بين ليلة وضحاها تحوَّل عبد الله حمدوك من رمز للديمقراطية في السودان إلى "خائن" انضم لمعسكر الانقلابيين من قادة الجيش، فلماذا وافق رئيس الوزراء على اتفاق البرهان؟ وما فرص نجاحه في العبور بالبلاد إلى الحكم المدني؟
وكان السودانيون قد استيقظوا الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على حملة اعتقالات، شملت رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى "إعلان الحرية والتغيير"، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
إذ قرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
ومنذ ذلك الوقت خرجت مظاهرات حاشدة في أنحاء البلاد، رفضاً لما وصفوه بالانقلاب العسكري، ونددت أغلب الدول الغربية بما حدث وقطعت الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى المساعدات عن السودان، وتحول حمدوك إلى أيقونة الانتقال إلى الحكم المدني في البلاد، ورفع المتظاهرون صوره بينما أعلنت أغلب دول العالم أنها لن تتعامل إلا معه.
كيف برر حمدوك موافقته على الاتفاق الجديد؟
ووسط تقارير مكثفة عن وساطات تتم بين البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو من جهة وحمدوك، الموجود قيد الإقامة الجبرية، من جهة أخرى، شهد الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني رفع الإقامة الجبرية عن حمدوك بعد توقيعه على اتفاق سياسي جديد مع البرهان، عاد بموجبه إلى منصبه رئيساً للوزراء وأعاد البرهان مجلس السيادة الذي كان قد أعلن حله من قبل.
ونص الاتفاق السياسي الذي وقعه حمدوك والبرهان على 14 بنداً، أولها التأكيد على الوثيقة الدستورية لسنة 2019 والمعدلة في 2020، وأنها المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، وثانيها ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق بما يضمن مشاركة سياسية واسعة عدا حزب "المؤتمر الوطني" المحلول (حزب الرئيس السابق عمر البشير).
وعقب توقيعه الاتفاق السياسي، قال حمدوك إن هذا الاتفاق "مبني على أساس حقن دماء السودانيين"، واعتبر أنه "يساعد على فك الاختناق داخلياً وخارجياً واستعادة مسار الانتقال لتحقيق الديمقراطية".
وفي تصريحات صحفية الإثنين، قال حمدوك إن الحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تحققت خلال العامين الماضيين، كان من بين الأسباب التي دفعته للعودة إلى منصبه. وتابع: "نتوقع أن يكون أداء حكومة التكنوقراط (كفاءات بلا انتماءات حزبية) له أثر إيجابي على الأداء الاقتصادي ومعيشة المواطنين".
ولم يتطرق حمدوك، سواء في كلمته الأحد أو تصريحاته في اليوم التالي، إلى ما تعرض له من اعتقال وإقامة جبرية لمدة شهر تقريباً، كما لم يتطرق إلى ما قام البرهان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، ولا لحالة الطوارئ التي لا تزال سارية عملياً في البلاد، وهو ما انقسمت بشأنه آراء المحللين والمراقبين داخل وخارج السودان.
رؤية حمدوك للعبور إلى الحكم المدني
على الرغم من فقدان حمدوك دعم قوى إعلان الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين -أكبر تجمين مدنيين في البلاد وحاضنته التي رشحته لرئاسة الحكومة الانتقالية- إلا أن فريقاً من المحللين يرى أن حمدوك فضَّل مصلحة البلاد على مصلحته الخاصة، وهدفه الوحيد الآن هو العبور إلى الحكم المدني من خلال الانتخابات المقررة في يوليو/تموز 2023.
وهذا ما عبَّر عنه يوسف سراج المحلل السياسي السوداني بقوله إن "توقيع حمدوك على الاتفاق السياسي هو خطوة غريبة جاءت استجابة لضغوط داخلية وخارجية في ظل احتقان كبير بالبلاد. من الواضح أن حمدوك أقدم على هذه الخطوة وفق رؤية مختلفة تتعارض مع مطلوبات الشارع وحتى مع القوى السياسية التي كانت حاضنته في العامين السابقين".
وأضاف سراج للأناضول: "كلمة حمدوك، خلال توقيع الاتفاق، خلت من أي حديث عن أيام وضعه قيد الإقامة الجبرية وقرارات البرهان في 25 أكتوبر"، متابعاً: "إلا أن حمدوك تناول قضايا وطنية محددة سيعمل عليها، مثل تكوين مفوضية الانتخابات، أي أنه يذهب وفق رؤية محددة لتحقيق أسس الانتقال الديمقراطي بالذهاب إلى البلاد إلى حكم مدني".
ويرى سراج أن "حمدوك قد ينأى بنفسه عن أي تشاكس مع العسكر في الفترة المقبلة بشأن بناء جيش قومي واحد أو تحقيق العدالة، رغم قناعاته بضرورة تحقيق ذلك. فهو من الذكاء بحيث يمضي بالشراكة (مع العسكر) بأدوات محددة ومختلفة لتحقيق مطلوبات الشارع من عدالة انتقالية ومحاسبة لمرتكبي الجرائم دون إدخال البلاد في أزمة أخرى".
الرفض الشعبي لاتفاقه مع البرهان
لكن حمدوك يواجه الآن رفضاً شعبياً طفا على السطح يوم توقيع الاتفاق، حيث نددت احتجاجات حاشدة به وباتفاقه وطالبت بحكم مدني كامل وإنهاء الشراكة مع الجيش في السلطة الانتقالية. والرفض الشعبي يبدو أنه آخذ في الازدياد مع إعلان قوى جماهيرية عن مظاهرات الخميس، تنديداً بالاتفاق السياسي، وللمطالبة بالحكم المدني وعودة "العسكر" إلى ثكناتهم. ويعتبر الرافضون أن اتفاق الأحد "مجرد محاولة لشرعنة الانقلاب الأخير".
