"أنا لا أقبل خطوطاً حمراء من أحد"، عبارة وجَّهها جو بايدن، بشكل غير مباشر، لفلاديمير بوتين قبيل لقائهما الافتراضي بشأن الحشود الروسية لغزو أوكرانيا، لتعيد إلى الأذهان قصة وعد لموسكو لم تلتزم به واشنطن ولا حلف الناتو.
فوسط تقارير استخباراتية أمريكية تؤكد أن روسيا تستعد لغزو أوكرانيا خلال أسابيع، يجري الرئيس الأمريكي جو بايدن اتصالاً عبر الفيديو مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الثلاثاء 7 ديسمبر/كانون الأول، سيكون محوره الرئيسي الوضع المتوتر في أوكرانيا.
والأسبوع الماضي، كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد حذر نظيره الروسي سيرجي لافروف من أن روسيا ستواجه "عواقب وخيمة وثمناً باهظاً" من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إذا قامت بعمل هجومي آخر ضد أوكرانيا.
والمقصود بعمل هجومي آخر يبدو أنه إشارة إلى قيام روسيا عام 2014 باحتلال وضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية، مما عرض موسكو لعقوبات أمريكية وأوروبية لا يزال بعضها سارياً.
والآن حشدت روسيا، بحسب تقارير لم تنفها موسكو أو تؤكدها، عشرات الآلاف من جنودها قرب الحدود الأوكرانية في منطقة دونباس، وتقول تقارير استخباراتية أمريكية وغربية إن "الغزو الروسي" لأوكرانيا قد يبدأ بالفعل في أواخر يناير/كانون الثاني المقبل.
ما قصة خط بوتين الأحمر؟
وتشير تقارير إعلامية روسية إلى أن بوتين قد وضع "خطاً أحمر" يتعلق بإلغاء حلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة لأي خطط تشمل ضم أوكرانيا إلى الحلف، وسيسعى خلال قمته الافتراضية مع بايدن الحصول على وعد أمريكي بهذا المعنى.
وقالت جين ساكي المتحدثة باسم البيت الأبيض في بيان: "سيؤكد بايدن على المخاوف الأمريكية إزاء الأنشطة العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا، ويجدد التأكيد على دعم الولايات المتحدة لسيادة ووحدة أراضي أوكرانيا".
بينما قال الكرملين إن بايدن وبوتين سيناقشان أيضاً العلاقات الثنائية وتنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها خلال قمة الزعيمين في جنيف في يونيو/حزيران. ولم يتم الكشف عن التوقيت الدقيق للمكالمة.
وقالت السلطات الأوكرانية إن روسيا حشدت أكثر من 94 ألف جندي بالقرب من الحدود الأوكرانية، وذلك نقلاً عن تقارير للمخابرات تشير إلى أن موسكو ربما تستعد لهجوم عسكري واسع النطاق في نهاية يناير/كانون الثاني. وانتهى مسؤولون أمريكيون إلى استنتاجات مشابهة.
وكان بايدن قد قال في تصريحات للصحفيين يوم الجمعة: "نحن على دراية بتحركات روسيا منذ فترة طويلة، وأتوقع أننا سنجري نقاشاً طويلاً مع بوتين"، مضيفاً: "أنا لا أقبل خطوطاً حمراء من أحد"، بحسب رويترز، في رد غير مباشر على التقارير الروسية التي قالت إن بوتين سيطلع بايدن على "الخط الأحمر" بشأن أوكرانيا.
ومن جانبه قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إن واشنطن ملتزمة بضمان أن يكون لدى أوكرانيا ما تحتاجه لحماية أراضيها. وأضاف أن هناك مجالاً كبيراً أمام الدبلوماسية والقيادة للعب دور في قضية أوكرانيا.
