عدد الدول التي تعاني من تآكل الديمقراطية لم يكن مرتفعاً قط بهذا الشكل. هذه هي خلاصة دراسة أعدها المعهد الدولي للديمقراطية عن عام 2021، رصد أمثلة من ميانمار إلى مالي وتونس وغيرها من دول العالم.
والمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية هو منظمة دولية على مستوى الحكومات ومقره ستوكهولم، ومتخصص في دراسة وتحليل أنظمة الحكم حول العالم من زاوية الديمقراطية مقابل الاستبداد، ويصدر تقريراً سنوياً.
وأصدر المعهد تقريره عن العام الجاري 2021 اليوم الإثنين 22 نوفمبر/تشرين الثاني، وتختلف الدراسة هذا العام لكونها اعتمدت على رصد بيانات ومعلومات تم جمعها منذ عام 1975 وغطت جميع أنحاء العالم.
الوباء والسياسات الشعبوية
رصدت الدراسة أبرز أسباب التراجع الكبير في الحكم الديمقراطي حول العالم، خصوصاً في العام الجاري والعام الماضي، مبرزة وباء كورونا كأحد أهم تلك الأسباب، إذ استغلته كثير من الأنظمة الحاكمة لإسكات معارضيها ومنتقديها وتنفيذ سياسات قمعية من خلال خلق حالة من الفزع والتخويف.
ومنذ تفشي فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية أواخر عام 2019 ثم تحوله إلى جائحة عالمية منذ مارس/آذار 2020، يعاني العالم من إجراءات الإغلاق وإصابة النشاط الاقتصادي بالشلل التام، وسط تحذيرات من أن الأنظمة الحاكمة حول العالم توظف الأزمة الصحية الأخطر لأغراض سياسية.
ففيما يخص منشأ فيروس كورونا، تحولت القضية الصحية إلى سلاح سياسي بامتياز وتبادلت الولايات المتحدة الأمريكية والصين الاتهامات بشأن أصل الفيروس ومن أين انطلق وإذا ما كان قد تسرب من أحد المعامل أم أنه فيروس طبيعي. فواشنطن، ومنذ إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب وصولاً إلى إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، تصف الوباء بأنه "فيروس صيني" تسرب من معمل مدينة ووهان للفيروسات. بينما تقول الصين إن الفيروس تسرب من معمل تابع للجيش الأمريكي في فيرجينيا.
وكان اكتشاف لقاحات كورونا في وقت قياسي أواخر العام الماضي يمثل بارقة أمل في قرب انتهاء الوباء وعودة الحياة إلى طبيعتها، لكن تسييس اللقاحات وتشكيك كل دولة في لقاحات الدول الأخرى تسبب في إذكاء نيران الإحجام عن تناول اللقاح وانتشار نظريات المؤامرة، وسط جدال محتدم بشأن حق الأنظمة في إجبار المواطنين على تلقي اللقاحات وعلاقة ذلك بحرية التعبير.
دراسة المعهد الدولي للديمقراطية خلصت في هذا الصدد إلى أن كثيراً من الدول حول العالم، من آسيا إلى أوروبا والأمريكتين وأستراليا إلى أفريقيا، تستخدم إجراءات مكافحة الوباء لإسكات المعارضين السياسيين وليس فقط لمحاربة الوباء والقضاء عليه.
والسبب الآخر وراء "التآكل غير المسبوق للديمقراطية" حول العالم مرتبط بالسياسات الشعبوية ونزوع دول لتقليد السلوك المناهض للديمقراطية الذي تنتهجه دول أخرى واستخدام التضليل الإعلامي لتقسيم المجتمعات وسعي السياسيين لاكتساب شعبية تبقيهم في المنصب عبر صناديق الانتخابات في ديمقراطيات راسخة كالولايات المتحدة وغيرها من دول أوروبا.
ويعتبر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب واحداً من رموز الشعبوية حول العالم، وتوصف أساليبه السياسية بالترامبية نسبة إليه، وهي حركة سياسية باتت عنوانا لليمين الشعبوي المتطرف يتبناها عدد كبير من السياسيين والزعماء حول العالم ولم تعد حكراً على دولة بعينها.
تونس وميانمار ومالي
وفي دراسته عن حالة الحكم حول العالم عام 2021، قال تقرير المعهد الدولي للديمقراطية إن "عدد الدول التي تعاني من تراجع ديمقراطي لم يكن بهذا الارتفاع قط"، في إشارة إلى الانحدار في مجالات من بينها الضوابط المفروضة على الحكومة واستقلال القضاء بالإضافة إلى حرية الإعلام وحقوق الإنسان، بحسب تقرير لرويترز.
ورصدت الدراسة في هذا السياق عدداً من النماذج وضع فيها أفغانستان، بعد عودة حركة طالبان إلى الحكم في أغسطس/آب الماضي في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة، كأبرز الحالات هذا العام. وقالت الدراسة إن حرمان الفتيات من التعليم وفرض قيود مشددة على أسلوب الحياة بالنسبة للأفغان كلها أمور تنم عن تراجع مخيف في الحياة الديمقراطية في البلاد.
كما رصدت الدراسة الانقلاب الذي قام به العسكر في ميانمار في الأول من فبراير/شباط كحالة صارخة من الانهيار التام لتجربة ديمقراطية كانت لا تزال هشة من الأساس، ونتج عن ذلك الانقلاب مآس وكوارث إنسانية لا تزال مستمرة، تعاني منها أقلية الروهينغا بصورة أكثر مأساوية من غيرها من الأقليات الأخرى المضطهدة أيضاً.