وبالتالي يبدو أن المرحلة المقبلة من رئاسة حمدوك للحكومة لن تكون كسابقتها، في ظل حراك الشارع وعدم وجود قوى سياسية تدعمه؛ جراء وجود شريك عسكري مرتاب من المدنيين ورئاستهم للسلطة، وفق مراقبين.
واعتبر يوسف حمد المحلل السياسي أن "حمدوك وقَّع الأحد على مطلوبات البرهان التي جعلته يقوم بالانقلاب على السلطة الشرعية وخرق الوثيقة الدستورية"، وأضاف للأناضول أنه "لا يمكن رؤية تحرك حمدوك المفاجئ (توقيع الاتفاق) إلا من خلال النظر إلى مفارقته لخط الشارع المنتفض الذي دعمه خلال الفترة السابقة، ولن يدعمه مستقبلاً".
وتابع: "حمدوك بتوقيعه الاتفاق للعمل مع السلطة العسكرية بقيادة البرهان، صار مجرد شخص انضم للمجموعة الانقلابية التي تسيطر على مقاليد الأمور، وسيواجه برفض شعبي واحتجاجات مستمرة لن تجعل رئاسته للحكم يسيرة".
وأردف: "حمدوك وقع اتفاقاً سياسياً استناداً على قرارات البرهان في 25 أكتوبر، بما فيها أمر الطوارئ الذي لا يزال سارياً، بالإضافة إلى إشراف مجلس السيادة (الانتقالي برئاسة البرهان) على حكومة حمدوك التنفيذية".
هل تنجح رؤية حمدوك في نهاية المطاف؟
هناك عوامل كثيرة متشابكة ومعقدة تجعل الإجابة عن هذا السؤال بطريقة قاطعة، سواء بالنفي أو الإيجاب، أمراً شبه مستحيل. كما أن الصورة الكاملة للاتفاق الجديد بين حمدوك والبرهان ليست واضحة، على الرغم من نشر بنود الاتفاق الأربعة عشر.
فالبند الأول أكد على أن الوثيقة الدستورية الموقعة عام 2019 والمعدلة في 2020 هي المرجعية الأساسية القائمة لاستكمال الفترة الانتقالية، لكن البند الثاني مباشرة ينص على ضرورة تعديلها بالتوافق بما يضمن مشاركة سياسية واسعة عدا حزب عمر البشير، وهنا كما يقال الشيطان يكمن في التفاصيل.
وهذا ما عبَّر عنه جوزيف سيغيل مدير الأبحاث في المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية بقوله لموقع Vox الأمريكي إن المحتويات الكاملة والسياق الخاص بالاتفاق الجديد في السودان، إضافة إلى ما تنازل عنه كل طرف للتوصل إلى الاتفاق، تظل أمور مجهولة.
وفسر سيغيل ما يعنيه بالقول إن "هناك مجالاً واسعاً للتفسيرات وسوء الفهم"، خصوصاً ما يتعلق بالدور الذي قد يلعبه العسكر من الآن وصاعداً في الحكومة الانتقالية الجديدة التي سيشكلها حمدوك.
وبحسب كثير من المحللين داخل السودان وخارجه، تمثل النقطة المتعلقة بدور القيادات العسكرية فيما تبقى من المرحلة الانتقالية تحديداً أبرز تخوفات المعسكر المدني الرافض لاتفاق حمدوك الأخير معهم.
فقوى الحرية والتغيير – القيادة، وتجمع المهنيين يصرون على استبعاد قادة الجيش تماماً من أي دور فيما تبقى من المرحلة الانتقالية، إضافة إلى محاكمتهم -خصوصاً البرهان- بسبب "الانقلاب الأخير" وسقوط نحو 50 قتيلاً ومئات المصابين منذ قرارات البرهان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول.
وهذا ما عبَّر عنه صديق أبو فواز عضو التحالف الإعلامي التابع لقوى الحرية والتغيير بقوله لـ"بي بي سي" مساء الأحد: "بالنسبة لنا، لابد من محاسبتهم (قادة الجيش) على الجرائم التي ارتكبوها (بحق المتظاهرين)"، مضيفاً: "من هو حمدوك كي يوقع اتفاقاً بشخصه ويطلق عليه مبادرة وطنية؟ إنه مجرد رجل كان في السجن وتفاوضوا معه والسلاح مرفوع في وجهه!".
لكن فريق المحللين الداعم لما أقدم عليه حمدوك يرى أن رئيس الوزراء اختار الابتعاد عن المعادلات الصفرية وقرر توظيف الأدوات المتاحة لاستكمال المرحلة الانتقالية والشراكة مع العسكر، مع السعي لتحجيم دورهم قدر المستطاع، مستخدماً الضغوط الخارجية من جهة ومحاولة إقناع شركاء الأمس من المدنيين بأن الإصرار على استبعاد القادة العسكريين بشكل كامل في هذه المرحلة يضع البلاد على حافة الهاوية.
وهذا ما عبَّر عنه نونيهال سينغ المحلل السياسي ومؤلف كتاب المنطق الاستراتيجي للانقلابات العسكرية بقوله لموقع Vox: "حقيقة إعادة العسكر السلطة لحمدوك تظل تطوراً إيجابياً في حد ذاته، لكن يظل من غير المعلوم ما يعنيه ذلك على أرض الواقع بالنسبة للانتقال إلى الحكم المدني الفعلي وسيطرة المدنيين على الحكومة والجيش"، مضيفاً أن السؤال القائم الآن هو هل يستطيع حمدوك تحقيق أهدافه السياسية دون قيود أم أنه اضطر إلى قبول قيود كجزء من الاتفاق الذي عاد من خلاله إلى منصبه؟".