بينما تركز كثير من التقارير الإخبارية على تراجع الليرة التركية وارتفاع معدل التضخم في البلاد، فإنها أغلبها تتجاهل التحسن اللافت في المؤشرات العميقة للاقتصاد التركي، والتي حققت نمواً استثنائياً، وأبرزها تحسن الحساب الجاري والسياحة والصادرات التي حققت رقماً قياسياً.
ويُذكر الجدل بين رئيس الوزراء التركي أردوغان المُصر على تخفيض سعر الفائدة وبين المحللين الماليين العالمين، الذي يمثل كثير منهم مصالح المؤسسات الدولية التي تضارب في العملات بالجدل المماثل بين رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد في طريقة التعامل مع الأزمة المالية الآسيوية خلال تسعينيات القرن العشرين، حين رفض مهاتير توصيات صندوق النقد وغيره من المؤسسات الدولية والمحللين ورجال الأعمال الدوليين برفع سعر الفائدة والتوجه نحو سياسات انكماشية، وفي النهاية كانت ماليزيا أولى دول جنوب شرق آسيا خروجاً من الأزمة التي تفاقمت في الدول المجاورة مثل إندونيسيا.
اليونان أطاعت الاتحاد الأوروبي.. فماذا كانت النتيجة؟
كما تتشابه التوصيات الانكماشية الحالية لتركيا بالأجندة الانكماشية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان خلال أزمتها المالية عام 2010، التي أدت إلى أزمة اقتصادية خطيرة وصلت إلى بيع اليونانيين لفضياتهم بعد أن تم تخفيض رواتبهم ورواتب تقاعدهم.
في المقابل، يراهن أردوغان على أن الفائدة المنخفضة ستعزز النمو الاقتصادي، وبينما تفضل الدوائر المالية والمواطنون ذوو الأجر الثابت إلى التركيز على تعزيز سعر العملة عبر رفع أسعار الفائدة، فإن السياسيين ورجال الأعمال والاقتصاديين الذين يعملون على الأرض يخشون أموراً أكثر خطورة من رفع سعر الفائدة، وهي تراجع النمو واحتمالات سقوط البلاد في هوة الركود.
وللمقارنة بين النموذجين، فإن اليونان التي اتبعت توصيات الاتحاد الأوروبي وبعد مرور سنوات على الأزمة وما تبعها من تقشف، إضافة إلى تدفق عشرات المليارات من الأموال الأوروبية لليونان، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي في اليونان يعادل ضعف تركيا، ولكن واقعياً فإن هذا المتوسط عندما يقاس بالقوة الشرائية للدولار في كل بلد، وهو مقياس أكثر دقة لأنه يراعي فارق الأسعار، نجد أن نصيب المواطن التركي يصبح أعلى من نظيره اليوناني، ومعدل البطالة في اليونان أعلى، وتركيا أفضل في مؤشرات الصحة المالية، والحريات التجارية، وفاعلية القضاء، بينما تتفوق اليونان بفارق ضئيل في الحريات الفردية، وحريات العمال، علماً بأنه تاريخياً كان الوضع الاقتصادي في اليونان أفضل من تركيا حتى في ظل الدولة العثمانية، نظراً للطابع البحري والتجاري للاقتصاد اليوناني، ولكن اليوم تركيا اقتصادها أكثر ديناميكية من اليونان، حتى أن تركيا تعتبر من عمالقة صناعة السفن في العالم بينما هذه الصناعة تتعثر في اليونان.
ويرى كثير من دارسي التجربة اليونانية أنه لم تكن أثينا جزءاً من منطقة اليورو، وكانت لديها عملتها الخاصة التي كانت ستنخفض حتماً بسبب الأزمة، فإن الأمر كان سيكون أفضل لليونانيين، إذ سيؤدي تخفيض العملة لتحفيز الصادرات وتقليل الواردات ولن تدخل البلاد تجربة تقليص الأجور المؤلمة.
