماضي، بأنه يدرس بالفعل اتخاذ قرار المقاطعة الدبلوماسية لأولمبياد بكين، حيث إن هذا ما يريده المشرعون الجمهوريون والديمقراطيون أيضاً ومنهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي؛ للتعبير عن الاعتراض على انتهاكات الصين لحقوق الإنسان بشأن الأقليات لديها، خاصةً مسلمي الإيغور.
وكان موقع Responsible Statecraft الأمريكي قد نشر تقريراً بعنوان: "بايدن لا يمكنه تجاهل الإبادة الجماعية للإيغور في شينجيانغ"، رصد ما يتعرض له الإيغور من ممارسات قمعية ترقى للإبادة الجماعية، وكيف يمكن لإدارة بايدن التعامل مع تلك الكارثة دون الدخول في صدام مع الصين.
فبحسب كثير من القانونيين والحقوقيين، ترقى الممارسات القمعية التي تنتهجها الصين بحق مسلمي الإيغور إلى "الإبادة الجماعية"، فمنذ عام 2017، يُحتجز أكثر من 1.8 مليون مسلم من الإيغور في معسكرات إعادة التأهيل بمنطقة شينجيانغ الإيغورية ذاتية الحكم في الصين. ويتعرض هؤلاء خلال سجنهم لحملات من التضييق وغسل المخ والضرب، لمجرد ممارستهم شعائر دينهم الإسلام، أو إبداء نوعٍ من المعارضة المعتدلة، أو التواصل مع الإيغور الذين يعيشون في الخارج.
ماذا يعني قرار إدارة بايدن؟
بحسب تقرير CNN، من المتوقع أن تعلن إدارة جو بايدن عن قرار المقاطعة الدبلوماسية لأولمبياد بكين خلال الأسبوع الجاري، لكن فريق الأمن القومي في البيت الأبيض رفض التعليق على الأمر.
وعلى الأرجح، بحسب محللين ومراقبين، فإن قرار المقاطعة الدبلوماسية– في حال اتخذه بايدن بالفعل- لن يرضي أياً من الأطراف على الأرجح. فالمنظمات الحقوقية التي تنتقد الصين بشأن سجلها السيئ في انتهاكات حقوق الإنسان، وبصفة خاصة تجاه الإيغور، تريد قراراً حاسماً بالمقاطعة الشاملة لأولمبياد بكين، لتكون الرسالة قوية ولها تأثير.
ويتفق المشرعون الجمهوريون في الكونغرس مع مطلب المقاطعة الشاملة أيضاً، لكن سببهم الرئيسي هو التهديدات الصينية تجاه تايوان، ويريدون من الرئيس الديمقراطي أن يبدي مزيداً من الحسم في مواجهة بكين، وبالتالي على الأرجح لن يُرضيهم قرار المقاطعة الدبلوماسية لأولمبياد بكين الشتوية.
لكن على أية حال، يرى المدافعون عن البيت الأبيض أن المقاطعة الشاملة ستحوّل العلاقة مع الصين إلى صراع مفتوح على الأرجح، وهو ما يسعى جو بايدن لتجنُّبه قدر المستطاع، خصوصاً أن الملفات الكبرى التي يهتم بها الرئيس الأمريكي مرتبطة بالصين بشكل مباشر.
فالتعافي الاقتصادي وحل مشاكل سلاسل التوريد وتقليل التضخم والتعامل مع التغير المناخي وتداعياته الكارثية، كلها ملفات لا يمكن أن تحقق فيها الولايات المتحدة الأمريكية تقدماً يُذكر دون تعاون الصين، وبالتالي من المهم إدارة المنافسة بين القوتين الأكبر عالمياً والحيلولة دون تحولها إلى صراع مفتوح.
وكان شي وبايدن، خلال قمتهما الافتراضية، قد أكدا مسؤوليتهما تجاه العالم لتجنب الصراع، إذ قال بايدن في بداية المحادثات: "يبدو لي أن مسؤوليتنا كزعيمين للصين والولايات المتحدة هي ضمان ألا تنحرف المنافسة بين بلدينا إلى مسار الصراع، سواء بقصد أو عن غير قصد… مجرد منافسة بسيطة ونزيهة".
وقال شي: "باعتبارهما أكبر اقتصادين في العالم وعضوين دائمين بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تحتاج كل من الصين والولايات المتحدة إلى زيادة التواصل والتعاون".
وبالتالي فإن المقاطعة الدبلوماسية للألعاب الأولمبية في بكين العام المقبل، من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، خصوصاً بريطانيا، قد لا تتسبب في تحوُّل المنافسة إلى صراع مفتوح بالفعل، لكن هذا يتوقف على رد فعل الصين تجاه القرار ومدى رغبة الرئيس الصيني شي جين بينغ، في التصعيد، بحسب محللين.