رغم الترحيب العربي والدولي بالاتفاق الجديد بين الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، وعبد الله حمدوك رئيس الحكومة الانتقالية المقال، إلا أن اتفاق البرهان وحمدوك، قوبل بانتقادات حادة من القوى المدنية؛ لدرجة وصفه من قبل تجمع المهنيين السودانيين بالخيانة.
ونص الاتفاق الموقع بين البرهان وحمدوك على إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإلغاء قرار إعفاء حمدوك من منصبه رئيساً للوزراء، والعمل على بناء جيش قومي موحد، وإعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام البشير مع مراجعة أدائها، وإعادة التأكيد على أن الوثيقة الدستورية الصادرة في 2019 هي المرجعية لعملية الانتقال السياسي مع تعديلاتها المثيرة للجدل في عام 2020، والتي مدَّدت الرئاسة العسكرية لمجلس السيادة، وأرجأت موعد تسليم رئاسة المجلس للمكون المدني.
ويتضمن الاتفاق الذي وُقع أمس الأحد 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 تشكيل مجلس وزراء من الكفاءات، وهو ما قد يفهم أنه يعني إبعاد الأحزاب والقوى السياسية عن الحكومة.
وعلى الرغم من شبه الإجماع على أهمية عودة حمدوك إلى رئاسة الحكومة فإن قطاعاً كبيراً من الرافضين لإجراءات البرهان رفع سقف مطالبه بأن لا شراكة ولا تفاوض ولا حوار مع العسكر. وما زالت أعداد كبيرة منهم تواصل احتجاجاتها في شوارع العاصمة رافضة للاتفاق.
ويقول الرافضون اتفاق البرهان وحمدوك الجديد إنه لا يوجد "ضمان" أن قادة الجيش لن ينقلبوا على المدنيين مرة أخرى عند حدوث خلاف آخر، كما حدث في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
اتفاق البرهان وحمدوك انتحار سياسي
وصدرت أشد المواقف الرافضة لمضمون اتفاق البرهان وحمدوك من تجمع المهنيين السودانيين، الذي رشح حمدوك لمنصب رئيس الوزراء قبل عامين، حيث رفض الاعتراف بالاتفاق ووصفه بأنه "خيانة وانتحار سياسي للدكتور عبد الله حمدوك".
وقال تجمع المهنيين السودانيين، في بيان: "اتفاق الخيانة الموقع بين حمدوك والبرهان مرفوض جملة وتفصيلاً، ولا يخص سوى أطرافه، فهو مجرّد محاولة باطلة لشرعنة الانقلاب الأخير وسلطة المجلس العسكري، وانتحار سياسي للدكتور عبد الله حمدوك".
وأضاف البيان: "نقاط اتفاق الخنوع، على علاتها وانزوائها بعيداً دون تطلعات شعبنا، فإنها لا تعدو كونها حبراً على ورق، جرّب شعبنا عهود الانقلابيين الكاذبة وخبر خسّتهم ونقضهم لها".
ولوَّح التجمع باللجوء إلى الشارع لإسقاط الاتفاق، قائلاً إن "طريق شعبنا أكثر وضوحاً الآن من أي وقت مضى، إسقاط شراكة الدم وكل من يلتحق بها، ومواصلة المقاومة السلمية ببناء قواعد المقاوِمة في لجان الأحياء والكيانات النقابية، وتنويع أدوات الفعل المقاوم بلا توقف وصولاً للدولة المدنية الديمقراطية وسلطتها الثورية الخالصة".
واعتبر تجمع المهنيين السودانيين أن "هذا الاتفاق الغادر هو تلبية لأهداف الانقلابيين المعلنة في إعادة تمكين الفلول وتأبيد سلطة لجنة البشير الأمنية القاتلة، وخيانة لدماء شهداء ثورة ديسمبر/كانون الأول قبل وبعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الثاني، حسب تعبيره.