فالتضخم يقلل القيمة الفعلية للدخول، ولكنه يحفز النمو، بينما الركود يقلص الأجور دون نمو وأحياناً يؤدي لطرد العمالة من سوق الوظائف.
وبينما يتم التركيز على ارتفاع الأسعار جراء تراجع الليرة التركية، يتم غالباً تجاهل أن تأثير انخفاض الليرة على الأسعار يكون في تركيا أقل ضرراً مما يحدث في بلدان أخرى، بالنظر إلى أن تركيا دولة منتجة لنسبة كبيرة من استهلاكها المحلي، وبالتالي الزيادة بالأساس تكون على المنتجات المستوردة أو المُدخَل الأجنبي في المنتجات المحلية الصنع.
ولكن لماذا تواجه الليرة التركية هذه الضغوط رغم النمو الاقتصادي التركي؟
يمكن القول إن أسباب الضغوط على الليرة التركية متعددة وعميقة، ويختلط فيها ما هو شخصي وسياسي بالجغرافي والجيولوجي.
تاريخياً، فإن الليرة التركية كانت تعاني من أزمات متكررة، وقبل تولي حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في مطلع الألفية الحالية، كانت الليرة التركية هي الأدنى سعراً بين عملات العالم، حيث كانت تساوي مليوناً و65 ألف ليرة مقابل الدولار، وبعد النجاحات التي حققها الحزب ثبت سعر الليرة لفترة، وتم إصدار عملة جديدة ألغيت فيها الأصفار الستة، ومازال بعض كبار السن في تركيا يقولون عندما يبيعون أو يشترون كلمة "مليون ليرة" بدلاً من ليرة، حيث تعودوا لعقود على أن مليون ليرة باعتبارها وحدة الشراء.
ورغم النمو الاقتصادي الذي تحقق لتركيا لسنوات فلقد تراجعت الليرة بمعدل أكبر كثيراً من معدل عملات لدول كان أداء اقتصادها أقل كثيراً من تركيا، فلماذا؟
هناك عوامل سياسية كبيرة أثرت على الليرة، منها الأزمة السورية وما سببته في توتر في علاقة مع الغرب وروسيا، وكذلك بعض العمليات الإرهابية التي أثرت على السياحة، والأهم الانقلاب الذي وقع في في صيف عام 2016
ولكن يظل واحداً من أهم العوامل السياسية الدافعة لتراجع الليرة هو الخلافات السياسية بين تركيا مع الغرب، خاصة بعد الانقلاب، سواء الخلافات مع الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، مثل الخلاف الأمريكي التركي بشأن القس برانسون، الذي كان محتجزاً في تركيا، وصفقة صواريخ إس 400 التي اشترتها أنقرة من روسيا.
فلقد أصبحت تركيا نداً للغرب خلال السنوات الأخيرة، بعدما كانت شريكاً من الدرجة الثانية، وأصبحت الانتقادت لسياسات تركيا المستقلة خارجياً أمراً شائعاً في الغرب، وبعض القوى المؤثرة في صناعة القرار في الغرب تحاول تنصيب أنقرة عدواً للغرب، وهي لا تقبل علاقة ندية تحتمل الخلاف، وبذلك يمكن القول إن تركيا لم تعد تلقى رعاية مالية من الغرب، وهي بدورها حريصة على الاستقلال الاقتصادي، ولم تلجأ لأي معونة غربية أو من صندوق النقد منذ سنوات.
وفي الوقت ذاته، فإن تركيا دولة اقتصادها منفتح والليرة عملة متداولة عالمياً، وتعتمد على سياسات اقتصادية ديناميكية وليست محافظة مثل دولة كروسيا التي تدخل هي الأخرى في منافسة مع الغرب، ولكن تحتمي بصناديقها السيادية المعتمد على أموال فترة الوفرة النفطية، إضافة إلى تركيزها على الاستقرار الاقتصادي وليس النمو.
ولكن بالإضافة إلى العوامل السياسية السابقة هناك عوامل اقتصادية وفنية ساهمت في إضعاف الليرة.
