تشهد محاكم فيدرالية أمريكية محاكمة بعض أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب في قضية اقتحام الكونغرس، مما قد يؤدي إلى توجيه اتهامات جنائية لترامب نفسه بسبب التحريض وعرقلة العدالة.
وترجع الواقعة إلى يوم 6 يناير/كانون الثاني 2020، عندما اقتحم الآلاف من أنصار ترامب مبنى الكونغرس بغرض منع التصديق على فوز منافسه جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الماضية التي خسرها الرئيس السابق ورفض الاعتراف بالنتيجة مردداً مزاعم تزييفها لصالح الرئيس الحالي.
تلك الأحداث التي شاهدها الأمريكيون والعالم أجمع سببت فضيحة كبرى للنظام الديمقراطي الأمريكي ولا تزال تبعاتها مستمرة حتى اليوم، أدت إلى سعي الكونغرس لعزل ترامب للمرة الثانية، لكن الانقسام السياسي أدى إلى تبرئة الرئيس السابق.
غادر ترامب البيت الأبيض، دون أن يعترف بالنتيجة، لكن قضية اقتحام الكونغرس، التي سقط فيها 6 قتلى وعشرات الجرحى، لم تنتهِ بل يمكن القول إنها بدأت، حيث تم القبض على العشرات ممن شاركوا فيها من أنصار ترامب ولا تزال محاكماتهم مستمرة.
هل يحاكم ترامب جنائياً لدوره في اقتحام الكونغرس؟
هل يمكن توجيه اتهامات جنائية للرئيس السابق على خلفية حثه مايك بنس نائب الرئيس وقتها على رفض التصديق على نتيجة الانتخابات؟ هذا السؤال بدا كما لو أنه جوهر النقاش الذي أداره كارل نيكولز القاضي خلال جلسة استماع الاثنين 22 نوفمبر/تشرين الثاني في إحدى المحاكمات الخاصة بأحداث اقتحام الكونغرس، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
ووجد القاضي وممثل الادعاء والدفاع عن المتهم أنفسهم يتجادلون بشأن تفسير القانون الذي يحاكم به العشرات من المتهمين في أحداث اقتحام الكونغرس، وينص القانون على أن "أي شخص يتدخل في أي من أعمال الحكومة الفيدرالية بغرض عرقلتها يرتكب جريمة تصل عقوبتها القصوى إلى 20 عاماً في السجن".
وهذا القانون تم إقراره على غرار القانون الخاص بالسلوك المتعلق بالقضاء، مثل تهديد القضاة أو المحلفين أو الشهود. لكن نحو ثلث المتهمين في أحداث اقتحام الكونغرس يحاكمون بموجب قانون "عرقلة العدالة"، بسبب سعيهم لتعطيل جلسة التصديق النهائي على نتائج الانتخابات الرئاسية.
وخلال جلسات محاكمة أحد المتهمين في اقتحام الكونغرس، وجه القاضي سؤالاً لممثل الادعاء بشأن إذا ما كانت عرقلة العدالة تنطبق على شخص ما "لقيامه بدعوة مايك بنس نائب الرئيس وقتها -الذي يترأس جلسة التصديق النهائي على نتائج الانتخابات الرئاسية- كي يسعى لإبطال التصديق بأي طريقة؟". وواصل القاضي تساؤلاته بشأن افتراض أن "ذلك الشخص الذي دعا بنس لوقف التصديق كانت له نوايا سيئة أو عقل مذنب لدرجة تجعله مؤهلاً لأن يحاكم جنائياً؟".
وعلى الرغم من أن القاضي نيكولز لم يذكر اسم ترامب، إلا أن سعي الرئيس السابق لإقناع نائبه وقتها بوقف عملية التصديق على النتائج لم يكن سراً، فترامب وجَّه تلك الدعوة لبنس علناً في مناسبات عديدة، كان آخرها في خطاب ترامب لأنصاره قبل فضيحة اقتحام الكونغرس بأقل من ساعة. ويذكر هنا أن ترامب هو من عيَّن القاضي نيكولز في منصبه.