وفي 1 سبتمبر/أيلول الماضي، التقى بايدن نظيرَه الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في البيت الأبيض، واستخدم بايدن كلمات ترميزية تشير بقوة إلى تجاوز الناتو لحدود جديدة عندما تعهد بـ"دعم تطلعات أوكرانيا الأوروبية الأطلسية" والتزام أمريكا الدعمَ لـ"اندماج أوكرانيا بالكامل في أوروبا"، ثم أعلن عن "حزمة مساعدات أمنية جديدة بقيمة 60 مليون دولار" بالإضافة إلى 400 مليون دولار من المساعدات الامنية التي قدمتها الولايات المتحدة بالفعل إلى أوكرانيا هذا العام.
"خط أحمر" روسي عمره 30 عاماً
ترجع قصة "الخطوط الحمراء" بين روسيا والولايات المتحدة إلى نهايات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق -الذي كان يتزعم حلف وارسو- والمعسكر الغربي وحلفه العسكري "الناتو" بزعامة الولايات المتحدة.
وتناول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي هذه القصة في تقرير عنوانه "بوتين يرسم خطاً أحمر جديداً لمنع الناتو من التوسع شرقاً إلى أوكرانيا"، إذ كشفت وثائق أمريكية وسوفيتية وأوروبية رُفعت عنها السرية مؤخرا أن وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، أكَّد للرئيس السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1990 أن الناتو لن يتوسع "بوصة واحدة" شرق ألمانيا، وآنذاك، كان هذا هو الخط الأحمر لروسيا.
لكن بعد ثلاثين عاماً، وفي 2 ديسمبر/كانون الأول 2021 الجاري، تحوَّل هذا الخط الأحمر من بوصة واحدة إلى نحو 965 كيلومتراً، بعد أن قال فلاديمير بوتين إنه يسعى الآن للحصول على وعد بأن الناتو لن يتوسع شرقاً إلى أوكرانيا.
إذ بعد التأكيدات الأمريكية لروسيا قبل أكثر من ثلاثة عقود، توسع حلف الناتو شرقا عبر المجر وجمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود وبولندا. وتبلغ تلك المسافة قرابة 965 كيلومتراً من التعهدات المكسورة أوصلت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى حدود أوكرانيا.
وبعد أن تراجعت روسيا 965 كيلومتراً عن الخط الأحمر لآخر قادة الاتحاد السوفيتي غورباتشوف، رسم بوتين خطاً أحمر جديداً في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، سعياً وراء "ضمانات أمنية موثوقة وطويلة الأجل"، وأن تقرَّ هذه الضمانات "التخلي عن أي تحركات أخرى لحلف شمال الأطلسي باتجاه الشرق أو نشر أسلحة تهددنا على مقربة من الأراضي الروسية".
بوتين يرسم خطاً أحمر بشأن أوكرانيا
يدرك بوتين جيداً أن الخط الأحمر قد انزاح شرقاً لمسافة 965 كيلومتراً، ففي "مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية" في عام 2007، سأل بوتين في خطاب موجه إلى العالم: "ماذا حدث للتعهدات التي قدمها شركاؤنا الغربيون بعد حلِّ حلف وارسو؟ أين تلك التصريحات اليوم؟ لا أحد يتذكرها حتى. لكن اسمحوا لي بأن أذكِّر الجمهور بما قيل آنذاك.
"وأود أن أقتبس عن خطاب الأمين العام لحلف الناتو، مانفريد ورنر، الذي ألقاه في بروكسل في 17 مايو/أيار 1990، فقد قال وقتها: (حقيقة أننا على استعداد لعدم وضع قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي خارج الأراضي الألمانية تمنح الاتحاد السوفيتي ضماناً أمنياً راسخاً)، أين هذه الضمانات اليوم؟".
كانت التعهدات خادعة، وتحرَّك الخط الأحمر مئات الكيلومترات وأصبح تهديداً. وبعد 7 سنوات، في تقييم صادر عن وزارة الخارجية الروسية في عام 2014، أشارت الوزارة إلى أن "التوسع المستمر شرقاً [و] الموجات المتعاقبة من توسع الناتو [تتعارض] مع الضمانات الصادرة من أعلى مستويات" الحكم الغربية.