رغم النمو الاقتصادي الكبير لتركيا في السنوات الماضية، وخاصة الصناعة والسياحة والصادرات، تعاني تركيا تاريخياً من عجز في ميزان الحساب الجاري وهو التوازن بين العملات الصعبة الداخلة والخارجة من البلاد.
ويرجع ذلك لعوامل عدة، منها أن تركيا دولة مستوردة بشكل كبير للطاقة، فالبلاد ليس لديها موارد نفطية أو غازية تذكر، وإن كانت هناك اكتشافات مهمة في الغاز لم يتم الإنتاج منها بعد.
كما أن النمو الصناعي الكبير لتركيا أدى للتوسع الكبير في استيراد الخامات والمعدات وآلات التصنيع، إضافة إلى أن بعض الصناعات التي تتفوق فيها تركيا القيمة المضافة لها ليست كبيرة، مثل الملابس، أو أنقرة تقوم بتجميع وليس تصنيع كامل للمدخلات ذات القيمة المضافة العالية في كثير من المنتجات، وتسعى أنقرة حالياً لتجاوز ذلك عبر توطين صناعات ذات قيمة مضافة عالية أو زيادة القيمة المضافة للصناعات الموجودة لديها.
كما يعد انخفاض الاحتياطي النقدي أحد الأسباب التي تضغط على الليرة التركية.
الليرة تلتقط أنفاسها قبل الكورونا
دفع تراجع الليرة قبل سنوات، وتحديداً خلال الأزمة المالية عام 2018، إلى تعزيز تنافسية الصادارت التركية، وأدى ذلك قبل أزمة كورونا إلى بدء تراكم إيجابي لرصيد العملات الأجنبية للبلاد، وزيادة هذه الاحتياطات، ما كان يؤشر إلى خروج البلاد من دوامة تراجع الليرة المتكررة.
فقبل جائحة كورونا شهدت الاحتياطات التركية من العملات الأجنبية والذهب زيادة كبيرة، حيث تجاوز إجمالي أصول الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي في تركيا 101 مليار دولار، في أغسطس/آب 2019، بزيادة 14.2% عند المقارنة على أساس سنوي، عندما كان الاحتياطي يقف عند 88.9 مليار دولار، في نهاية أغسطس/آب 2018.
كما أن احتياطيات النقد الأجنبي والذهب شهدت في ذلك الوقت زيادة قوية تجاوزت ملياري دولار في أسبوع واحد.
وكانت تركيا تراهن عقب خروجها من أزمة عام 2018، على قدرتها على الاستفادة من تراجع الليرة لزيادة الصادرات وتعزيز السياحة لتحقيق فائض في ميزان المدفوعات والحساب الجاري، مع الحفاظ على سياسة خفض الفائدة التي أدت إلى تحقيق نمو اقتصادي جيد، وبالتالي يصبح الدولار الداخل للبلاد أكثر من الذي يخرج منها بعيداً عن الأموال الساخنة.
ولكن جائحة كورونا جاءت لتفسد هذا التوازن، خاصة فيما يتعلق بتراجع قطاع السياحة.
ورغم الانتقادات التي توجَّه في الأوساط المالية العالمية لإصرار أردوغان على سياسة تخفيض الفائدة، فإن هذه الأوساط (التي هي أقرب دوماً لمستثمري الأموال الساخنة) تقر بخجل بأن سياسة خفض الفائدة وتيسير الإقراض ساعدت في عدم سقوط الاقتصاد التركي في أزمات أو ركود خلال جائحة كورونا، كما حدث في أغلب دول العالم.
نمو اقتصادي استثنائي خلال الجائحة، ولكن..
وتشير معطيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تضم الدول المتقدمة) إلى أن تركيا في مصاف الدول الأقل تأثراً بالجائحة. وذلك بعد الصين وكوريا الجنوبية، بين دول المنظمة في ذروة الجائحة وتحديداً عام 2020، حسب وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان.
