يبدو أن النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط قد وصل إلى ذروته، وأنه قد يكون مهدداً بأن يأكل نفسه، بعدما انتصر على خصومه المحليين، ولكنه أصبح محاصراً بالفقر والعوز في كل مكان.
إذ تمرُّ السياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية بوقتٍ عصيب، فالاستياء العالمي المتزايد من نهج طهران تجاه برنامجها النووي، والتأخير في العودة إلى المفاوضات، وكذلك التطوُّرات في الفناء الخلفي لإيران، كلُّ ذلك يقوِّض المزاعم الإيرانية بـ"المقاومة" الناجحة وزيادة النفوذ، حسبما ورد في تقرير لموقع The Atlantic Council الأمريكي.
إيران تريد التركيز على المنطقة وتجاهل الغرب
منذ فوز إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية في 18 يونيو/حزيران، وتوليه منصبه في أغسطس/آب، أكَّدَت إدارته باستمرار على العلاقات الوثيقة مع الدول المجاورة كأولوية قصوى. حتى إنه عندما عيَّن وزيراً للخارجية، استقرَّ اختياره على حسين أمير عبد اللهيان، الذي تقتصر خبرته على شؤون الشرق الأوسط.
وأكَّد عبد اللهيان، الذي شغل سابقاً منصب نائب وزير الخارجية للشؤون العربية والإفريقية، مراراً أثناء مخاطبته البرلمان للحصول على تصويت الثقة، أن المنطقة ستكون على رأس الأولويات. وقال في 22 يوليو/تموز: "نحن في غرب آسيا نسعى إلى إضفاء الطابع المؤسسي على إنجازات المقاومة على الأرض"، في إشارةٍ إلى العلاقات الإيرانية بجماعاتٍ مثل حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية.
ورغم تبجُّح الوزير، لم تكن التطوُّرات الأخيرة في الشرق الأوسط في صالح طهران، حسب الموقع الأمريكي.
في لبنان حليف إيران يتحمل كل اللوم، والبلاد أفلست
أُلقِيَ اللوم على أقرب حليفٍ لإيران، حزب الله اللبناني، في مجموعةٍ متنوِّعةٍ من الأزمات اللبنانية، بما في ذلك الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020. وشارك أعضاؤه في الاشتباكات المُسلَّحة الأخيرة في 14 أكتوبر/تشرين الأول، والتي اندلعت خلال الاحتجاجات ضد قاضٍ يحقِّق في كارثة المرفأ. ورغم أن حزب الله ينفي ضلوعه في أيِّ أعمال عنف، فإن العديد من اللبنانيين، الذين يتظاهرون في الشوارع منذ أكثر من عامين، يريدون إنهاء التدخُّل الإيراني في شؤون بلادهم. وهناك قلقٌ متزايد من اندلاع حرب أهلية جديدة.
كما يواجه "حزب الله" أزمة مالية خاصة به بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، ما يحدُّ من حصوله على العملة الصعبة. ونتيجة لذلك، بدأ الموظّفون المدنيون بالحزب يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، التي انهارت أسعارها، بينما لا يزال الموظّفون العسكريون يتقاضون رواتبهم بالدولار الأمريكي. وهذا يخلق فجوات مالية واجتماعية حادّة بين الموظفين العسكريين والموظفين المدنيين في الحزب، بينما يوسّع ذلك الفجوة بين أعضاء "حزب الله" والطائفة الشيعية على نطاق أوسع. كما اضطر "حزب الله" إلى الحد من خدماته الاجتماعية والأنشطة الخيرية للخروج من أزمته، ما يُضعف أدواته في المساعدة الاجتماعية والإنسانية ويجعلها غير كافية.
في العراق حلفاؤها يتراجعون في الانتخابات
في غضون ذلك، في أفغانستان، عادت حركة طالبان- العدو التاريخي لإيران- إلى السلطة، مِمَّا يعزِّز المخاوف بشأن مصير الشيعة الأفغان، الذين كانوا أهدافاً لهجمات تنظيم داعش في العراق والشام.
وفي العراق، مثَّلَت الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين الأول انتكاسةً للجماعات الشيعية المدعومة من إيران، حيث فاز الصدريون بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي ينظر له على أنه مستقل نسبياً عن طهران بأكبر عددٍ من المقاعد، وتراجعت قائمة الحشد الشعبي وغيرها من القوائم الموالية لإيران.
وفاز المرشَّحون المستقلون والتيارات السياسية التي نشأت بعد أشهرٍ من الاحتجاجات في الشوارع العراقية عام 2020 بعشرات المقاعد.
والجدير بالذكر أيضاً أن الانتخابات سجَّلَت أقل نسبة مشاركة منذ الغزو الأمريكي الذي أدَّى إلى إنشاء نظام سياسي جديد يهيمن عليه الشيعة.
