"الأموال التي ادخرتها خلال إغلاقات الجائحة ستنفقها خلال الأشهر القادمة"، يتوقع الخبراء أن يكون هذا هو المشهد المالي لمعظم الناس خلال المرحلة القادمة مع تزايد مؤشرات على احتمال حدث موجة تضخم عالمية.
فبعدما بدأ العالم يتنفس الصعداء جراء خروجه من إغلاقات كورونا، بدأ يواجه موجة تضخم عالمية واسعة، هناك خلاف حول مداها أو متى تنتهي.
موجة تضخم عالمية محورها أوروبا هذه المرة
الأوروبيون يشعرون بقوة تسارع التضخم الذي يعد الأعلى خلال 30 عاماً، والذي تمثل أزمة أسعار الطاقة ولاسيما الغاز بؤرته.
فقلد ارتفعت أسعار المستهلكين في منطقة اليورو بنسبة 3.4% في سبتمبر/أيلول مقارنة بالعام السابق، وهو أسرع ارتفاع منذ 2008، مع الزيادات الأخيرة في أسعار الغاز والكهرباء التي من المقرر أن تدفع التضخم إلى أعلى في الأشهر المقبلة.
ولكن الأمر لم يعد يقتصر على الغاز، فمن الطاقة إلى الفواكه والخضراوات والإيجارات وغيرها، تسجل الأسعار في معظم الدول الأوروبية ارتفاعاً كبيراً يزعج السكان كما هي الحال في ألمانيا، نتيجة تضخم يقترب من 5% بوتيرة سنوية، لم تحدث منذ نحو 30 عاماً.
وفي الولايات المتحدة الوضع مشابه، حيث التضخم عند أعلى مستوى في 30 عاماً، بعد أن انطلق الأمريكيون في فورة إنفاق تسببت في نقص واسع النطاق، حسبما ورد في تقرير لموقع "NPR" الأمريكي.
كانت أسعار المستهلكين، وفقاً للمقياس المفضل للاحتياطي الفيدرالي، أعلى بنسبة 4.4% في سبتمبر/أيلول مما كانت عليه قبل عام. هذا هو أعلى معدل تضخم سنوي منذ عام 1991 وأكثر من ضعف هدف الاحتياطي الفيدرالي طويل الأجل البالغ 2%.
كما أن أجور العمال آخذة في الارتفاع، ولكن ليس بنفس سرعة الأسعار. في المتوسط، كانت الأجور والرواتب في سبتمبر/أيلول أعلى بنسبة 4.2% عما كانت عليه قبل عام.
أقر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بالصعوبات التي يمكن أن تسببها الأسعار المرتفعة باستمرار.
وقال باول للصحفيين: "على وجه الخصوص، يشهد الأشخاص الذين يعيشون من راتب ثابت تكاليف البقالة وتكاليف البنزين أعلى وعندما يأتي الشتاء سيشهدون كذلك تكاليف تدفئة أعلى لمنازلهم". "نحن نتفهم تماماً ما يمرون به وسنستخدم أدواتنا بمرور الوقت للتأكد من أن ذلك لن يصبح سمة دائمة في الحياة".
وفي العالم العربي، قابل التعافي الجزئي من الجائحة ارتفاع التضخم الكلي، الذي يقف وراءه عوامل دولية ومحلية معاً، مثل ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة وتكلفة الشحن عالمياً، وتداعيات انخفاض قيم العملات في وقت سابق، والتعافي المحلي الحالي في بعض البلدان، والتمويل النقدي في البعض الآخر. ويؤثر تضخم أسعار الغذاء على معدلات التضخم الكلي لا سيما في البلدان منخفضة الدخل. وأيضاً البلدان التي تمثل الأغذية المستوردة نصيباً كبيراً من بنودها الاستهلاكية.
ومن المتوقع أن يرتفع معدل التضخم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى 12.9% في عام 2021 مع وجود واحد من أعلى المعدلات في السودان واليمن. فحصلت السودان على أعلى نسبة تضخم بين الدول العربية بنسبة 194.6%، وبعدها اليمن بنسبة 40.7%، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة "سي إن إن" الأمريكية.