وأظهر استطلاع أجرته رويترز بين خبراء اقتصاديين، في أغسطس/آب 2021، أن من المرجح أن اقتصاد تركيا قفز21.7% في الربع الثاني، مواصلاً تعافيه من هبوط حاد أثارته قيود كورونا العام الماضي، وهو ما سيرفع النمو للعام بكامله إلى 7.95%.
كما احتلت تركيا المرتبة الثانية بعد بريطانيا بين بلدان "التعاون الاقتصادي والتنمية" خلال الربع الثاني من العام 2021.
وقال وزير المالية التركي لطفي ألوان إنه يتوقع نمو اقتصاد بلاده ما يزيد عن 8% في 2021. وأضاف أنه يتوقع أن يبلغ عجز ميزان المعاملات الجارية نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الجاري.
كما أن البلاد لديها عجز معتدل في الميزانية، ولكن ظلت أزمة العملة تطارد التجربة الاقتصادية التركية، رغم أدائها اللافت في مجالات التصنيع والصادرات والخدمات ومواجهة الجائحة.
وفي مقابل خروج المستثمرين الماليين ومستثمري الأموال الساخنة جراء خفض سعر الليرة، فقد عززت البلاد وضعها كوجهة مفضَّلة للمستثمرين المباشرين كشركات صناعة السيارات، كما برزت البلاد كمصدر مهم للمعدات الوقائية والطبية.
وخلال ذروة أزمة كورونا، يلاحظ أنه رغم استمرار زيادة الصادرات، فإن آثار تراجع السياحة كانت أكبر على توازن البلاد المالي، ولكن مع عودة السياحة والزيادة اللافتة في الصادرات وتراجع الواردات نلاحظ هناك حدوث تحسن في مؤشر مهم للغاية.
فلقد قال البنك المركزي التركي مؤخراً إن تركيا سجلت فائضاً في الحساب الجاري للشهر الثاني خلال سبتمبر/أيلول 2021، بفضل قفزة في عوائد الصادرات ودخل السياحة، حيث بلغ الفائض 1.65 مليار دولار، مقارنة مع فائض معدل بلغ 814 مليون دولار، في أغسطس/آب، وعجز قدره 2.34 مليار دولار خلال سبتمبر/أيلول 2020.
والميزان الجاري هو التوازن بين العملات الأجنبية الداخلة والخارجة من الاقتصاد، وهو مؤشر مهم وواقعي لقدرة البلاد على زيادة احتياطاتها من العملات الصعبة.
على ماذا يراهن أردوغان؟ تجنب النموذج اللبناني
يمكن القول إن أردوغان يراهن على هذه العوامل لإعادة بناء احتياطات الليرة، وبالتالي تحسين وضع العملة، بدلاً من الاعتماد على رفع أسعار الفائدة لإرضاء المضاربين والمؤسسات الدولية العاملة في مجال العملات.
فرغم أن سعر الفائدة من شأنه جعل الليرة جذابة لهؤلاء ويطمئن المستثمرين المحليين، فإن ذلك سيعني رفع تكلفة الاقتراض للشركات، وزيادة حجم الدين الحكومي نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة التي تقترض بها الحكومة.
والمشكلة أن الرهان فقط على الأسواق الدولية لتعزيز العملة عبر رفع سعر الفائدة هي دائرة جهنمية ليس لها نهاية.
ويعد لبنان نموذجاً لذلك، فلسنوات كان معدل الفائدة في لبنان مرتفعاً بالنسبة لنسبة التضخم، مع تثبيت سعر عملته لعقود، وأدى ذلك إلى إضعاف المنتج المحلي وتشجيع الاستيراد، ونمو اقتصادي ضعيف، واعتماد الدولة على الاقتراض من البنوك المحلية التي بدورها تغري أصحاب الأموال بأسعار فائدة مرتفعة، ولكن مع استمرار تزايد الديون مقارنة بحجم الاقتصاد الذي يحقق نمواً ضعيفاً ورغم ضخامة احتياطات البنوك واحتياطات لبنان من العملات الصعبة انهار اقتصاد البلاد في النهاية.
