تضاعفت حركة الاحتجاج حول العالم أكثر من 3 أضعاف خلال 15 عاماً فقط، فما السبب؟ دراسة جديدة رصدت إجابات متنوعة، بعضها يتعلق بالفساد والديكتاتورية والبعض يتعلق بالعنصرية ورفض الآخر.
ونشرت صحيفة The Washington Post الأمريكية تقريراً حول أبرز ما جاء في تلك الدراسة التي درست المظاهرات بين عامَي 2006 و2020. وجاء عنوان التقرير "لماذا يحتجّ العالم كثيراً؟ دراسة جديدة تزعم أنها توصلت بعض الإجابات".
لكن على الرغم من التوسع غير المسبوق في حركات الاحتجاج حول العالم، فإن الصورة العامة تشير إلى أن "المساحات الآمنة" أمام المعارضين والنشطاء وقادة الاحتجاجات تتقلص في مقابل ازدياد الذراع الأمنية للمستبدين طولاً وقدرة.
إذ كانت صحيفة New York Times الأمريكية قد تناولت هذا الملف الشائك، في تقرير لها، اختارت له عنوان "المساحات الآمنة تتقلَّص مع استهداف الحكَّام الديكتاتوريين المواطنين خارج الحدود"، وألقى الضوء على ما يمكن وصفه بقمة جبل الجليد لهذا التحول الخطير في ملف حقوق الإنسان، وممارسة أبسط قواعد الديمقراطية، وهو التعبير الحر عن الرأي، وكلمة السر كانت "حرب أمريكا على الإرهاب".
لماذا يحتج العالم بتلك الصورة؟
هل نحن في عصر تاريخي من الاحتجاجات؟ وجدت تلك الدراسة الجديدة، التي تم نشرها الخميس 4 نوفمبر/تشرين الثاني، أنَّ عدد الحركات الاحتجاجية في جميع أنحاء العالم قد تضاعف ثلاث مرات في أقل من 15 عاماً. وخلصت الدراسة إلى أنَّ كل منطقة شهدت زيادة في بعض أكبر حركات الاحتجاج التي سُجِّلَت على الإطلاق؛ بما في ذلك احتجاجات المزارعين التي بدأت في عام 2020 في الهند، واحتجاجات 2019 ضد الرئيس جاير بولسونارو في البرازيل والاحتجاجات المستمرة لحركة "حياة السود مهمة" منذ عام 2013.
جاءت الدراسة بعنوان "World Protests: A Study of Key Protest Issues in the 21st Century- الاحتجاجات العالمية: دراسة قضايا الاحتجاج الرئيسية في القرن الحادي والعشرين"، وأجراها فريق من الباحثين مع مؤسسة الأبحاث الألمانية فريدريش إيبرت شتيفتونغ ومبادرة الحوار السياسي غير الربحية التابعة لجامعة كولومبيا، وتضيف إلى مجموعة الأدبيات المتزايدة التي تتناول الاحتجاجات المتزايدة في عصرنا.
وبالنظر عن كثب إلى أكثر من 900 حركة أو حلقة احتجاجية عبر 101 دولة وإقليم، توصل معدو الدراسة إلى استنتاج مفاده أننا نعيش فترة من التاريخ مثل سنوات 1848 أو 1917 أو 1968 "عندما تمرَّد عدد كبير من الناس على الأوضاع مطالبين بالتغيير".
لكن لماذا؟ هنا، يسلط معدو الدراسة الضوء على مشكلة معينة: الفشل الديمقراطي. وجد بحثهم أنَّ غالبية أحداث الاحتجاج التي سجلوها -54 في المئة- كانت مدفوعة بفشل ملموس للأنظمة السياسية أو التمثيل الديمقراطي. وما يقرب من 28% تضمنت مطالب لما وصفته الدراسة بـ"الديمقراطية الحقيقية"، وهي أكبر مطالب وجدها الباحثون. وشملت الموضوعات الأخرى عدم المساواة والفساد وعدم اتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ. لكنْ الباحثون يقولون إنَّ صانعي السياسة لا يستجيبون استجابةً كافية.
