أنفقت الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار خلال 20 عاماً من "الحرب على الإرهاب" دون أن تحقق شيئاً. وبعد الانسحاب من أفغانستان، توقع كثيرون تخفيض ميزانية البنتاغون، فماذا حدث؟
قبل الدخول في تفاصيل ميزانية البنتاغون، التي شهدت زيادات هائلة مطردة منذ عام 2001، نرصد سريعا تقارير هيئة الرقابة في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، والتي ترفع تقاريرها بشكل دوري إلى الكونغرس. إذ رصدت تلك التقارير بشكل دوري، منذ غزو أفغانستان ولمدة 20 عاماً، "إهدار" مليارات الدولارات بصورة غير مبررة.
وعلى سبيل المثال، كان تقرير قدمته هيئة الرقابة المسؤولة عن جهود إعادة الإعمار في أفغانستان، تم تقديمه للكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020، رصد ضياع حوالي 19 مليار دولار بين مايو/أيار من عام 2009 و31 ديسمبر/كانون الأول من عام 2019.
تأثير الانسحاب الكارثي من أفغانستان
في ظل التداعيات الكارثية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي وصفه الكثيرون بأنه جاء "مهيناً" للدولة الأقوى في العالم، تعالت المطالبات بفرض رقابة صارمة على ميزانية البنتاغون ومحاسبة المسؤولين عما حدث. وتركز ذلك على مئات المليارات التي أنفقها البنتاغون على تكوين وتدريب وتسليح الجيش الأفغاني، الذي انهار دون مقاومة أمام حركة طالبان العائدة لحكم أفغانستان.
ورصد موقع The Intercept الأمريكي هذا السجال الذي شهدته أروقة واشنطن، في تقرير عنوانه "بعد كارثة أفغانستان.. البنتاغون في الطريق للحصول على مزيد من المال"، ألقى الضوء على كيفية تعامل إدارة بايدن والكونغرس مع ميزانية البنتاغون.
إذ كان من المفترض أن تكون أفغانستان "الحرب الجيدة" بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، بمعنى آخر الحرب ذات الهدف المشروع والنهاية السعيدة. لكن تبين أنَّ هذا خطأ، وفي حين أنَّ زخم الحرب صب في صالح طالبان لسنوات، جاء الخروج مثل ضربة مقصلة مفاجئة، مع الكثير من الألم.
وكان من الممكن أن تكون هذه الهزيمة فرصة لإعادة التفكير في منطق آلة الحرب الأمريكية. هذا ما تفعله الهزائم غالباً؛ إنها تجبرك على إعادة النظر في الاتجاهات المدمرة التي أسقطتك في الحفرة من البداية.
ويتمثل أحد هذه الاتجاهات في الارتفاع المستمر في الإنفاق العسكري الذي لا يحظى بتأييد شعبي كبير، إذ حتى قبل سقوط كابول في يد طالبان، أظهرت استطلاعات الرأي باستمرار أنَّ أقلية فقط من الأمريكيين تعتقد أنَّ الولايات المتحدة يجب أن تنفق المزيد على دفاعها -وتحديداً 26% فقط في استطلاع أجرته مؤسسة Gallup في فبراير/شباط الماضي.
وفي اليوم الذي خرجت فيه الولايات المتحدة من أفغانستان، دعت النائبة باربرا لي، العضو الوحيد في الكونغرس التي صوتت ضد الغزو في عام 2001، الجمهوريين والديمقراطيين إلى إعادة تشكيل أولويات الإنفاق في البلاد في النهاية. وقالت: "حان الوقت الآن لتحويل استثماراتنا بعيداً عن الحروب التي لا نهاية لها ونحو تلبية الاحتياجات البشرية".
بايدن يرفع ميزانية البنتاغون
لفهم الخطوة التالية، علينا العودة إلى أبريل/نيسان، عندما اقترح الرئيس جو بايدن ميزانية للبنتاغون قدرها 715 مليار دولار لعام 2022، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 1.6% عن عام 2021. ولم يُسَر التقدميون بهذا الاقتراح، بل وازداد غضبهم عندما أضافت لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ 25 مليار دولار إلى اقتراح بايدن في أواخر يوليو/تموز من ذلك العام.
وهذه "الحوافز"، كما يُطلَق عليها، رفعت الميزانية إلى 740 مليار دولار، بزيادة قدرها 5% عن العام السابق. وبهذا المعدل، فإنَّ الإنفاق العسكري خلال العقد المقبل سيتجاوز بسهولة 7 تريليونات دولار، أو أربع أضعاف أعلى من 1.75 تريليون دولار لبرنامج إعادة البناء الأفضل الذي يحاول بايدن تمريره عبر الكونغرس.
وكانت تلك مقدمة تشريعية لدعوة النائبة باربرا لي إلى أولويات جديدة. بعد يومين، في 2 سبتمبر/أيلول، اجتمعت لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب للنظر في الميزانية العسكرية، وكما هو متوقع، تم تقديم تعديل من كبير الجمهوريين ليتناسب مع زيادة مجلس الشيوخ. وأدى هذا إلى بدء نقاش كان فيه أحد أقوى مؤيدي هذه الزيادة هي النائبة الديموقراطية إيلين لوريا، ضابطة البحرية السابقة التي تضم منطقتها فيرجينيا المحطة البحرية في نورفولك.
وقالت لوريا: "في كلمة واحدة، يمكننا تلخيص سبب ذلك، وهو الصين. إننا ننهي أطول صراع لنا المستمر منذ 20 عاماً، لكن العالم يراقب أكثر من أي وقت مضى ما نفعله هنا اليوم… في الوقت الحالي، هناك جهات فاعلة خبيثة تسعى إلى مهاجمتنا وإلحاق الأذى بنا".
