يُطلق عليه لقب "آخر ديكتاتور في أوروبا"، فهو الزعيم المتقلّب الذي يقف في قلب الصراع الحدودي بين بولندا وليتوانيا، كما أنّ له تاريخاً طويلاً من تحدي الغرب. إنّه رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو. وإليكم ما تحتاجون لمعرفته عن الزعيم البيلاروسي.
من هو زعيم بيلاروسيا لوكاشينكو؟
على مدار نحو ثلاثة عقود قضاها في السلطة، صنع مدير مزرعة الخنازير السوفييتية السابق لوكاشينكو (67 عاماً) حول نفسه "هالةً قدسية" لشخصيته باعتباره "الباتكا" أو أبو الشعب البيلاروسي كما تقول صحيفة New York Times الأمريكية.
وحوّل لوكاشينكو دولته الحبيسة، التي تُحيط بها روسيا وبولندا وأوكرانيا وليتوانيا ولاتفيا، إلى منطقةٍ عازلة موثوقة بين روسيا وبين خصومها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
لكن نهج تزوير الانتخابات، وإسكات المعارضة، وقمع المعارضين بالعنف منذ زمنٍ بعيد كان له أثره، إذ اندلعت احتجاجات شعبية في أغسطس/آب من العام الماضي بعد أن أعلن لوكاشينكو فوزه الكاسح في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي اعتبره كثيرون ضرباً من ضروب الخيال. وقد اختبرت هذه الانتفاضة الشعبية مدى إحكام قبضته على السلطة أكثر من أي وقتٍ مضى.
كيف صعد لوكاشينكو إلى السلطة؟
برز لوكاشينكو على الساحة العامة أوائل التسعينيات، حين قدّم نفسه كبطلٍ شعبي شعبوي يُواجه النخب الفاسدة والبلطجية وغير الأخلاقية. حيث صعد على المنبر في المجلس الأعلى البيلاروسي شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1993، وانتقد "الفوضى" و"المحتالين" في البلاد بلكنته الريفية الخشنة.
في العام 1990، انتخب لوكاشينكو كنائب في المجلس الأعلى لجمهورية بيلاروسيا، وكان النائب البرلماني البيلاروسي الوحيد الذي صوت ضد التصديق على اتفاق ديسمبر 1991 الذي يقضي بحل الاتحاد السوفيتي وإنشاء رابطة الدول المستقلة مكانه.
بعد ذلك، جاء صعوده إلى السلطة سريعاً، حيث صار أول رئيسٍ منتخب في البلاد عام 1994. ولا يزال لوكاشينكو يُقدّم نفسه على أنّه حامي حمى المستضعفين. لكن حكومته اعتادت مضايقة وسجن وتعذيب منتقديه، إذ اختفى بعضهم بينما اختار آخرون المنفى طواعيةً لتجنّب السجن، كما تعتقل حكومته الصحفيين وتقمع وسائل الإعلام المستقلة.
بينما ينظر الكثيرون إلى ابنه نيكولاي (17 عاماً) باعتباره وريثه غير المعلن.
احتجاجاتٌ حاشدة على انتخابات 2020
في صيف عام 2020، اندلعت أكبر تظاهرات في تاريخ بيلاروسيا بعد أن أعلن لوكاشينكو فوزه بأكثر من 80% من الأصوات في انتخابات الرئاسة، التي اعتبرها الكثيرون مزوّرة، حيث كانت الحكومة قد حكمت بعد أهلية غالبية منافسيه المحتملين للترشّح في الانتخابات.
وقد أثارت مزاعم الفوز الكاسح موجة غضبٍ واسعة آنذاك، في وقتٍ كانت البلاد تترنّح خلاله من ارتفاع معدلات الإصابة بكوفيد-19 وآثار أزمةٍ اقتصادية. وبعد أسبوعٍ واحد من انتخابات التاسع من أغسطس/آب، خرج آلاف المحتجين إلى الشوارع- وتُشير بعض التقديرات إلى أنّ عددهم كان 200 ألف شخص- وملأوا وسط العاصمة مينسك. وكانت تلك المظاهرات أشبه بتحدٍّ قوي للسلطة في بلد يبلغ تعداد سكانه 9.5 مليون نسمة. وكانت تلك الاحتجاجات هي أصعب اختبارٍ يُواجهه لوكاشينكو لمعرفة ما إذا كان قمعه الوحشي كافياً لإبقائه في السلطة.
وفي النهاية، نجح في إسكات منتقديه مؤقتاً بحملة قمع عنيفة على يد الشرطة، واعتقال وقمع كبار المعارضين، حيث تم القبض على أكثر من 32 ألف متظاهر، ومات أربعةٌ على الأقل خلال الاحتجاجات، لكن تلك الأحداث سلّطت الضوء على مدى هشاشة النظام السياسي البيلاروسي.
تغيير مسار طائرة للقبض على أحد المعارضين
في كتالوج القمع المستمر منذ عقود، تحوّلت هذه الواقعة إلى مثالٍ حي على ما يُمكن للوكاشينكو فعله في سبيل القضاء على المعارضة، إذ أرسل في مايو/أيار مقاتلةً حربية لاعتراض رحلة خطوط طيران Ryanair الأيرلندية التي كانت تمر فوق المجال الجوي لبلاده، وأمرت المقاتلة طائرة الركاب بالهبوط في العاصمة مينسك. وحينها تم اعتقال الصحفي المعارض البارز رومان بروتاسيفيتش (26 عاماً)، الذي كان على متن الطائرة الأيرلندية.