من المتضرر والمستفيد من الوضع الحالي في تركيا؟
تستفيد كثير من القطاعات من الوضع الاقتصادي الحالي في تركيا، والمفارقة أن المتضررين هم الطبقة العاملة الأكثر تأييد لأردوغان، ولكن يجب ملاحظة أنه كما سبق القول إن انخفاض العملة تأثيره أقل بالنظر إلى اعتماد تركيا على الذات في عدد كبير من المنتجات، كما أن لدى البلاد شبكة من الضمانات والمساعدات الاجتماعية القوية، إضافة إلى قيام الدولة بزيادة الحد الأدنى للأجور، كما أعلن أردوغان مؤخراً.
كان اعتماد استراتيجية دفع النمو المدعوم بالائتمان في العام الذي يسبق الانتخابات مفيداً فيما مضى لأردوغان، لكن الأثر المتراكم لتلك السياسة على مر السنين، بالإضافة إلى الضرر الناجم عن كوفيد، يعني أن التكاليف الاجتماعية المحتملة أكبر بكثير هذه المرة، حسب تقرير لموقع بلومبيرغ الشرق.
ويراهن أردوغان على أن الفائدة المنخفضة ستعزز النمو وتعزز شعبيته قبل انتخابات 2023، فيما تتطلع الحكومات في أماكن أخرى للحد من ارتفاع الأسعار مع تعافي الاقتصاد العالمي من الوباء.
وبينما تستعد الأسواق الدولية لبدء الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تقليص الحوافز التي استخدمت لمواجهة الوباء وتستعد معظم السلطات النقدية لتشديد السياسة أي رفع أسعار الفائدة، أشار محافظ البنك المركزي التركي شهاب قاوجي أوغلو لمزيد من خفض أسعار الفائدة المقبلة، مدفوعاً بتأكيد أردوغان غير التقليدي على أن المعدلات المرتفعة هي التي تغذي التضخم.
تعتبر هذه السياسة في بعض جوانبها نجاحاً هائلاً، حسب وصف بلومبيرغ.
إذ يشهد المصنعون والمصدرون ازدهاراً، حيث أدى انخفاض العملة لانخفاض حاد في تكاليف العمالة في الداخل، ما جعل المنتجات التركية أكثر قدرة على المنافسة في الخارج، بينما سمح الاقتراض الأرخص للشركات بتكثيف الإنتاج بسرعة منذ الوباء.
وينمو الاقتصاد بوتيرة أسرع من معظم أقرانه في الدول المتقدمة والناشئة، كما سبق الإشارة، حيث توسع الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط 8.9% في 2021. يُتوقع أن تتجاوز الصادرات 200 مليار دولار لأول مرة في تاريخ تركيا هذا العام.
لكن جاء كل ذلك على حساب أجور العمال، ولكن يجب ملاحظة أن تركيا عامة تتبنى منظومة أجور مرنة نسبياً تحاول فيها الجمع بين توفير دخول معقولة للمواطنين وعدم رفع الأجور بطريقة تضعف تنافسية منتجات البلاد.
إنها مخاطرة يعرفها أردوغان جيداً، وهو الذي بدأ حياته المهنية في التسعينيات كرئيس لبلدية إسطنبول، حيث بنى قاعدته بين سكان المدينة من الطبقة العاملة من خلال تطوير البنية التحتية وتوسيع الدعم الاجتماعي، حسب بلومبيرغ.
كان حكم "حزب العدالة والتنمية" لتركيا على مدى عقدين في صعود. دخل الاقتصاد عقداً من التوسع شبه المتواصل في 2009 ليحول تركيا إلى سوق ناشئة رئيسية وقوة تصنيعية.