الزعماء لا يستمعون للمحتجين
قالت سارة بيرك، كبيرة الخبراء في السياسة الاقتصادية العالمية في مؤسسة الأبحاث الألمانية فريدريش إيبرت شتيفتونغ، التي شاركت في الدراسة، قالت لواشنطن بوست: "عدد كبير جداً من القادة في الحكومة وقطاع الأعمال لا يستمعون. الغالبية العظمى من الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم تقدم مطالب معقولة وافقت عليها بالفعل معظم الحكومات. إذ يحتج الناس من أجل الوظائف الجيدة، وكوكب نظيف للأجيال القادمة، وقول مسموع في القرارات التي تؤثر في نوعية حياتهم".
تعني الاحتجاجات أشياء مختلفة لأناس مختلفين. صدرت الدراسة في نفس الأسبوع الذي نشرت فيه صحيفة The Washington Post تحقيقاً ضخماً من ثلاثة أجزاء عن اقتحام الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني من جانب أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي بدأت، جزئياً، احتجاجاً على مخاوف بعض المشاركين، التي أذكتها نظريات المؤامرة، حول التمثيل الديمقراطي.
وهناك أيضاً احتجاجات كبيرة بشأن تغير المناخ خلال هذا الأسبوع، على خلفية مؤتمر المناخ المنعقد غي غلاسكو، في ظل قلق بعض القادة الأوروبيين من أنَّ تكاليف التحول عن الوقود الأحفوري قد تؤدي إلى رد فعل عنيف مثل حركة احتجاج "السترات الصفراء" في فرنسا.
في الولايات المتحدة وحدها، شهدت السنوات الأخيرة احتجاجات ضخمة من حركة "احتلوا وول ستريت" و"حياة السود مهمة" إلى "حفل الشاي" وحملات "أوقفوا السرقة". لكن تتبع حجم الاحتجاجات العالمية مهمة ضخمة. فقد حذفت مشروعات أخرى؛ مثل قاعدة البيانات العالمية للأحداث واللغة والنغمة المدعومة من Google، المقالات الإخبارية المحتوية على بيانات حول الاحتجاجات.
وفي المقابل، اتخذت سارة بيرك، جنباً إلى جنب مع الباحثين المشاركين إيزابيل أورتيز ومحمد برادة وهرنان ساينز كورتيس، طريقة تستغرق وقتاً طويلاً؛ إذ عملوا عبر وسائل إخبارية بسبع لغات لتحديد الاحتجاجات وحركات الاحتجاج، وعثروا على مقالات "بالبحث اليدوي"، حسبما قالت الباحثة سارة بيرك رداً على أسئلة من Today's WorldView.
احتجاجات الدول الغنية أعلى من المناطق الفقيرة
الدراسة رصدت اتجاهات واضحة. ففي عام 2006، سجَّلت الدراسة 73 حركة احتجاجية فقط، مقارنة بـ251 حركة في عام 2020 -أي أعلى حتى من تلك التي أعقبت الأزمة المالية لعام 2008 أو ثورات الربيع العربي في عام 2011. وشهدت أوروبا وآسيا الوسطى أكبر زيادة في عدد حركات الاحتجاج وكان هناك المزيد من الاحتجاجات في البلدان ذات الدخل المرتفع مما كانت عليه في البلدان في فئات الدخل الأخرى، لكن لوحظ ارتفاع في الاحتجاجات عبر جميع المناطق ومستويات الدخل.
واحتفظ المؤلفون بسجلات لحركات الاحتجاج عبر سنوات مختلفة، وصنفوها على أنها "أحداث احتجاجية" منفصلة في حال امتدادها لأكثر من عام ليصبح المجموع الكلي 2809 حركات احتجاجية.
وبخلاف القضايا المتعلقة بالديمقراطية والتمثيل السياسي، يحدد التقرير تزايد عدم المساواة باعتباره موضوعاً واسعاً آخر للاحتجاجات في جميع أنحاء العالم؛ ويسهم بما يقرب من 53% من الاحتجاجات التي شملتها الدراسة. وجاءت القضايا الفردية التي أثارها المتظاهرون، ومنها الفساد، وظروف العمل، وإصلاح الخدمات العامة، عقب "الديمقراطية الحقيقية" باعتبارها أكثر القضايا المُسبِّبة للاحتجاج على نطاق واسع.