في الصين، ارتفعت أسعار المنتجين بأكثر من 10% في سبتمبر/أيلول 2021 مقارنة بالشهر نفسه قبل عام، وهي زيادة قياسية، حيث كافحت المصانع لتأمين ما يكفي من المواد الخام والكهرباء.
أسباب موجة التضخم العالمية
ارتفاع أسعار السلع الأساسية خلال الموجة الحالية من التضخم مدفوعة بمجموعة من العوامل.
تشمل عوامل دفع العرض ارتفاع أسعار المواد الخام، والاختناقات اللوجستية والنقل، ونقص السلع الوسيطة -مثل أشباه الموصلات- والعمالة. أصبحت هذه الأخيرة حادة بشكل خاص خلال الوباء، مما حد من قدرة العمال على أداء وظائفهم بسبب الإغلاق، وزيادة مسؤوليات رعاية الأطفال، وانخفاض التنقل والهجرة. قد تساهم أيضاً اللوائح البيئية الأكثر صرامة.
كما أن أوروبا على وجه الخصوص تتضرر من ارتفاع أسعار الغاز بسبب العوامل المناخية واللوجستية والجيوسياسية، حسبما ورد في تقرير لموقع Financial Management.
كيف سينعكس ذلك على المواطن العادي وأي السلع ستكون الأكثر ارتفاعاً؟
تشير الحكمة التقليدية إلى أنه مع زيادة تكاليف السلع والخدمات، يصبح الناس قادرين على تحمل تكاليف أقل بنفس الراتب.
وينتشر التضخم العالمي ليشمل مجموعة أوسع من السلع والخدمات حيث يفوق التعافي السريع في الإنفاق القدرة قصيرة الأجل للمصنعين وشركات الشحن ومقدمي الخدمات على زيادة الإنتاج.
أكبر موجة غلاء في أسعار الغذاء والطاقة
قفزت الطاقة بشكل هائل خاصة في أوروبا التي وصلت أسعار الغاز بها إلى مستوى غير مسبوق، كما قفزت أسعار النفط بالتبعية إلى مستويات غير مسبوقة منذ سنوات، وأدى تمنع أوبك بلس بقيادة السعودية وروسيا عن الاستجابة لطلب أمريكا بزيادة الإنتاج إلى المحافظ على أسعار مرتفعة.
وبينما نالت موجة ارتفاع أسعار الطاقة الاهتمام العالمي، فإن موجة الغلاء في الغذاء هي التي تكوي بطون الفقراء.
وقالت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إن أسعار الغذاء العالمية وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد بعد ارتفاعها بأكثر من 30% العام الماضي.
وسجلت أسعار الزيوت النباتية ارتفاعاً قياسياً بعد ارتفاعها بنحو 10% في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
ويساعد انقطاع الإمدادات وارتفاع أسعار السلع الأساسية وإغلاق المصانع والتوترات السياسية في ارتفاع الأسعار، حسبما نقل تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" عن الوكالة الأممية.
وقالت منظمة الفاو إن مقياسها لأسعار الحبوب ارتفع بأكثر من 22% مقارنة بالعام الذي سبقه.
كان سعر القمح أحد المساهمين الرئيسيين في هذا الارتفاع، حيث ارتفع بنسبة 40% تقريباً في الاثني عشر شهراً الماضية بعد أن عانى كبار المصدرين- مثل كندا وروسيا والولايات المتحدة- من ضعف المحاصيل.
المعادن تسجل أعلى ارتفاع منذ عقد
بعض المستثمرين توقعوا دورة سلعية جديدة فائقة الجودة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية.
انعكست المخاوف من تأثير أزمة الطاقة العالمية على إنتاج المعادن وأدت إلى ارتفاع أسعار النحاس والزنك والألمنيوم إلى أكثر من أعلى مستوياتها في عشر سنوات.
