استقال وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي بعد أزمة استمرت نحو شهر مع السعودية ودول الخليج الأخرى، حيث أعلنت الرئاسة اللبنانية، مساء الجمعة 3 ديسمبر/كانون الأول 2021، أن الرئيس ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، قبلا رسمياً استقالة قرداحي.
لكن ضحايا هذه الأزمة من الطرف اللبناني كالشركات ورجال الأعمال وغيرهم ما زالو يعانون بشكل كبير، بحسب ما رصدت ذلك وكالة Associated Press الأمريكية.
وتذكر الوكالة أن منسِّقة موسيقى لبنانية تفصلها أيامٌ فقط عن الانتقال إلى الرياض للعب الموسيقى لمدة شهر في أحد أحدث مراكز الترفيه في العاصمة السعودية، لكن رسالةً قصيرة ومُهذَّبة عبر تطبيق واتساب أبلغتها أن العقد لن يسري. فيما كانت رئيسة وكالة الاتصالات، الواقعة في بيروت، تتفاوض مع السعوديين من أجل إحياء عقدٍ لمدة عامين، كان قد تعطَّل بسبب جائحة فيروس كوفيد-19، مقابل آلاف الدولارات. وبعد يومين من الصمت قالت موكِّلتها السعودية، في مكالمة اعتذار، إن الوقت ليس مناسباً الآن.
صاحب عملٍ آخر كان على مدار سنوات يصدِّر أدواتٍ مكتبية إلى المملكة، صار عليه أن يعيد 20 حاوية من دفاتر الملاحظات والورق الجاهز للشحن إلى مستودعاته حارج بيروت. يتذكَّر زياد بكداش قول السعوديين له: "رجاء تجميد كلِّ شيء".
هؤلاء هم بعض أمثلة لضحايا ردِّ الفعل السعودي الغاضب على لبنان، في أكتوبر/تشرين الأول، بعد أن انتقد قرداحي حرب السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، لكن يتمثَّل أصل الأزمة في التنافس الإقليمي مع إيران منذ سنوات، وانزعاج السعودية من النفوذ المتزايد لجماعة حزب الله اللبنانية المدعومة أيضاً من إيران. ورداً على تصريحات الوزير، استدعت السعودية سفيرها وحظرت وارداتٍ لبنانية من الشوكولاتة إلى المنتجات الكيماوية التي كانت تدرُّ سابقاً زهاء 240 مليون دولار سنوياً.
استمرار الأزمة يثير قلق اللبنانيين في السعودية والخليج
تثير الأزمة قلق اللبنانيين، لا سيما العاملين في دول الخليج، في وقتٍ يعاني فيه لبنان بالفعل من انهيارٍ اقتصاديٍّ غير مسبوق. قالت كلوي، المنسِّقة الموسيقية: "شعرت بإحساسٍ سيئ، ليس فقط من جانبي، ولكن من أجل بلدي والمغتربين. لدينا جميعاً عائلاتٌ في الخارج".
كانت التحويلات المالية من أكثر من 350 ألف لبناني يعملون ويعيشون في الخليج ضرورية، لا سيما أن الانهيار الاقتصادي أدَّى إلى زيادة التضخُّم والبطالة في البلد الذي كان فيما مضى ذا دخلٍ متوسِّط. وقال البنك الدولي إن التحويلات التي تجاوزت 6.2 مليار دولار معظمها من دول الخليج، شكَّلَت 18.9% من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في عام 2020، وهي واحدةٌ من أعلى التحويلات في العالم.
وبينما تراجَعَت القيمة الدولارية للصادرات إلى السعودية في السنوات الماضية، كانت المملكة أكبر مستوردٍ للمنتجات اللبنانية، بما في ذلك الصابون والكتب المطبوعة وبعض الأطعمة المُعلّبة.
وطوال الأسابيع الماضية، حاوَلَ مسؤولون لبنانيون نزع فتيل الأزمة قائلين إن تصريحات وزير الإعلام، جورج قرداحي، التي أدلى بها قبل توليه المنصب، لا تعبِّر عن آرائهم. وفي الوقت عينه، استدعت الكويت والبحرين والإمارات سفراءها، وطلبت هذه الدول، مثل السعوديين، من الدبلوماسيين اللبنانيين المغادرة، ما أدَّى إلى واحدةٍ من أبرد فترات العلاقات الدبلوماسية بين تلك الدول الخليجية ولبنان.
مئات اللبنانيين الشيعة كانوا قد طردوا من الخليج
كانت العلاقات قد توتَّرَت لفترةٍ من الوقت، في عام 2013 طُرِدَ مئات اللبنانيين الشيعة الذين عملوا في الخليج للاشتباه في أنهم يدعمون حزب الله. وجاءت عمليات الترحيل بعد انضمام الجماعة إلى الحرب الأهلية في سوريا إلى جانب الرئيس السوري بشَّار الأسد، المدعوم هو الآخر من إيران أيضاً. وفرضت دول الخليج منذ ذلك الحين عقوباتٍ على حزب الله ووصفته بأنه جماعةٌ إرهابية.
وفي العام 2017، أجبرت الرياض رئيس الوزراء اللبناني آنذاك، سعد الحريري، على إعلان استقالته خلال زيارةٍ للمملكة، مشيراً إلى سيطرة حزب الله في بيانٍ مُتلفَز. جاءت هذه الخطوة الدراماتيكية بنتائج عكسية، إذ عاد الحريري إلى الوطن وأعاد تحالفه مع حزب الله، وخسر الدعم السعودي.