الصين.. المبرر الجديد لزيادة الإنفاق العسكري
لقد كانت هذه خطوة قوة موثوقة على مدى عقود: عندما يتلاشى أحد التهديدات، يبدو أنَّ هناك تهديداً آخر يأتي في الوقت المناسب تماماً. إنَّ ما يسمى بالحرب على الإرهاب هي قوة مستهلكة، لكن الآن هناك الصين، التي تكرس لميزانيتها الدفاعية أقل بمقدار الثلثين من الولايات المتحدة ولا يُعرَف أنها تخطط لأية هجمات على غرار 11 سبتمبر/أيلول على الوطن – لكنها تمر بـ"لحظة سبوتنيك" ذات توقيت مناسب.
وفي النهاية، صوتت لجنة القوات المسلحة بأغلبية 42 مقابل 17 لزيادة الميزانية، مع انضمام 14 ديمقراطياً إلى 28 جمهورياً في تأييد الميزانية. قضت اللجنة وقتاً أطول بكثير في مناقشة نظرية السباق الحرج مقارنةً بالتعديل لخفض الميزانية.
قالت النائبة سارة جاكوبس، وهي ديمقراطية من كاليفورنيا، خلال المناقشة: "يبدو الأمر كما لو أننا لم نتعلم شيئاً من الأعوام العشرين الماضية". وأشارت إلى أنه بدلاً من ضخ الأموال في الجيش، يمكن تخصيص المزيد من الموارد للدبلوماسية والتعليم والبنية التحتية والصحة العامة. وخلصت إلى القول: "هذا ما سيحدد ما إذا كنا قادرين على المنافسة مع الصين، وليس ما إذا كان لدينا طائرة إف-35 أخرى حتى البنتاغون يقول إننا لسنا بحاجة إليها".
محاولات التقدميين لتخفيض ميزانية الجيش
قبل عام، اجتمعت مجموعة من الديمقراطيين في مجلس النواب بقيادة باربرا لي والنائب مارك بوكان، الديمقراطي عن ولاية ويسكونسن، لدعم تعديل لخفض الإنفاق العسكري الأمريكي بنسبة 10%. كان هناك 96 منهم فقط؛ لذلك لم يقترب تعديلهم من العدد المطلوب للمصادقة عليه، لكنه كان بداية لما يعرف التقدميون أنه سيكون جهداً إضافياً لتضييق المسافة بين الإنفاق العسكري والمنطق السليم.
بدأت الأمور تبدو أفضل هذا العام.. كان هؤلاء النواب قد شكَّلوا مؤتمر خفض الإنفاق الدفاعي وأرسلوا رسالة إلى بايدن في مارس/آذار لتذكيره بأنه حتى في حال خفض ميزانية البنتاغون بنسبة 10%، فستظل أكبر من أقوى 10 جيوش مجتمعة (التي معظمها لدول حليفة للولايات المتحدة).
وجادلوا بأنه يمكن تعلم درس واضح من الحرب على الإرهاب، التي لم تكلف تريليونات الدولارات فحسب، بل أودت أيضاً بحياة أكثر من 7000 جندي أمريكي ومئات الآلاف على الأقل من المدنيين العراقيين والأفغان. وجاء في رسالتهم قبل سقوط كابول بوقت طويل: "إنَّ فرضية السياسة الخارجية المتمحورة حول الجيش هي فاشلة".
وفي 22 سبتمبر/أيلول، وصلت الميزانية البالغة 740 مليار دولار، التي وافقت عليها لجنة القوات المسلحة، للتصويت في قاعة مجلس النواب، حيث دار نقاش قصير حول التعديل لخفضه بنسبة 10%. واستشهد النائب مايك روجرز، الجمهوري من ألاسكا، بالصين لرفض الخفض، وحذر من "آثار كارثية على تدريبنا واستعدادنا" إذا كان هناك أية تخفيضات في الميزانية. وقد قوبلت تصريحاته برد حاد من النائبة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، الديمقراطية من نيويورك، التي قالت إنَّ الخفض لا يهدد استعداد الجيش بل "هوامش ربح مقاولي الدفاع".
وحصل التعديل بالخفض على تأييد 86 صوتاً فقط، جميعهم من الديمقراطيين، وهو أقل من 93 صوتاً حصل عليها قبل عام، قبل الخروج المهين من أفغانستان. كانت هناك عدة أسباب لسوء الوضع، بما في ذلك حقيقة أنَّ ميزانية البنتاغون هذا العام جاءت من إدارة ديمقراطية وليست جمهورية، كان بعض الديمقراطيين مستعدين لخفض الميزانية فقط إذا كان الطرف الآخر يطلب زيادة.
بالإضافة إلى ذلك، طُرِح تعديل هذا العام لخفض الزيادة البالغة 25 مليار دولار فقط، وحصل هذا الاقتراح الأقل راديكالية على 142 صوتاً، وهو ما لم يكن كافياً لتمريره، لكنه كان أكثر من عدد الأصوات التي حصل عليه مقترح تعديل خفض الميزانية. ويبدو أنه مثّل طريقة سهلة للديمقراطيين للإشارة إلى قلقهم الطفيف بشأن الإنفاق العسكري دون مواجهة رئيسهم أو السعي إلى تخفيض حقيقي.
ووافق مجلس النواب على الميزانية البالغة 740 مليار دولار بدعم قوي من كلا الحزبين. ووصلت الميزانية الآن إلى أيدي مجلس الشيوخ بكامل هيئته، الذي من المتوقع أن يصوت عليها قريباً. وعلى الرغم من الفشل في أفغانستان، تبدو احتمالات تراجع الإنفاق العسكري الأمريكي ضئيلة.