ومن ثم، أشار التقرير الخاص باستراتيجية الأمن القومي لروسيا في عام 2015 إلى أن "التوسع المستمر لحلف الناتو والتقدم المطرد ببنيته التحتية العسكرية تجاه حدود روسيا، كلاهما ينطوي على تهديد للأمن القومي الروسي".
قدَّم الغرب تعهده الأول لروسيا في 9 فبراير/شباط 1990، عندما وعد وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، رئيسَ الاتحاد السوفييتي غورباتشوف بأنه في حال الإقرار لمساعي الناتو بسحب القوات الروسية من ألمانيا الشرقية، فإن الناتو لن يتمدد شرق ألمانيا. وسجَّل غورباتشوف في مذكراته انه وافق على شروط بيكر "بعد حصوله على تعهدات بأن سيادة الناتو وقواته لن تمتد شرق الخط الحالي".
ويؤكد جاك إف. ماتلوك جونيور، الذي كان سفير الولايات المتحدة في روسيا في ذلك الوقت وكان حاضراً الاجتماع، رواية غورباتشوف، قائلاً في كتابه Superpower Illusions: "إنها تتفق مع المذكرات التي دوَّنتها عن المحادثة باستثناء أن مذكراتي تشير إلى أن بيكر أضاف (ولا بوصة واحدة)".
في اليوم التالي لتلك المحادثات، وفقاً لوثائق وزارة الخارجية الألمانية الغربية في 10 فبراير/شباط 1990، قال وزير خارجية ألمانيا الغربية، هانز ديتريش غينشر، لنظيره السوفيتي، إدوارد شيفرنادزه: "من جانبنا… هناك أمر واحد مؤكد: الناتو لن يتوسع إلى الشرق".
وقد نشر "أرشيف الأمن القومي الأمريكي" الوثائق الفعلية التي توضح بالتفصيل ما وُعد به غورباتشوف في 12 ديسمبر/كانون الأول 2017. وبحسب ستيفن كوهين، الأكاديمي الأمريكي الراحل والمتخصص في الشؤون الروسية، في كتابه War With Russia، فإن الوثائق تكشف أخيراً وعلى نحو رسمي أن "التعهدات والوعود التي نُقضت كانت أكثر بكثير مما كان معروفاً في السابق: لقد قطعت جميع القوى الغربية المعنية -الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا نفسها- الوعد نفسه لغورباتشوف في مناسبات عديدة وبطرقٍ جازمة مختلفة".
ويقول متعاطفون مع بوتين إن الأمر لم يكن يتعين أن يكون على هذا النحو، وإن بوتين، مثل غورباتشوف من قبله في نهاية الحرب الباردة، كان يأمل في العمل على إنشاء مجتمع دولي يتميز بالتعاون بين أنداد، بدلاً من بناء الكتل، حتى إنه اقترح انضمام روسيا إلى عضوية الناتو، بحسب موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وحتى في الخطاب الذي رسم فيه الخط الأحمر الجديد لروسيا، كان بوتين لا يزال يقترح حلاً تعاونياً. وقال إن "التوصل إلى اتفاقيات محددة" يجب أن يجري "في حوار مع الولايات المتحدة وحلفائها". وأضاف في نوع من الطرح الدبلوماسي: "نحن لا نطالب بأي شروط خاصة لأنفسنا وندرك أن أي اتفاقيات يجب أن تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا وجميع الدول الأوروبية الأطلسية في الوقت نفسه".
مع ذلك، وبيد أنه من الواضح أن هذا المسار سيكون أقل إثارة للنزاع والصدام، فإن احتمالات اتخاذه قليلة، حيث إن التأكيدات الوحيدة التي تصدر اليوم تأتي في هيئة تعهدات من وزير الدفاع الأمريكي، الذي طمأن جورجيا وأوكرانيا مؤخراً أن "الباب لا يزال مفتوحاً" لعضوية الناتو، وهو الأمر الذي لا ينفك يثير استياء روسيا كثيراً.