تشهد منطقة شرق وجنوب آسيا سباق تسلح تتزايد وتيرته بصورة مرعبة وترجع أسبابه ليس فقط إلى الحرب الباردة بين الصين وأمريكا، فالمنطقة لا تنقصها أسباب الصراع من الأساس.
فالصين والهند بينهما حدود متداخلة ومناوشات متقطعة كادت تتحول إلى حرب شاملة في يونيو/حزيران الماضي، واليابان وكوريا الجنوبية تشعران بتهديد متزايد من كوريا الشمالية والصين، والهند وباكستان عدوان تقليديان وخاضا أربع حروب بالفعل من قبل. كل هذه الصراعات التاريخية والظروف الداخلية في الولايات المتحدة تسببت في سباق تسليح يبنى على نار هادئة، بحسب المراقبين.
ويضيف البعد النووي عنصراً آخر من عناصر القلق، في ظل تطوير الصين ترسانتها النووية بوتيرة غير مسبوقة، وسط تهديدات معلنة باقتراب التنين من إعادة توحيد أراضيه، وخاصة تايوان حليفة الغرب التي زادت من إنفاقها العسكري مؤخراً بصورة لافتة. هذا بخلاف كون الهند وباكستان تمتلكان بالفعل أسلحة نووية.
للقصة جذور منذ الحرب العالمية الثانية
على الرغم من أن الصراعات والحروب بين دول شرق وجنوب القارة الآسيوية ترجع إلى آلاف السنين، فإنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية ما يصفه كثير من المحللين بعصر الإمبراطورية الأمريكية، اتخذت الصراعات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ نمطاً مختلفاً. فأصبحت أمريكا لاعباً رئيسياً في معادلة القوة في المنطقة.
ومنذ ذلك الوقت، يعتمد حلفاء واشنطن في الدفاع عن أنفسهم بشكل رئيسي على القوة العسكرية للولايات المتحدة، من خلال معاهدات للدفاع المشترك ووجود قواعد وقوات أمريكية، سواء في المنطقة العازلة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية أو في اليابان والفلبين، أو عبر الأسطول الأمريكي المتمركز في تلك المنطقة من المحيطين الهندي والهادئ.
وترتبط الولايات المتحدة باتفاقيات عسكرية مع اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان والهند، وأغلب تلك الدول توجد بينها وبين الصين – إن لم يكن جميعها – توجد بينها وبين الصين عداوات قديمة وجديدة ونزاعات حدودية لا تتوقف ولم يتم حسمها، باستثناء تايوان بالطبع التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها.
لكن حدثت تحولات في هذا المشهد المضطرب، الذي لم يكن مستقراً وإنما كانت عناصر توتره محكومة بنمط ثابت قلما تخرج عنه، جعلت حلفاء الولايات المتحدة يفقدون الثقة في مدى التزام واشنطن بالدفاع عنهم إذا ما اقتضت الحاجة، خصوصا في ظل التغيير الجذري في سياسة الصين منذ تولي الرئيس الحالي شي جين بينغ المسؤولية عام 2012.
وبدأ فقدان الحلفاء الثقة في واشنطن منذ تولي الرئيس السابق دونالد ترامب منصبه واتباعه سياسة "أمريكا أولاً"، ثم جاء بايدن وقرر الانسحاب من أفغانستان على طريقته دون التشاور مع الحلفاء، مما أكد شكوك الحلفاء ليقرروا الاعتماد على أنفسهم في الأمور العسكرية.
وفي الوقت نفسه وتحت قيادة شي، تحولت الصين إلى القوة الاقتصادية الأكبر عالمياً بعد الولايات المتحدة، وجنباً إلى جانب مع الشق الاقتصادي، أصبح جيش التحرير الشعبي (الجيش الصيني) واحداً من أقوى جيوش العالم وأكثرها امتلاكاً للقوة النيرانية بحراً وجواً وبراً، وتزامن ذلك مع تحول خطير في الناحية الدبلوماسية أيضاً فيما يصفه البعض باستراتيجية "الذئب المحارب"، بعد عقود طويلة من الدبلوماسية الهادئة.
هذا التحول الثنائي -فقدان الثقة في مدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنهم وتنامي قوة الصين العسكرية- دفع حلفاء واشنطن في آسيا نحو السعي الحثيث لتطوير قدراتهم العسكرية الذاتية، مما خلق جواً من "العسكرة وسباق التسلح" لفت أنظار المراقبين والمحللين، خصوصاً مع تسارعه في الفترة الأخيرة.
الصين تبني ترسانتها العسكرية بسرعة قياسية
ويمكن القول إن التوتر في مضيق تايوان بين بكين وتايبيه وصل إلى ذروته مؤخراً، وهو السبب المباشر في التركيز الدولي على سباق التسلح القائم في المنطقة منذ سنوات، إذ إن صراعات شرق وجنوب آسيا تتخطى مضيق تايوان جغرافياً وتاريخياً بالطبع.
فالصين تستعد حالياً لإدخال ثالث حاملة طائرات تمتلكها إلى الخدمة، وتمتلك حاملة الطائرات تلك قدرات متطورة تجعلها قادرة على تنفيذ إقلاع الطائرات في زمن يضاهي نظيراتها من حاملات الطائرات الأمريكية، وهو ما يراه كثير من الخبراء العسكريين دليلاً آخر على السرعة القياسية التي تتطور بها القدرات العسكرية للصين.
وهذا التطور السريع في قدرات الصين العسكرية يضع المنطقة كلها على حافة الهاوية ويصيب جيرانها بالقلق الشديد فيفتحون خزائنهم للتسليح بصورة غير مسبوقة، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية عنوانه "عسكرة آسيا الهادئة تهدد بتحويل المنطقة إلى برميل بارود".
