اتفقت أطراف الاتفاق النووي وإيران على استئناف مفاوضات فيينا خلال ثلاثة أسابيع، فهل تشهد هذه الجولة جديداً في الملف الذي بات يمثل حجر الزاوية في الشرق الأوسط، أم تستمر سياسة حافة الهاوية؟
والاتفاق النووي هو الاسم المتداول إعلامياً لخطة العمل الشاملة المشتركة، وهي الاتفاقية التي كان قد تم توقيعها عام 2015 بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين مع إيران، بغرض إخضاع برنامج طهران النووي للرقابة الصارمة، لمنع الجمهورية الإسلامية من امتلاك قنبلة نووية.
وانسحبت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب، بشكل أحادي، من الاتفاق في مايو/أيار 2018، وأعادت واشنطن فرض العقوبات الاقتصادية على طهران وشددتها بصورة غير مسبوقة، وفي المقابل بدأت إيران تخفيف التزاماتها بموجب الاتفاق، دون أن تنسحب منه، فراكمت إنتاجها من اليورانيوم المخصب ورفعت نسبة نقائه إلى مستوى 60%، لتصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول للعتبة النووية العسكرية، بحسب التقارير الغربية.
الاتفاق النووي الملف الأهم لإدارة بايدن
ومنذ تولي الرئيس جو بايدن المسؤولية، في يناير/كانون الثاني الماضي، بات واضحاً أن إدارته تعيد ترتيب أولوياتها في ملفات السياسة الخارجية، ليصبح الشرق الأوسط بشكل عام شبه غائب عن المراتب الأولى في أجندة واشنطن، باستثناء الاتفاق النووي الإيراني، الذي كان التوصل إليه قد تم خلال إدارة باراك أوباما الرئيس الأسبق، الذي كان بايدن نائباً له.
وحتى قبل فوز بايدن بالرئاسة، كان قد أعلن عن نيته في إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما كرّره بعد توليه المسؤولية، ورغم أن طهران لم تنسحب رسمياً من الاتفاق النووي، فإنها رفضت العودة للالتزام ببنوده مرة أخرى، قبل أن ترفع إدارة بايدن جميع العقوبات التي فرضها ترامب، بل وتطالب طهران بتعويضات تقدر بالمليارات.
واستمرت لعبة التصريحات وشد الأصابع بين واشنطن وطهران قرابة ثلاثة أشهر، إذ تريد إدارة بايدن أن تعود إيران أولاً للالتزام ببنود الاتفاق النووي، ومن ثم رفع العقوبات، بينما تصر إيران على أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات أولاً، بينما تواصل الأطراف الأخرى (روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) الوساطة لتقريب المواقف.
واتفقت الأطراف على بدء مفاوضات بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي في نفس المدينة التي احتضنت التوقيع عليه أول مرة، وهي العاصمة النمساوية فيينا. وبدأت المفاوضات بالفعل، الثلاثاء 6 أبريل/نيسان الماضي، بمشاركة جميع الأطراف، دون أن يلتقي الوفد الأمريكي والإيراني وجهاً لوجه.
وشهدت فيينا 6 جولات ماراثونية من المفاوضات، كانت آخرها في الأسبوع الثالث من يونيو/حزيران الماضي، وسط أجواء تغلفها السرية في أغلب الأحيان وتضارب واضح في التصريحات المعلنة، خصوصاً من جانب طهران وواشنطن. وصرحت مصادر أوروبية وقتها أن إعادة إحياء الاتفاق النووي باتت وشيكة، وأن الوفود عادت لعواصمها للتشاور قبل التوقيع.
تصريحات متناقضة وتبادل الاتهامات
مع انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران، أواخر يونيو/حزيران، تزامناً مع تلك الجولة السادسة من مفاوضات فيينا، تأجلت المفاوضات حتى تولي الرئيس الجديد منصبه فعلياً خلفاً لحسن روحاني، الرئيس الذي توصلت حكومته للاتفاق النووي مع الغرب، لكن على الرغم من مرور نحو ثلاثة أشهر على تنصيب رئيسي، ظلت الأمور مجمدة حتى مساء الأربعاء، 3 نوفمبر/تشرين الثاني، بالإعلان عن موعد جولة المفاوضات المقبلة في فيينا.
ويمكن القول إن العنوان الأبرز للأشهر العشرة الماضية، منذ تولي بايدن المسؤولية، هو التصريحات المتناقضة من جانب واشنطن وطهران وتبادل الاتهامات بين الجانبين بشأن الاتفاق النووي.