هناك أيضاً احتمال إنفاق تريليونات الدولارات على التحول الأخضر، مما دفع أسعار العقود الآجلة لخام الحديد للارتفاع بنسبة 50%، وفي الوقت نفسه خفضت الصين- أكبر منتج للصلب في العالم- حجم الإنتاج اليومي من الصلب الخام ليسجل أدنى مستوى منذ 3 سنوات، خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
العقارات.. توقعات بموجة غلاء قادمة
شهدت مصر زيادة لافتة في أسعار عدد من مواد البناء، خلال الأشهر القليلة الماضية، نتيجة ارتفاع سعر الخامات عالمياً، وزيادة شحنات التصدير للخارج، وتصدر الحديد والأسمنت قائمة المنتجات التي شهدت زيادة بنسبة وصلت إلى 30%، وتوقع أحمد الزيني رئيس شعبة مواد البناء بالاتحاد العام للغرف التجارية، أن ترتفع بالتبعية أسعار العقارات خلال عام 2022، مؤكداً أنها لن تقل عن نسبة 10%.
يتوقع أن تؤدي استمرار موجة التضخم إضافة إلى حرص البنوك المركزية العالمية بما فيها المصرية على عدم زيادة أسعار الفائدة إلى تحول العقارات إلى مخزون بديل للثورة بدلاً من المصارف، وهذا قد يعزز دورتها التصاعدية.
السيارات.. حتى المستعملة ارتفعت أسعارها
أدت أزمة الرقائق الإلكترونية إلى نقص عالمي في إنتاج السيارات، وارتفاع أسعارها، وبدأت تظهر في بعض البلدان العربية كمصر، ظاهرة الأوفر برايس أي فرض مبلغ إضافي غير رسمي لضمان سرعة تسليم السيارة، وبالإضافة إلى ذلك أدى النقص في السيارات الجديدة إلى ارتفاع أسعار السيارات المستعملة، في العديد من دول العالم.
البنوك المركزية حائرة
تنقسم الآراء حول ما إذا كانت نوبة التضخم الحالية ستكون "عابرة"، كما وصفها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أو يمكن أن تستمر وأن يكون لها تأثير اقتصادي أوسع نطاقاً.
بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عالق في عملية توازن دقيقة حيث يحاول التعامل مع مخاطر التضخم مع إخراج البلاد من جائحة غير مسبوق.
الخروج من الجائحة يتطلب حفض الفائدة أو الإبقاء عليها مخفضة، بينما محاربة التضخم يتطلب رفعها.
ويشعر بنك الاحتياطي الفيدرالي أن الاقتصاد لا يزال بحاجة إلى المساعدة نظراً لأن الولايات المتحدة لم تسترد حتى الآن ما يقرب من 5 ملايين وظيفة فقدت خلال الوباء.
رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول قال إنه من السابق لأوانه استخدام الأداة الأساسية للاحتياطي الفيدرالي لمحاربة التضخم: أسعار فائدة أعلى.
وقال "نريد أن نرى سوق العمل يتعافى أكثر".
جادل باول وآخرون بأن الضغط التصاعدي على الأسعار ناتج إلى حد كبير عن عوامل مؤقتة مرتبطة بالوباء، والتي ينبغي أن تخف من تلقاء نفسها بمرور الوقت.
ومع ذلك، أقر باول بأن اختناقات سلسلة التوريد والتضخم المرتفع الناتج من المرجح أن تستمر حتى العام المقبل. أضاف صناع السياسة في الاحتياطي الفيدرالي أيضاً ملاحظة تحذير في بيانهم الرسمي يوم الأربعاء. في حين تم وصف القوى التضخمية ببساطة بأنها "مؤقتة" في الماضي، فمن المتوقع الآن "أن تكون مؤقتة".
تكمن المشكلة في أنه بينما انخفضت أسعار بعض السلع الأساسية في الأشهر الأخيرة، استمرت العديد من الاختناقات في سلسلة التوريد، وازدادت سوءاً في بعض الحالات.
وجدت دراسة استقصائية لمديري المصانع الأمريكية الشهر الماضي أن الكثيرين يكافحون للعثور على قطع غيار ومواد خام- وعدد كافٍ من العمال- لمواكبة الطلب المتزايد. في مواجهة ارتفاع التكاليف على جميع الجبهات، قال أحد مصانع الأثاث إنه يدرس زيادة أسعاره للمرة الثالثة هذا العام.
قال باول إنه وزملاءه يقارنون ما يحدث بما يعرف بـ"دوامة الأجور وأسعارها" التي أدت إلى تضخم جامح في السبعينيات، لكنه لا يرى دليلاً على ذلك حتى الآن. وقال باول إنه إذا تحقق ذلك، فإن البنك المركزي مستعد لرفع أسعار الفائدة.