وقال: "يقيننا أن شعبنا سيبطله وسيواصل وقوفه الصامد، بوجه عواصف القمع والانتكاس التي تحاول إعادته للوراء، منصوب الشراع".
كما قوبل اتفاق البرهان وحمدوك برفض من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي الكتلة المدنية الرئيسية التي قادت الاحتجاجات المناهضة للرئيس السابق عمر البشير، ووقعت اتفاق تقاسم السلطة في العام 2019 مع الجيش، وقالت في بيان: "نؤكد موقفنا الواضح والمعلن سابقاً أنه لا مفاوضات ولا شراكة ولا شرعية للانقلاب".
وطالبت بمحاكمة قادة الانقلاب، بتهمة تقويض شرعية العملية الانتقالية وقمع المتظاهرين وقتلهم.
احتجاجات ضد الاتفاق
وبالتزامن مع توقيع اتفاق البرهان وحمدوك، احتشد آلاف المتظاهرين أمام القصر الرئاسي رفضاً للحكم العسكري، فيما أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع في محاولة لتفريقهم، فيما قتل فتى بعد توقيع الاتفاق أمس الأحد في القصر الجمهوري.
وقال صديق أبو فواز، من تحالف قوى الحرية والتغيير، لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إن "مستقبل البلاد سيحدده الشباب على الأرض".
وقال الدكتور أمجد فريد الطيب، الذي كان مساعداً لرئيس ديوان حمدوك، لـ"بي بي سي" إنه يعتقد أيضاً أن الاتفاق لا قيمة له.
في الخرطوم ومدينتي كسلا وعطبرة في شرق وشمال البلاد، نظم آلاف السودانيين، أمس الأحد، احتجاجات ضد الانقلاب العسكري رغم إعلان الاتفاق السياسي الجديد.
خلافات سابقة بين تجمع المهنيين وحمدوك
ورغم موقف حمدوك الرافض لانقلاب البرهان، ورفضه الضغوط للاعتراف به خلال فترة احتجاز الجيش له إلا أن هناك مؤشرات حتى قبل توقيع الاتفاق على خلافات بين قوى إعلان الحرية والتغيير وحمدوك.
ففي ذروة الأزمة وخلال فترة اعتقال حمدوك، تحدث تجمع المهنيين السودانيين عن طرح بديل لحمدوك.
كما أن التجمع اشترط أن تكون عودة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك مرتبطة بسلطة مدنية كاملة.
وأوضح الوليد علي، المتحدث باسم التجمع، لموقع "سكاي نيوز عربية"، أن قوى الثورة السودانية حددت موقفاً يتمثل في رفض أي توجه لإعادة الحكومة المدنية في ظل استمرار الإجراءات التي اتخذها القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول.
ويرى البعض أن الاتفاق بين البرهان وحمدوك يعترف بشكل ما بالإجراءات التي اتخذت خلال الانقلاب، حيث يقول المحلل السياسي عادل عبد الحليم للجزيرة نت إن الملاحظة الأبرز هي تأسيسه على الإجراءات التي اتخذها البرهان بصفته قائداً للجيش، ووضِع بموجبها حمدوك قيد الإقامة الجبرية، قبل رفع هذا القيد واستقباله في القصر الرئاسي حراً طليقاً، ما يعني الاعتراف بهذه الإجراءات.
وأضاف أن الاتفاق الذي تحدثت بنوده عن تفعيل الشراكة والعمل سوياً لاستكمال مهام الفترة الانتقالية، وتكوين حكومة وطنية من تكنوقراط، جعلت من المجلس السيادي مشرفاً على الأداء التنفيذي.
حمدوك يدافع عن الاتفاق
من جهته، قال حمدوك إن الاتفاق الذي وقَّعه مع قادة الجيش يهدف لإعادة البلاد إلى الانتقال الديمقراطي وحقن الدماء بعد مقتل شبان سودانيين خلال احتجاجات على سيطرة الجيش على السلطة.