ويسعى العراق بصورةٍ متزايدة إلى الاضطلاع بدورٍ مستقل وأن يصبح قوة موازنة بين إيران والمملكة السعودية- وهو الأمر الذي قد يقلِّل من نفوذ طهران. وخلال الحفل الاختتامي لقمة بغداد الأخيرة في 28 أغسطس/آب، التي جمعت عدداً من الخصوم الإقليميين، أثار أمير عبد اللهيان جدلاً بوقوفه في الصف الأول المُخصَّص لرؤساء الدول لالتقاط صورةٍ جماعية. وقد خرقت صورته بين رئيس الوزراء الإماراتي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، البروتوكول الدبلوماسي، وزادت الشكوك حول نوايا الجمهورية الإسلامية تجاه الدول العربية.
وكانت محاولة الاغتيال التي تعرض لها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والتي ينظر إلى أنها قد تكون من تدبير الحشد الشعبي الموالي لإيران، نموذجاً لشعور طهران البالغ بالقلق من وضعها داخل العراق، وإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا القلق خطيراً على البلاد.
ومنذ تولي الكاظمي رئاسة الوزراء في العراق، بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي في أعقاب اندلاع احتجاجات شعبية ضخمة، في أكتوبر/تشرين الأول، ضد الفساد في البلاد، اتسمت العلاقة بينه وبين فصائل الحشد الشعبي المدعومة من إيران بالتوتر والعداء المفتوح.
ولطالما اشتكت الدول العربية من دور الميليشيات والجماعات الأخرى التي أنشأها ورعاها فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي. ووزير الخارجية الإيراني الجديد معروفٌ بعلاقاته الوثيقة بفيلق القدس وتعيينه أدَّى في الواقع إلى تكثيف غضب الدول العربية من تدخُّلات الجمهورية الإسلامية، إذ إن تعيينه في هذا المنصب هَدَفَ إلى إظهار التركيز الإقليمي لإيران.
اختراق على جبهة السعودية وانتكاسة في جبهة أذربيجان
على الجانب الإيجابي لطهران، هناك المحادثات التي بدأت في عهد روحاني، سلف الرئيس رئيسي، بين إيران والسعودية. سيكون تطبيع العلاقات إنجازاً مهماً لحكومة رئيسي. ولقد دفعت كلٌّ من إيران والمملكة السعودية ثمناً باهظاً خلال السنوات الست الماضية من التوتُّرات. وسئمت المملكة السعودية من الحرب الطويلة في اليمن، وهي غير واثقة من الدعم الأمريكي، بينما تواجه إيران مشكلةً في دعم وكلائها فيما لا تزال العقوبات الأمريكية سارية عليها.
ومع ذلك، فإن الانفراج السعودي الإيراني لن يغيِّر خطوط الاتِّجاه. لا تسري التطوُّرات على حدود إيران الشمالية والشمالية الغربية في صالح البلاد. وقد أشعلت التوتُّرات الحدودية بين إيران وأذربيجان حرباً كلامية سياسية خطيرة. وسرعان ما أعقب إجراء مناورة عسكرية للجيش الإيراني في أكتوبر/تشرين الأول، بالقرب من الحدود مع جمهورية أذربيجان، تدريباتٌ مشتركة في باكو مع تركيا، وأخرى مشتركة أيضاً مع تركيا وباكستان.
وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول، انتقد الزعيم الأذربيجاني إلهام علييف المسؤولين الإيرانيين في مقطع فيديو قصير. وقال، مرتدياً زياً عسكرياً: "لا تغضبونا. إذا قلتم شيئاً عنَّا في وسائل الإعلام مرةً أخرى، فسوف نسير فوق رؤوسكم. لا أحد في العالم يقف إلى صفكم".
علاوة على ذلك، سخر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من إيران، إذ قال في 21 أكتوبر/تشرين الأول: "لا أتوقَّع أن تسفر الأحداث الأخيرة عن مواجهةٍ عسكرية بين إيران وأذربيجان".
وقال أردوغان للصحفيين آنذاك، رداً على سؤال بشأن إمكانية حدوث أزمة ساخنة مع إيران بعد تحول تركيا إلى قوة وفاعل أساسي في منطقة القوقاز: "شخصياً لا أتوقع ذلك.. لن تكون إيران في موقف يمكّنها من استهداف أذربيجان بسبب علاقتها مع إسرائيل".
وأضاف: "لأنه من ناحية، تتمتَّع أذربيجان بعلاقاتٍ مع إسرائيل، ومن ناحيةٍ أخرى، تأخذ إيران في الاعتبار العدد الكبير من السكَّان الأذريين لديها في الداخل".