وقد أثار الهبوط الاضطراري لطائرة الركاب إدانةً دولية، إذ تم تحويل مسار الطائرة المتجهة من أثينا إلى ليتوانيا حتى تهبط في مينسك بذريعة وجود قنبلة على متنها، وفقاً للسلطات الغربية التي وصفت الواقعة بأنّها من أعمال القرصنة. ولم يُعثَر على أي قنبلة على متن الطائرة بالطبع.
وفي مقطع فيديو نشرته الحكومة لاحقاً، اعترف بروتاسيفيتش بالمشاركة في تنظيم "اضطرابات شعبية"، لكن أصدقاء له قالوا إنّه أدلى بالاعترافات تحت الإكراه.
النزاع حول المهاجرين على الحدود البولندية
اندلعت آخر الأزمات على حدود بولندا مع بيلاروسيا حين اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن لوكاشينكو كان يُنظم تدفق آلاف المهاجرين إلى حدود الاتحاد الأوروبي، انتقاماً من العقوبات التي فرضتها الكتلة الغربية على بيلاروسيا.
وكانت نقطة الاشتعال في بولندا، الدولة الأوروبية التي تحكمها حكومةٌ يمينية مناهضة للهجرة، إذ احتشدت دول الاتحاد الأوروبي حول بولندا بالتزامن مع وصول آلاف المهاجرين إلى حدودها وتخييمهم في البرد. وقال مسؤولون غربيون إنّ أهداف لوكاشينكو تشمل بث روح الانقسام بين الدول الأوروبية بخلق أزمة مهاجرين.
ويعلم الحاكم البيلاروسي أن الهجرة مسألة خلافية بشدة بين دول الاتحاد الأوروبي، وداخل كل دولة من الدول الأعضاء. فقد أحدثت إستراتيجية بولندا لصد المهاجرين مرة أخرى إلى بيلاروسيا صدعا في علاقتها مع بلجيكا التي تضم مقر الاتحاد الأوروبي؛ ما زاد من سوء علاقتهما المتوترة بالفعل. وكان لوكاشينكو على علم بأن المهاجرين الذين اقتادهم نظامه نحو دخول لاتفيا وليتوانيا وبولندا لن يبقوا هناك على الأرجح، ففي سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول، سجلت الشرطة الألمانية وصول 7300 مهاجر إلى ألمانيا عن طريق بولندا وبيلاروسيا. وبدوره، تسبَّب هذا التدفُّق من المهاجرين في سفر نشطاء اليمين المتطرف الألمان إلى الحدود محاولين منع المهاجرين من الدخول.
ولا تزال القارة تترنّح من أزمة اللاجئين في عامي 2015 و2016 حين وصل أكثر من مليون مهاجر من الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أوروبا، ليخلقوا تحدياً إنسانياً ضخماً ويُعززوا صعود الأحزاب اليمينية المتشددة التي تناهض الاتحاد الأوروبي والإسلام.
"ليس رئيساً أسطورياً.. بل رجُل بوتين المُخلص"
خلال الأزمة الأخيرة، عاد لوكاشينكو مرةً أخرى ليقدم نفسه في صورة "حامي حمى مصالح وشرف بيلاروسيا". لكن الباحث في مؤسسة European Council on Foreign Relations غوستاف غريسيل قال إنّ محاولته إضفاء طبيعةٍ أسطورية على نفسه لم تعُد مُجدية.
إذ نجح حكام مستبدون آخرون في أوروبا أن يُقدموا أنفسهم بروايات مقنعة، مثل فلاديمير بوتين الروسي الذي يُريد إعادة إحياء الأمجاد السوفييتية، وفيكتور أوربان المجري حامي حمى المسيحية الأوروبية. لكن غريسيل يرى أنّ "لوكاشينكو لا يمتلك روايةً من هذا النوع".
ويظل لوكاشينكو مجرد بيدق في يد الزعيم الروسي بوتين يبتز به الأوروبيين كلما سنحت له الفرصة. وفي أحدث تصريحاته عن العلاقة الوثيقة مع روسيا، قال لوكاشينكو في مقابلة مع قناة CNN الأمريكية الشهر الماضي مهدداً الغرب، إن بلاده ستتحول إلى "قاعدة عسكرية موحدة لبيلاروسيا وروسيا في حالة حدوث عدوان خارجي". وقال: "إذا لزم الأمر، ستتحول بيلاروسيا إلى قاعدة موحدة مع روسيا، وقاعدة عسكرية لمقاومة عدوانكم.. إذا كنتم أنتم أو بعض الدول المجاورة ترغب في القيام بذلك، يجب أن تفهموا ذلك بوضوح".
أخيراً، يحكم لوكاشينكو دولة تستمد معظم أهميتها على الساحة الدولية، من ناحيتين فقط، الأولى جوارها بروسيا راعيتها، والثانية باعتبارها مدخلاً يستطيع المهاجرون النفاذ منه إلى القارة الأوروبية. ولهذا السبب، وبالنظر على مدار تاريخ علاقته القوية ببوتين التي شابتها توترات صغيرة ومؤقتة –أحيانًا- سرعان ما تلاشت بعد ذلك. فإنه من الأجدر وصف لوكاشينكو، بأنه الديكتاتور المُحب للسلطة نفسها والذي لن يُغادر الرئاسة إلا في حالتين، أحدهما الوفاة والأخرى رفع يد دعم بوتين عنه، والثانية كانت وشيكة خلال احتجاجات 2020، لولا تدخل بوتين في اللحظات الأخيرة وإدارة الدفة لصالح حليفه الذي تعلم الدرس الأهم في مسيرته، وهو أنه ليس بمقدوره النجاة أبداً من دون عون بوتين.