كانت هناك أيضاً زيادة كبيرة في المطالب بالعدالة العرقية أو الإثنية، كما هو الحال مع احتجاجات "حياة السود مهمة"، وكان هناك عدد صغير -لكن متزايد- من الاحتجاجات التي ركزت على إنكار حقوق الآخرين خلال هذه الفترة، وأشار الباحثون، في هذا الصدد، إلى حركة "بيجيدا" اليمينية المتطرفة في ألمانيا، والحركات المناهضة للصينيين في قرغيزستان وحركة "السترات الصفراء"، من بين حركات أخرى.
يقر معدو الدراسة بأنَّ عملهم سياسي بطبيعته. قالت الباحثة سارة بيرك: "لا توجد أرقام محايدة في الاحتجاجات"، معترفاً بأنَّ غموض بعض الأرقام، مثل تقديرات حجم الحشد، ترك بعض العناصر مفتوحة للتفسير. بجانب أنَّ الدراسة القائمة على الإنترنت مقيدة أيضاً بما أُبلِغ عنه. وأضافت: "لا يمكننا دراسة إلا ما نراه، الذي بدوره يتأثر تأثيراً متزايداً بمكاننا ومن نحن".
وبسؤالها عن تعريف "الديمقراطية الحقيقية"، أقرت الباحثة سارة بأنها شخصية إلى حد ما: "ديمقراطية شخص ما هي استبداد شخص آخر". لكن الدراسة حاولت الالتزام بظاهر كلمات المحتجين. ففي حالة 6 يناير/كانون الثاني 2021، في واشنطن العاصمة (والتي لم تتضمنها الدراسة لأنها كانت خارج إطارها الزمني)، قالت سارة إنها يمكن تصنيفها على أنها مظاهرة للمطالبة بـ"الديمقراطية الحقيقية"، لكنها في الوقت نفسه احتجاجاً يهدف إلى إنكار الحقوق، من بين تسميات أخرى.
ووجدت الدراسة أنَّ معظم الاحتجاجات ليست عنيفة مثل أعمال الشغب في الكونغرس، لكن كانت هناك زيادة بطيئة مطردة في العنف بين عامي 2006 و2020، مع ما يزيد قليلاً عن خُمس الاحتجاجات المُسجَّلة تنطوي على نوع من عنف الحشود أو التخريب أو النهب. وفيما يقرب من نصف الاحتجاجات التي شملتها الدراسة، كانت هناك تقارير عن اعتقالات، وشهد ما يزيد قليلاً عن الربع تقارير عن شكل من أشكال العنف من جانب الشرطة.
ربما تكون الحجة الرئيسية التي تثبتها الدراسة هي أنه في وجه تزايد الاحتجاجات، يجب على القادة أخذها على محمل الجد. وتقدر الدراسة أنَّ ما يقرب من 42% من الاحتجاجات المشمولة بأنها ناجحة -أو ناجحة جزئياً- على الرغم من أنَّ ذلك يختلف اختلافاً كبيراً حسب المنطقة ونوع الاحتجاجات، وهو رقم أعلى من بعض الدراسات الأخرى. وإذا استمرت حقبة الاحتجاجات، فهذا يشير إلى أنَّ العديد من المتظاهرين سيحصلون على الأقل على بعض ما يريدون.
وفي هذا السياق، علَّق مايكل برونينغ، مدير مكتب مؤسسة الأبحاث الألمانية فريدريش إيبرت شتيفتونغ في نيويورك: "لقد اكتسبت الاحتجاجات حول العالم سمعة مشكوك فيها مؤخراً. ينبغي لنا أن نفهم أنَّ الاحتجاجات ليست سلوكاً سيئاً، بل هي مبدأ جوهري للديمقراطية. كل ما نحتاجه هو إعادة تأهيل عالمي للاحتجاج".