والأكثر من ذلك من أن ترامب لم يكتفِ بدعوة بنس مراراً وتكراراً للقيام برفض التصديق على النتائج، بل تحدث الرئيس السابق إلى كثير من مستشاريه المقربين وأيضاً إلى النائب العام وقتها جون إيستمان كي "يضغطوا على نائبه ليفعلها".
تساؤلات القاضي نيكولز تسببت في حالة من الصدمة في قاعة المحكمة، لدرجة أن جيمس بيرس ممثل الادعاء -تابع لوزارة العدل الأمريكية- رفض الفكرة في البداية بقوله للقاضي: "لا أرى كيف يمكن أن يؤدي هذا (دعوة ترامب بنس لوقف التصديق على النتائج) إلى ذاك (توجيه تهم جنائية للرئيس السابق)".
لكن بيرس استدرك سريعاً بالقول إن "هذا التصرف ربما يكون جريمة في حالة كان من يوجه الدعوة على قناعة بأن بنس يمتلك السلطة -بحكم الدستور- كي ينفذ الطلب فعلاً (يوقف التصديق على نتيجة الانتخابات)".
وهنا تكمن المشكلة بالنسبة لترامب، بحسب خبراء القانون، إذ إن الرئيس السابق كان، ولا يزال، يردد علناً أن نائبه يمتلك بالفعل السلطة الدستورية لمنع التصديق على نتائج الانتخابات، مما يعني أن أركان ارتكاب جريمة عرقلة العدالة تبدو متوفرة.
قاضٍ يقارن بين ترامب وآل جور
القاضي نيكولز ليس الوحيد الذي يبدو أنه يعتقد أن ترامب يجب أن يحاكم جنائياً على دوره في أحداث اقتحام الكونغرس، ففي محكمة أخرى لمتهم آخر، وهو آدم جونسون الذي تم تصويره حاملاً أحد مقتنيات مكتب نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، قال القاضي الفيدرالي ريجي والتون إن آل جور -المرشح الديمقراطي الذي خسر أمام الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن)- كانت فرصته أقوى في التشكيك في النتائج، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
"كانت لدى آل جور فرصة أفضل من السيد ترامب، لكنه (جور) كان رجلاً في تعامله مع الموقف وقرر الانسحاب وتقبل النتيجة. وما يقلقني الآن هو أنك كنت أبلهَ بما يكفي لأن تأتي من فلوريدا إلى واشنطن لأنك صدقت كذبة (تزوير الانتخابات)، والشخص الذي ألهمك كي تفعل ما فعلته لا زال يردد تلك الأكاذيب، وأنت أبله بما يكفي لأن تصدقه مرة أخرى"، بحسب ما قاله والتون للمتهم جونسون في المحكمة.
آل جور كان نائباً للرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون وترشح للرئاسة عام 2000 في مواجهة الجمهوري بوش (الابن)، وكان آل جور متفوقاً على بوش وحدثت مشاكل في نتائج ولاية فلوريدا فتقرر إعادة فرز الأصوات بها، لكن الجمهوريين لجأوا للمحكمة العليا لاستصدار قرار بوقف إعادة فرز الأصوات يدويا، وتم إعلان فوز بوش بالرئاسة من خلال المحكمة.
وبذلك انضم القاضيان والتون ونيكولز إلى مجموعة متزايدة من القضاة الذين عبروا، خلال محاكمات أنصار ترامب في اقتحام الكونغرس، عن رأيهم بتحمل الرئيس السابق جزءاً من المسؤولية الجنائية عن الأحداث غير المسبوقة في تاريخ البلاد، مما يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لأن يجد ترامب نفسه أحد المتهمين في تلك الأحداث، بحسب خبراء القانون.