كان الجيش في ميانمار قد انقلب على الحكم المدني واعتقل كبار قادة الدولة، خصوصاً الزعيمة أون سان سوتشي التي فاز حزبها بأغلبية ساحقة في انتخابات رفض نتائجها قادة الجيش، ليواصل الجنرالات ارتكاب "الفظائع" بحق مسلمي الروهينغا وباقي الأقليات الأخرى في الدولة الآسيوية.
وجاءت تونس أيضاً ضمن أبرز حالات تراجع الديمقراطية في العام الجاري، بحسب دراسة المعهد الدولي للديمقراطية، بعد أن قام الرئيس المنتخب قيس سعيد بحل البرلمان وتجميده والانفراد بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية أيضاً وفرض حالة الطوارئ في البلاد.
وتونس تحديداً كانت الدولة العربية الوحيدة التي نجح فيها الربيع العربي عام 2011 في التخلص من الحكم الاستبدادي للرئيس الراحل زين العابدين بن علي، واكتسبت التجربة الديمقراطية في الدولة العربية زخما على مدى عقد كامل، لكن الرئيس بقراراته التي اتخذها يوم 25 يوليو/تموز الماضي وضع التجربة برمتها على المحك.
كان سعيد قد قرر فجأة إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة قال إنه سيعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين. ثم مدد سعيد تجميد البرلمان لأجل غير مسمى ويسعى الآن لتغيير الدستور، وسط معارضة متصاعدة وعزلة دولية بسبب انفراده بالسلطة.
وكانت غالبية الأحزاب التّونسية الكبرى قد رفضت قرارات سعيد الاستثنائية، واعتبرها البعض "انقلاباً على الدستور"، بينما أيدتها أحزاب أخرى رأت فيها "تصحيحاً للمسار"، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية (جائحة كورونا)، لكن حتى من أيدوا الرئيس في البداية انفضوا الآن من حوله وانضموا للمعسكر الساعي للعودة إلى المسار الديمقراطي.
ورصدت الدراسة أيضاً عدداً من النماذج الأخرى، منها مالي التي شهدت انقلابين خلال عام واحد، مع وجود عدد من الانقلابات العسكرية الأخرى شهدتها القارة الأفريقية. لكن أوروبا أيضاً كانت حاضرة ضمن النماذج على تراجع الديمقراطية، وكانت المجر وبولندا وسلوفينيا وصربيا هي الدول الأوروبية الأكثر تراجعاً في الديمقراطية.
الولايات المتحدة وتراجع الديمقراطية
كما رصدت الدراسة كيف أن ديمقراطيات كبرى مثل الولايات المتحدة والبرازيل قد شهدت تشكيك رؤساء في صحة نتائج الانتخابات، فيما شهدت الهند ملاحقة قضائية لمجموعات من الأفراد الذين انتقدوا سياسات الحكومة.
وكان تشكيك الرئيس السابق دونالد ترامب في نتائج الانتخابات التي خسرها لصالح الرئيس الحالي جو بايدن غير مسبوق، من حيث عدم وجود أي دليل يدعم تلك المزاعم من جهة ومن حجم الكتلة الجمهورية المصدقة لتلك المزاعم من جهة أخرى، وحتى الآن لا تزال تلك المزاعم تمثل حجر الزاوية في الانقسام الخطير الذي تشهده السياسة والمجتمع الأمريكي بشكل عام.
وأدت تلك المزاعم إلى فضيحة اقتحام أنصار ترامب الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني الماضي بغرض منع التصديق على فوز جو بايدن، مما أدى لسقوط قتلى وجرحى وتعريض صورة إحدى أكبر الديمقراطيات الراسخة حول العالم إلى الاهتزاز العنيف بصورة غير مسبوقة.
وكان لتلك الأحداث التي شهدتها واشنطن تداعيات وتوابع ضخمة على المسرح الدولي، إذ وقع انقلاب ميانمار بعد أقل من ثلاثة أسابيع فقط، وبرر جنرالات ميانمار انقلابهم بالتشكيك في نتائج الانتخابات في البلاد أيضاً، وهو ما أرجعه عدد كبير من المحللين إلى ما فعله ترامب وأنصاره.
وخلصت الدراسة في هذه الجزئية إلى أن عدد الدول التي تنزلق نحو الاستبداد يتزايد في حين ارتفع عدد الديمقراطيات الراسخة المهددة إلى مستوى لم يبلغه من قبل قط.
وقالت الدراسة: "في الواقع، يعيش حالياً 70 بالمئة من سكان العالم إما تحت أنظمة غير ديمقراطية أو في دول تشهد تراجعاً في الديمقراطية".
وأدت جائحة كوفيد-19 إلى تنامي السلوك السلطوي الذي تنتهجه حكومات. وقالت الدراسة إنه لا يوجد دليل على أن أنظمة سلطوية كانت أفضل في مكافحة الجائحة على الرغم من أن تقارير وسائل الإعلام الصينية تقول العكس.
وركزت الدراسة بشكل خاص على تأثير الوباء، إذ قالت إن "الجائحة تقدم أدوات إضافية ومبرراً للخطط القمعية وإسكات المعارضة في دول مثل روسيا البيضاء وكوبا وميانمار ونيكاراغوا وفنزويلا".