كانت السنوات القليلة الماضية أكثر اضطراباً، حيث جاء الوباء في أعقاب ركود 2019، الذي كلف "حزب العدالة والتنمية" بشكل جزئي سيطرته على حكم المدن الكبرى. وتقول استطلاعات الرأي إن التأييد لكل من أردوغان وحزبه في أدنى مستوياته، رغم عدم ظهور منافس قوي، حسب بلومبيرغ.
وفيما يحاول إعادة إحياء سنوات الازدهار، يجذب أردوغان الأتراك من اتجاهات مختلفة.
لم تنحسر جاذبية الحزب في سلطان بيلي، وهي منطقة غير ساحلية في الجانب الآسيوي من إسطنبول، المعروف أنه جزء محافظ من المدينة، حيث صوت حوالي 70% لصالح تحالف "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات العامة الأخيرة.
يقول صاحب متجر عرف عن نفسه باسم يوسف لبلومبيرغ: "أنا على دراية بالمشاكل في الاقتصاد، لكن صدقني أنا كبير بما يكفي لأتذكر الأوقات التي كان فيها اليساريون في السلطة… حتى الآن لا يوجد مرشح أفضل من أردوغان".
وارتفع عدد السياح الأجانب بشكل كبير بنسبة 60% على أساس سنوي إلى 3.51 مليون، في سبتمبر/أيلول 2021، وفقاً لبيانات نشرتها وزارة الثقافة والسياحة، وتحولت البلاد إلى سوق سياحة رئيسي في منطقة ممتدة من المحيط الأطلنطي، إلى آسيا الوسطى والصحراء الكبرى، حيث لم تعد مقصداً سياحياً فقط، بل المقصد الرئيسي للسياحة والعلاج والتسوق لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأوروبا وروسيا وإيران وآسيا الوسطى والقوقاز.
يظل رهان أردوغان على نمو اقتصاد حقيقي وإعادة بناء احتياطات البلاد، مغامرة، ينتقدها كثير من الاقتصاديين.
ولكن اللافت أن أردوغان خاض مغامرات أكثر خطورة، وخرج بنتائج مفاجئة لمنتقديه ومؤيديه على السواء.
فلقد كادت تركيا تدخل في حرب مرتين في سوريا مع روسيا الدول العظمى ذات الترسانة النووية الجبارة، مرة بعد إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت الأجواء التركية عام 2015، ومرة ثانية عندما أمر أردوغان قوات جيشه بالرد على جيش النظام السوري المحمي من روسيا، عندما قتلت قوات الأسد جنوداً أتراكاً في إدلب عام 2020، ودخل أردوغان في خلاف مع الاتحاد الأوروبي واليونان لإثبات ما يعتبره حقوقاً له في شرق المتوسط، وأبرم اتفاقاً عسكرياً مع حكومة الوفاق في طرابلس، وأرسل خبراء وطائرات بدون طيار لليبيا، وفي ذلك الوقت كانت هناك انتقادات حتى من خبراء عسكريين أتراك تتحدث عن استحالة تحقيق انتصار على الأرض بالنظر إلى بعد المسافة، بين ليبيا وتركيا، ولكن نجح التدخل التركي في تحقيق الانتصار لحكومة الوفاق، وإبعاد حفتر عن طرابلس، والآن تنطلق عملية سياسية قد تكون متعثرة، ولكن حلفاء أردوغان فيها باتوا أقوى من ذي قبل، بينما حفتر في أضعف أحواله ينتظر قبول ترشحه للرئاسة بدلاً من خطته الأصلية لدخول طرابلس بقوة السلاح.
بينما يمكن أن يكون الاقتصاد على الورق ملك لأساتذة وخبراء الاقتصاد، ولكن الواقع أن التجارب الاقتصادية في العالم هي عملية سياسية واقتصادية واجتماعية مركبة أخطر من أن تترك للاقتصاديين وحدهم، كما يقول خبير الاقتصاد المصري حازم الببلاوي، وسيكون على أردوغان عبء إثبات مدى صحة أو خطأ هذه المقولة، مثلما فعل مهاتير محمد قبل أكثر من 20 عاماً.