مصائب أخرى في طريقها إلى ترامب
التحقيق في أحداث اقتحام الكونغرس لا يقتصر فقط على المحاكمات التي يخضع لها المئات من أنصاره في قاعات المحاكم الأمريكية، فهناك لجنة تحقيق خاصة في الأحداث أقرها الكونغرس تواصل عملها للوقوف على الدور المحتمل للرئيس السابق ودائرته المقربة في التحريض على تلك الأحداث.
وقدمت اللجنة للبيت الأبيض طلبات للاطلاع على آلاف الوثائق الخاصة بفترة الانتخابات (3 نوفمبر/تشرين الثاني) وصولاً إلى يوم اقتحام الكونغرس (6 يناير/كانون الثاني 2021)، لأن تلك الوثائق مشمولة بالسرية ولا بد من موافقة الرئيس قبل الاطلاع عليها.
وكان ترامب يعول على ألا يسمح بايدن بكشف السرية عن تلك الوثائق باستخدام "السلطة التنفيذية" التي يتمتع بها الرئيس، لكن عندما وصل الطلب برفع السرية إلى أرشيف البيت الأبيض، ومنه إلى مكتب بايدن، لم يرفض الرئيس طلب كشف السرية، وأعلن الأرشيف أنهم سيقدمون المستندات والوثائق المطلوبة إلى لجنة التحقيق في مجلس النواب، بحلول الجمعة 12 نوفمبر/تشرين الثاني.
فسارع ترامب، من خلال فريق الدفاع عنه، لتقديم التماس عاجل إلى المحكمة لرفض كشف السرية عن تلك الوثائق، تحت ذريعة "الامتياز الرئاسي"، لكن القاضية الفيدرالية سمحت للبيت الأبيض بأن يسلّم وثائق تتعلّق بالدور المحتمل لترامب في أحداث اقتحام الكونغرس.
وقالت القاضية تانيا تشاتكان، في حيثيات الحكم الذي أصدرته، إنّ "المحكمة تعتبر أنّ المصلحة العامة تكمن في تأييد -وليس إعاقة- الإرادة المشتركة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، بدرس الأحداث التي أدّت إلى 6 يناير/كانون الثاني، وتلك التي حصلت فيه، والنظر في إمكانية سنّ تشريع يمنع منعاً مطلقاً مثل هذه الأحداث من أن تحدث مجدداً"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
ويمثل الحكم ضربة عنيفة لجهود ترامب الرامية إلى منع رفع السرية عن أكثر من 700 صفحة من الوثائق، التي تشمل سجلات الهاتف ومحادثات الفيديو وجدول اللقاءات المرتبطة بأحداث اقتحام الكونغرس، إضافة إلى سجل الزائرين للبيت الأبيض ومَن التقاهم ترامب. كما تضم تلك الوثائق الملاحظات المكتوبة بخط يد رئيس موظفي البيت الأبيض وقتها.
فالحكم يعني أيضاً أن لجنة التحقيق في الأحداث يمكنها أن تستدعي للشهادة مسؤولين سابقين كانوا في دائرة ترامب المقربة، واستدعتهم اللجنة بالفعل لكنهم لم يردوا على طلبات الاستدعاء بعد.
وهذا ما حدث بالفعل، إذ وجهت لجنة التحقيق طلبات استدعاء لمقربين من ترامب كان لهم دور مباشر، ليس فقط في ترديد مزاعم التزوير المضللة ولكن أيضاً في التجهيز لمظاهرات "أوقفوا السرقة" يوم 6 يناير/كانون الثاني والتي منها انطلق أنصار ترامب لاقتحام الكونغرس، بحسب تقرير لشبكة CNN.
ومن هؤلاء أليكس جونز وروجر ستون، وكلاهما من أقرب حلفاء ترامب ودورهما في التحضير لذلك التجمع معلوم ولا ينكرانه، وبالتالي فإن مثولهما أمام لجنة التحقيق في الكونغرس قد يمثل مسماراً آخر في نعش ترامب، بحسب مراقبين.