الرهان على الصين ليس مجدياً على ما يبدو
يرى الموقع الأمريكي أن مشكلات طهران الإقليمية متأصِّلة في صعوباتٍ أكبر. لا يمكن أن نتوقَّع النجاح على صعيد الجوار دون حلِّ للحواجز أمام التجارة والاستثمار، والتي تشمل فشل إيران في سنِّ تدابير الشفافية المالية التي تتطلَّبها مجموعة العمل المالي واستمرار العقوبات الأمريكية الثانوية.
وبينما قالت إيران إنها ستعود إلى المحادثات النووية في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، تسبَّب التأخير الطويل في المفاوضات في استياءٍ حتى بين أصدقاء إيران، مثل روسيا والصين. وفي 23 أكتوبر/تشرين الأول، أعرب ميخائيل أوليانوف، ممثِّل روسيا لدى المنظَّمات الدولية، عن استيائه، على منصة تويتر، من تأخُّر إيران عن العودة إلى المحادثات.
تراهن إيران على زيادة تجارتها مع جيرانها في الشرق، خاصة الصين، وتوجّه رئيسي إلى آسيا الوسطى في رحلته الخارجية الأولى كرئيس لإيران، حين وقّعت طهران، على وثيقة الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون.
لكن واقعياً، أكَّد مسؤولون في حكومة حسن روحاني السابقة أن الصين، رغم استمرار شرائها غير المباشر للنفط الإيراني، لن تقدر على زيادة التجارة والاستثمار دون أن تصدِّق إيران على التشريعات المتعلِّقة بمجموعة العمل المالي.
لذلك، على عكس الحجة التي تروِّج لها حكومة رئيسي، لن تتمكَّن إيران من تحسين العلاقات بشكلٍ كبيرٍ مع دول المنطقة دون حلِّ مشكلاتها العالمية. وإذا استمرَّت طهران في رفض حلِّ خلافاتها مع الولايات المتحدة حول العودة إلى الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة، على سبيل المثال، فحتى الأصدقاء الإيرانيون قد يديرون ظهورهم للجمهورية الإسلامية.
وحتى في حال إحياء الاتفاق النووي، يُؤمن قادة إيران بأنّ ذلك لن يُعيد الشركات العالمية إلى أحضان طهران، لأنّ تخفيف العقوبات بموجب الاتفاق السابق لم يُحقّق الانفتاح المالي وتفاعل الشركات بالقدر الذي توقعه المفاوضون، لذا أوضحت المصارف والشركات الدولية هذه المرة أنّها لن تلتزم بأي اتفاق، لأنّ مسألة فرض عقوبات من جديد ستظل تلوح في الأفق.
النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط يترسخ في أرض خربة
يمكن القول إن النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط ما زال يحافظ على الأرض التي يسيطر عليها، بل يحقق انتصارات على خصومه المحليين، الذين هم من السنة في أغلب الأحوال، ولكن المشكلة أن بقدر سيطرة إيران على الدول العربية الأربع الخاضعة لها بقدر ما تسوء الأحوال في هذه الدول، ويقدم لبنان مثالاً واضحاً على ذلك، فحزب الله في أقوى موقف له في تاريخ البلاد، وفي ذات الوقت لبنان يمر بأسوأ أزمة اقتصادية مرت بها في دولة في العالم منذ 150 عاماً، حسب البنك الدولي، كما أن رئيس وزراء لبنان حسان دياب السابق حذر من تعرض بلاده لخطر الجوع.
وفي اليمن يواصل الحوثيون في التقدم وهزيمة الحكومة الشرعية المتحالفة مع السعودية، ولكن الأزمة الإنسانية التي توصف بأنها أسوأ في العالم تتفاقم، وحتى إذا انتصر الحوثيون فإن انفرادهم بحكم اليمن يعني أن ترفع السعودية يدها عن دعم اقتصاد البلاد، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم خطير للوضع الاقتصادي والإنساني للبلاد.
وفي العراق، لا يبدو التدهور الاقتصادي والفوضى السياسية لا مخرج منهما في ظل سياسات الميليشيات الموالية لإيران.
في سوريا نظام الأسد انتصر على أعدائه، ولكن إضافة إلى منافسة النفوذ الروسي لإيران، فإن سوريا نفسها محاصرة والوضع الاقتصادي متدهور بشدة خاصة بالمقارنة بالمناطق الخاضعة للإدارة الكردية أو للمعارضة المتحالفة مع تركيا.
إذ تبدو كل مناطق النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط خربة وكئيبة وتواجه عجزاً في مقومات الحياة الأساسية، ومع ترسخ نفوذ إيران يزداد تحميل السكان لطهران للمسؤولية عن هذا الوضع الذي يزداد تدهوراً بالفعل لأسباب عديدة منها النفوذ الإيراني، وحتى الآن تواصل طهران وحلفاؤها السيطرة على هذه البلدان عبر خليط من التنصل من المسؤولية والعنف والتحريض الطائفي، ولكن هذه الطرق لن تستمر للأبد.