وهكذا انطلق سباح تسلح "هادئ" في المنطقة تشارك فيه جميع دولها لتجنب التأخر في التسليح عن الجيران، لكن الخبراء يحذرون من أن أي حسابات خاطئة قد تؤدي إلى صراع مفتوح في منطقة تعج بالتنافس والصراع بين شعوبها منذ قديم الأزل.
ففي شرق آسيا، تقوم اليابان وكوريا الجنوبية بتحديث جيوشها كرد فعل على التهديدات من جانب الصين وكوريا الشمالية. وفي المقابل، هناك حساسية مفرطة لدى قادة بكين وبيونغ يانغ تجاه أي مؤشر على تطوير الجيران لقدرتهم العسكرية. فالشهر الماضي وبعد أن اختبرت كوريا الجنوبية صاروخاً جديداً، انتقدت بيونغ يانغ ما وصفته بطموحات سيول "غير المسؤولة والمتهورة"، رغم امتلاك كوريا الشمالية أسلحة نووية وعدم توقفها عن إجراء اختبارات صواريخ باليستية طوال الوقت.
وفي الوقت نفسه، تهدد الاستثمارات العسكرية الجديدة للهند كرد فعل على المناوشات الحدودية الأخيرة بينها وبين الصين بإثارة غضب باكستان -عدو الهند اللدود- ومن ثم سعي إسلام أباد للدخول على خط تكديس مزيد من الأسلحة هي الأخرى.
وعلى نفس المنوال، تخشى دول مثل اليابان والفلبين، ولكلتيهما نزاعات مع الصين حول ملكية جزر في بحر الصين الجنوبي، من سعي بكين إلى تغيير الوضع الراهن بالقوة للسيطرة على مسارات شحن بحري هامة، مما يجعلهما أكثر سعياً لامتلاك مزيد من الأسلحة.
وهكذا تتحول المنطقة إلى "برميل بارود" ضخم
ترسم هذه المشاهد جميعاً صورة مرعبة لما يمكن أن يحدث إذا ما انفجرت الأوضاع وخرجت عن السيطرة. وهذا ما عبَّر عنه مالكوم دافيس المحلل البارز في معهد السياسات الاستراتيجية الأسترالي، بقوله إن المنطقة تواجه "معضلة أمنية" تتمثل في مواجهة جيوسياسية تقوم فيها الدول بتسليح نفسها كرد فعل لتسليح الجيران أنفسهم.
وأضاف دافيس لشبكة CNN: "وهكذا يزداد احتمال اندلاع حرب كبرى. إننا نبني أزمة محتملة شيئاً فشيئاً".
ومن وجهة النظر الأمريكية، تتحمل الصين وحدها اللوم وراء سباق التسلح الأخير هذا. فتحت قيادة الرئيس شي توسعت القدرات العسكرية لبكين بسرعة فائقة، فأصبح جيش التحرير الشعبي يمتلك أكبر أسطول بحري حول العالم، كما يمتلك طائرات شبحية وترسانة نووية تنمو بسرعة غير مسبوقة.
كما تزداد الموازنة العسكرية للصين سنوياً ووصلت إلى أكثر من 200 مليار دولار في العام الجاري، ويقترب الجيش الصيني من تعديل ميزان التفوق التكنولوجي الذي كان يميل لصالح الجيش الأمريكي بصورة ضخمة قبل سنوات قليلة.
وتقول واشنطن إن بكين اختبرت مؤخراً نظام تسليح أسرع من الصوت، واعتبر مايك ميلي رئيس الأركان الأمريكي ذلك الاختبار "مدعاة لقلق كبير"، رغم أن الصين نفت الاتهام الأمريكي وقالت إن التجربة لم تكن إلا "تجربة روتينية لسفينة فضائية".
أما الصين فترفض من جانبها الانتقادات الأمريكية، وترد بأن ميزانية الجيش الأمريكي لهذا العام، تحت إدارة بايدن، قد ارتفعت لتصل إلى أكثر من 740 مليار دولار، كما أن بكين لا تعتدي على دول أخرى وإنما تسعى للدفاع عن حقوقها وأراضيها فحسب.
وفي يوليو/تموز الماضي، وخلال كلمة له بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، قال شي إن بلاده: "لن تقبل بعد الآن أن تتعرض للبلطجة أو القمع أو التجاهل"، مضيفاً أن أي شخص يحاول أن يقلل من شأن الصين "سيجد رأسه تصطدم بسور عظيم من الفولاذ".
وخلال قمته الأولى مع نظيره الأمريكي بايدن قبل أيام، قال الرئيس الصيني إن بلاده ستتخذ "إجراءات حاسمة" في حال أقدمت القوى الانفصالية في تايوان على عبور "خط أحمر"، مضيفاً أن "مثل هذه الخطوات خطيرة للغاية كاللعب بالنار، ومن يلعب بالنار ستحرقه".
ويرى أزران تارابور الباحث المتخصص في الشأن الآسيوي في جامعة ستانفورد الأمريكية أن سياسة الصين الصارمة والعدائية تحت قيادة شي تقلق جيرانها. "هذه ليست مجرد دبلوماسية الذئب المحارب ولكنها إرادة واضحة من جانب الصين للحصول بالقوة على الأراضي التي تدعي أنها تمتلكها".
الخلاصة هنا هي أن سباق التسلح في آسيا يسير على قدم وساق ويحول المنطقة برمتها إلى برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي لحظة بسبب حسابات خاطئة قد يجريها طرف من الأطراف، لكن شظايا هكذا انفجار لن تكون محصورة في شرق وجنوب آسيا بل ستكوي العالم أجمع بنيرانها، بحسب أغلب المحللين.