هل يتسبب التضخم في أزمة اقتصادية جديدة؟
يحذر بعض الاقتصاديين- بمن فيهم لورنس سمرز، الذي خدم في إدارتي أوباما وكلينتون- من أن الاحتياطي الفيدرالي يقلل من خطر التضخم. إنهم قلقون من أن الفشل في كبح جماح الأسعار الآن قد يؤدي إلى اتخاذ إجراءات صارمة أكثر إيلاماً في وقت لاحق.
ويحذر البعض من أن تضخم أسعار المستهلكين لم يشهد بعد التأثير الكامل للزيادات الحادة في الأجور والإيجارات التي حدثت في بعض البلدان. وهم يحذرون من احتمال حدوث دوامة تضخمية إذا احتاجت الشركات إلى رفع الأسعار لدفع أجور أعلى، مما يؤدي إلى مزيد من المطالب المتعلقة بالأجور. يشير البعض إلى أن النقص في أشباه الموصلات وارتفاع تكاليف الشحن قد استمر لفترة أطول مما كان متوقعاً؛ كما يبدو أن البنوك المركزية قد فوجئت بمستوى التضخم في منتصف العام.
في الفترة ما بين العامين 1974 و1975، شهد العالم الصناعي تدهور المؤشرات الاقتصادية الرئيسية: التضخم، وتراجع معدلات النمو، والبطالة. في ذلك الوقت، لم يفهم سوى القليل من الاقتصاديين أن هذه المؤشرات أعلنت دخول الدول الصناعية في أزمة اقتصادية ستستمر أكثر من عشرين عاماً.
وقال محافظ بنك كندا تيف ماكليم إن موجة التضخم الحالية مؤقتة لكنها ليست قصيرة الأجل، فالتضخم قد يستمر حول فترة أطول مما كان متوقعاً.
وأضاف: "أعتقد أن لكثير من الناس أن كلمة مؤقتة تعني أن الأمر سينتهي بسرعة وربما لا أعرف بالضبط ما هي الكلمة الصحيحة، ولكن ربما يكون شيئاً مثلك، مؤقتاً ولكن ليس قصير العمر".
وفي ألمانيا، تهاجم الصحف الشعبية البنك المركزي الأوروبي الذي ينظر في ألمانيا تقليدياً إلى سياسته المتمثلة في إبقاء معدلات الفائدة عند أدنى مستوياتها، لدعم الاقتصاد، على أنها سبب لارتفاع الأسعار و"إفلاس" المدخرين.
قالت كريستالينا غورغييفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي: "يجب أن نكون يقظين للغاية بشأن تطور التضخم".
ويعتقد العديد من الاقتصاديين أن ارتفاع التكاليف في القطاع الصناعي سيؤثر على التضخم لفترة طويلة، وأن الجمع بين خطط التعافي لدول الاتحاد الأوروبي، وخطة التعافي الأوروبية الشاملة البالغ حجمها 750 مليار يورو، والمدخرات القسرية الكبيرة للأسر الأوروبية بحجم 600 مليار يورو، ستؤدي بالتأكيد إلى زيادة كبيرة جداً في طلب المستهلكين، حسبما ورد في تقرير لموقع "العربية".
وسياسات الديون في العديد من البلدان الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، مرتفعة بشكل كبير، ولم يعد لدى البنك المركزي الأوروبي الكثير من الوسائل لصنع السيولة، لذلك يمكن أن تصبح سياسات التقشف في أوروبا حتمية، وفق تحليل لصحيفة La Tribune الفرنسية.
قال جيسي موريس، نائب الرئيس التنفيذي ورئيس العمليات في شركة الاستثمار Main Street Ca الأمريكية: "تحديات سلسلة التوريد، وارتفاع تكاليف المدخلات، والتأخيرات اللوجستية، وتحديات العمالة هي تحديات واسعة النطاق، وفي جميع القطاعات لا يبدو أن هناك حلاً سريعاً أو سهلاً"، "مع استقرار الإمدادات وتأثير ارتفاع الأسعار على الطلب، سيستقر التضخم في النهاية، ولكن من وجهة نظرنا سيكون من المرجح أن يكون على المدى المتوسط إلى المدى الطويل وليس حلاً على المدى القريب."