ومع تفشِّي الأزمة المالية في لبنان في عام 2019، غابت المملكة السعودية بعد أن أنفقت أكثر من 6 مليارات دولار بين عامي 2014 و2015 في الاستثمارات والدعم الحكومي في لبنان، وفقاً لتقديراتٍ سعودية.
امتدَّ الجمود بشأن تشكيل الحكومة لفترةٍ طويلة، لأن الرياض إما لم تدعم أحداً وإما رفضت دعم الحريري مرةً أخرى. وفي وقتٍ سابقٍ من هذا العام صعَّدَت المملكة السعودية الضغط، ووسَّعته أيضاً، ومنعت المنتجات اللبنانية من الوصول إلى المملكة أو المرور عبرها بعد اتِّهام حزب الله باستخدام شحناتٍ لتهريب المخدرات. وكانت تلك ضربةً للمزارعين الذين اعتمدوا في الغالب على الخليج لتسويق سلعهم.
وأشارت الشركات السعودية إلى أن المقاطعة كانت أوسع من ذلك، وقال عجلان العجلان، رئيس مجلس الغرف السعودية، إن جميع العلاقات التجارية سوف تُعلَّق بما في ذلك المستثمرون السعوديون العاملون في لبنان. وقال العجلان، وفقاً لصحيفة الشرق الأوسط، المملوكة للسعودية: "هذا أقل ما يمكن أن يقدِّمه رجال الأعمال والشركات السعودية لدعم حكومتهم".
عقاب جماعي ضد اللبنانيين
جادَلَ البعض بأن الإجراءات السعودية ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي الذي أدَّى إلى تمكين إيران وحلفائها بشكلٍ فعَّال. وقال زياد نصر الدين، الخبير الاقتصادي الذي تتفق آراؤه مع آراء حزب الله، إن انسحاب الشركات الخليجية من لبنان يفتح الأبواب أمام مستثمرين بدلاء. وقال: "التوجُّه شرقاً هو أحد تلك البدائل"، في إشارةٍ إلى الصين وروسيا وإيران والعراق.
لكن بعض أولئك الذين تربطهم علاقاتٌ تجارية بالسعودية يتكبَّدون ثمناً باهظاً. وقالت كلوي، المنسِّقة الموسيقية، إن شركةً لبنانية مقرَّها الرياض تفاوَضَت معها ومع فنانين لبنايين آخرين، لتقديم عروض في أحد مراكز الترفيه الجذَّابة في العاصمة السعودية، فقدت عقدها بالكامل. وقالت إن الرسالة من الرياض -"تفضَّلوا بقبول اعتذاري"- أشارت إلى أن أولويات توظيف اللبنانيين قد تغيَّرَت.
عملت وكالة الاتصالات المملوكة للمنتجة نايلة الخوري، ومقرها بيروت، مع الشركات السعودية لأكثر من عقد، وكانت تأمل في إحياء مشروع ترفيهي تأخَّرَ بسبب الجائحة عندما قام عميلها السعودي بتجميده. وقالت على تويتر، غاضبةً على وزير الإعلام اللبناني: "كان من المُفتَرَض أن يكفل ذلك العقد حياة 40 شخصاً".
وألقت الخوري باللوم على السياسيين اللبنانيين في جرِّ الجمهور إلى معركةٍ لا طائل لهم فيها. وقالت: "إنني أُعاقَب لتورُّط أطراف في حروبٍ ليس لديّ رأيٌ بشأنها".
"ماذا يريدون منَّا أن نفعل الآن؟"
تهدِّد استمرار التوتر بين السعودية ولبنان بتفكيك ما تبقَّى من قاعدةٍ صناعيةٍ في لبنان. أجبرت الأزمة المصرفية بالفعل العديد من الشركات على تقليص حجمها، وأدَّى نقص الوقود إلى جعل لبنان أحد أغلى البلدان في إنتاج الكهرباء.
وقال جورج نصراوي، القائم بأعمال رئيس اتحاد الصناعيين في لبنان، إن 15 مصنعاً على الأقل من أعضاء الاتحاد البالغ عددهم نحو 900 قد نقلوا عملياتهم إلى دولٍ مجاورة في الأشهر الأخيرة. ويفكِّر المزيد منهم في الانتقال، مِمَّا يعرِّض المزيد من الوظائف لخطر الفقدان.
تأثَّرَت الواردات كذلك من المملكة السعودية. قال فادي عبود، مالك الشركة العامة لصناعة التغليف اللبنانية، الذي كان وزيراً في السابق، إن طلباً متكرِّراً لمادة البولي بروبلين من أحد أكبر مصانع البتروكيماويات في المملكة السعودية قد تأخَّر، ثم توقَّفَت الطلبات الجديدة.
وقال عبود: "ماذا يريدون منَّا أن نفعل الآن؟ هل أن أذهب لشراء البتروكيماويات من إيران؟"، مضيفاً أنه قد يضطر لنقل أعماله.
كان بكداش، صاحب شركة Oriental Paper Products، وهي شركةٌ عائلية عمرها 70 عاماً تقريباً، يخطِّط لزيادة صادراته إلى المملكة السعودية للاستفادة من انهيار العملة اللبنانية التي جعلت الدفاتر التي يصدِّرها أقدر على التنافس. وهو يفكِّر الآن في نقل الشركة بعيداً عن لبنان. وقال إنه من المحزن أنه بعد سنواتٍ من التعاون والاستثمارات المُتبادَلة "نلقى هذه المقاطعة". وأضاف: "وكأنهم يقاطعون إخوانهم".