كما وجهت اللجنة أيضاً طلبات استدعاء لقادة بعض منظمات اليمين المتطرف الداعية لترامب، والتي قادت أنصارها إلى اقتحام الكونغرس، وعلى رأسها جماعة "حماة القسم" وجماعة "الأولاد الفخورون"، والأخيرة تحديداً كان ترامب قد وجه لها دعوة "الاستعداد" خلال مناظرته الوحيدة مع بايدن.
هل يعني هذا أن مصير ترامب محتوم؟
هناك انقسام كبير في الرأي فيما يتعلق باحتمالات أن يواجه الرئيس السابق تهماً جنائية بسبب دوره المحتمل في التحريض على أحداث اقتحام الكونغرس، أو بسبب عرقلته المحتملة للعدالة على خلفية حثه نائبه بنس وقف التصديق على نتائج الانتخابات.
الفريق الذي يقول إن ترامب سوف يحاكم جنائياً في نهاية المطاف يبني وجهة نظره على الشق القانوني البحت، وكيف أن كومة الأدلة التي تؤكد دور الرئيس السابق في كلتا الجريمتين يتم بناؤها بثبات، سواء من خلال محاكمات أنصاره الجارية حالياً في أحداث اقتحام الكونغرس، أو من خلال لجنة التحقيق التابعة للكونغرس وما تتحصل عليه من أدلة عبر المستندات السرية للبيت الأبيض أو عبر شهادات من تستدعيهم من الشهود.
ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن تحريك الدعوى الجنائية ضد ترامب يتوقف على قوة الأدلة من جهة، وعلى الإرادة السياسية عند إدارة جو بايدن من جهة أخرى. لكن هناك رأي آخر يعتقد أن احتمالات مواجهة ترامب لاتهام جنائي تعتبر ضئيلة إن لم تكن مستحيلة.
ويجادل أصحاب هذا الرأي بأن الرئيس السابق لديه خبرة طويلة للغاية في الأمور القضائية والمحاكمات، بحكم تعرضه لأكثر من 7 مرات لإعلان إفلاسه كرجل أعمال، وبحكم خبرته في التهرب من الضرائب دون أن يواجه اتهامات، حتى الآن.
وبالتالي فإنه حتى في حالة توجيه اتهام جنائي لترامب على خلفية أحداث اقتحام الكونغرس، فقد تطول المحاكمة إلى سنوات دون أن تصل إلى إصدار حكم نهائي، لقدرة ترامب المالية على تحمل نفقات الدفاع عنه مهما طال أمد المحاكمة.
لكن النقطة الأهم، التي قد تنقذ ترامب من مجرد توجيه اتهامات جنائية له، تتعلق بالأجواء السياسية الحالية في الولايات المتحدة، وحالة الانقسام العميقة بين الديمقراطيين والجمهوريين. وهذا الانقسام يجعل أي تحرك من إدارة بايدن لمحاكمة ترامب، من خلال وزارة العدل، ينظر إليه على أنه "انتقام سياسي" وسعي لمنع الرئيس السابق من الترشح في الانتخابات المقبلة 2024، وهذه النقطة تغل يد الديمقراطيين إلى حد كبير.
وهذا الانقسام منعكس بشكل واضح تماماً في أروقة الكونغرس نفسه، فمجلس الشيوخ فيه 50 عضواً جمهورياً ومثلهم "ديمقراطي" والأغلبية للديمقراطيين بحكم كون كامالا هاريس نائبة بايدن الصوت المرجح فقط، بينما يتمتع الديمقراطيون بأغلبية طفيفة أيضاً في مجلس النواب.
ويخشى الديمقراطيون من أن يؤثر السعي لمحاكمة ترامب على شعبيتهم قبل عام من التجديد النصفي للكونغرس، خصوصاً بعد أن حقق الجمهوريون انتصارات مفاجئة في انتخابات حكام الولايات مطلع الشهر الجاري، في مؤشر واضح على أن شعبية الجمهوريين تبدو أعلى بكثير مما اعتقد الديمقراطيون وكثير من المحللين. وهذا الانقسام والحسابات الانتخابية تصب في كفة إنقاذ ترامب من أن يواجه اتهامات جنائية في نهاية المطاف.