وأشار حمدوك إلى أنه يعرف أن لدى الشباب القدرة على التضحية والعزيمة وتقديم كل ما هو نفيس لكن "الدم السوداني غال". ودعا إلى حقن الدماء وتوجيه طاقة الشباب إلى البناء والتعمير.
وقال حمدوك لقناة الجزيرة إن الاتفاق أعطاه الحرية الكاملة لتشكيل حكومته، وإجراء انتخابات قبل يوليو/تموز من عام 2023، كما يسمح بالإفراج عن السجناء السياسيين.
وأضاف حمدوك، إن "التوقيع على الاتفاق يعالج كل قضايا المرحلة الانتقالية.. ويحصن التحول المدني الديمقراطي ويوسع دائرة الانتقال السياسي".
من المستفيد من اتفاق البرهان وحمدوك؟
ومن المعروف أن حمدوك الذي كان يسارياً في الأصل تولى مناصب دولية عدة، ولكنه اكتسب شهرة بعد ترشيحه من قبل تجمع المهنيين السودانيين لرئاسة الحكومة، حيث حقق بعض النجاحات في عدد من الملفات على رأسها تخفيض ديون السودان، ومحاولة إدارة أزمة العملة.
ولكن الرجل انتقد من قبل القوى المدنية لضعفه أمام العسكر، وهو ما بدا واضحاً في قبوله على مضض بالتطبيع مع إسرائيل الذي قاده البرهان والفريق محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع.
والآن، فإن الخلاف بين حمدوك وقوى إعلان الحرية والتغيير من شأنه أن يضعف الطرفين لصالح العسكريين، وقد يكون هذا الهدف الأساسي للاتفاق من قبل البرهان.
فابتعاد حمدوك عن قوى الحرية والتغيير من شأنه إفقادها الكثير من الزخم الشعبي، خاصة في الأوسط الشعبية غير المسيسة بعد أن أصبح الرجل الوجه الأشهر للقوى المدنية.
وفي المقابل، فإن الخلاف يضعف حمدوك أكثر أمام العسكريين، ويهدد بشرخ مزمن بين حمدوك والقوى الثورية، وما قد يعني احتمال عدم توفير دعمها له إذا كان هناك حاجة جديدة له.
ويجب تذكر دوماً أن الذي منع إنجاح الانقلاب عليه هو الشارع السوداني الرافض لإجراءات البرهان، وحمدوك إذا عاد لرئاسة الحكومة دون تأييد الشارع فإنه سوف يصبح مجرد موظف يستطيع قائد الجيش عزله في أي وقت.
وإذا كان البرهان لم يحترم وثيقة تسليم السلطة في البداية، فكيف يفترض أن يحترم الاتفاق الجديد الذي يفتقد الزخم الشعبي للاتفاق الأول، والأهم أن اتفاق البرهان حمدوك الأخير يبدو مطاطياً تماماً يقوم على حسن نوايا لا يمكن ضمانه بأي حال من الأحوال بعد تجربة الانقلاب الأخير.
يبدو أن البرهان هو الفائز الأول من الاتفاق، الذي أخرجه من مأزقه بعد أن كان الشارع السوداني يغلي لاعتقال حمدوك، ولكن البرهان يراهن في الأغلب على حدوث انقسام بين المطالبين بالتهدئة على غرار حمدوك والمطالبين بالتصعيد.
قد يكون الجانب الإيجابي الوحيد الذي يمكن تحقيقه للقوى المدنية أن تتحول القوى الرافضة للاتفاق إلى أداة ضغط للحصول على مزيد من التنازلات من العسكريين وحمدوك للإسراع بتسليم السلطة، ولكن على القوى المدنية أن تحدد هدفها بسرعة إجراء الانتخابات وليس محاولة إطالة فترة المدة الانتقالية ومحاولة حكم البلاد عبر الشارع.