فالرئيس الأمريكي تارة يؤكد أن العودة للاتفاق النووي مع إيران باتت وشيكة، وتارة أخرى يلوح باستخدام القوة لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي. وعلى الجانب الآخر، تفعل إيران الشيء نفسه، فتارة تقول إن العودة للاتفاق النووي باتت مسألة وقت، وتارة أخرى تلوح بأنها غير مهتمة بالتفاوض من الأساس قبل رفع إدارة بايدن جميع العقوبات.
وفي هذا السياق، قال علي باقري كني، كبير مفاوضي إيران في الملف النووي، مساء الأربعاء، إن المحادثات مع القوى العالمية حول إعادة الالتزام بالاتفاق النووي سوف تستأنف يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وقال باقري كني على تويتر "اتفقنا على بدء المفاوضات التي تستهدف إزالة العقوبات غير المشروعة وغير الإنسانية، في 29 نوفمبر في فيينا"، وهو ما أكده في وقت لاحق بيانان من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي واشنطن، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، إن واشنطن تأمل أن تعود طهران للمحادثات بحسن نية واستعداد للتفاوض. وتعتقد واشنطن أن المفاوضات ينبغي أن تستأنف من حيث توقفت، في يونيو/حزيران.
وقال برايس في إفادة صحفية، بحسب رويترز، "نعتقد أنه لا يزال من الممكن التوصل سريعاً إلى تفاهم بشأن عودة متبادلة للالتزام بالاتفاق وتنفيذه من خلال تسوية العدد المحدود نسبياً من الأمور التي ظلت معلقة في نهاية يونيو/حزيران.
وأضاف "نعتقد أنه إذا كان الإيرانيون جادين يمكننا تحقيق ذلك في وقت قصير نسبياً. (لكن)… هذه الفرصة السانحة لن تكون مفتوحة للأبد، خاصة إذا استمرت إيران في اتخاذ خطوات نووية استفزازية".
مؤشرات الفشل مقابل معطيات النجاح
من حيث المبدأ يمكن القول إن موافقة طهران أخيراً على استئناف مفاوضات فيينا يعتبرها فريق من المحللين مؤشراً إيجابياً، ففي نهاية المطاف إعادة إحياء الاتفاق النووي تمثل مصلحة استراتيجية لطهران، بحسب تلك الرؤية، نظراً للضغوط الاقتصادية الخانقة والعزلة السياسية التي تعاني منها البلاد.
وفي ضوء وجهة النظر هذه، تستخدم طهران سياسة حافة الهاوية والتصريحات العدائية كأداة للضغط من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات من جانب واشنطن، دون أن يؤدي ذلك إلى انفجار الموقف بشكل كامل وتحوله إلى صراع عسكري مفتوح.
ويدلل أصحاب هذا الرأي بتوقيت إعلان إيران موافقتها على استئناف المفاوضات، إذ شهدت الأيام القليلة الماضية عدداً من التصريحات والمواقف، الصادرة من واشنطن وأوروبا، وحتى من موسكو، التي تشير إلى أن صبر الجميع بدأ ينفد، خصوصاً في ظل تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بشأن تطور البرنامج النووي الإيراني.
وكان روبرت مولي، المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، قد صرح يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، أن جهود إحياء الاتفاق النووي وصلت إلى "مرحلة خطيرة"، وأن "أعذار طهران لتجنب المحادثات قد انتهت"، مضيفاً أنه "من المستحيل إحياء جثة هامدة"، بحسب رويترز.
وأضاف مولي أن واشنطن لم تصل بعد إلى مرحلة اعتبار الاتفاق النووي "جثة هامدة"، لكن هذا التقييم بات "وشيكاً للغاية"، مؤكداً على أن بلاده تمتلك "أدوات أخرى" لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي، دون مزيد من التفاصيل.
الرسالة ذاتها جاءت على لسان المسؤولين في العواصم الأوروبية، وخصوصاً باريس ولندن، بينما جاءت التصريحات الروسية أيضاً في سياق ضرورة العودة للاتفاق النووي، رغم إلقاء موسكو باللوم على واشنطن في الأزمة القائمة.
هذه المعطيات ترسم صورة تشير إلى أن الجولة المقبلة من المفاوضات في فيينا ربما تشهد انفراجه في الملف الأخطر في الشرق الأوسط، ويتم التوصل أخيراً لاتفاق بشأن برنامج إيران النووي، سواء عاد اتفاق 2015 بنفس بنوده أو تم التوصل لاتفاق جديد.
لكن هناك معطيات أخرى لا يمكن تجاهلها، وترسم صورة أقل إيجابية بالطبع، تتمثل أجزاؤها في الوضع الإقليمي المضطرب من الأساس. فدول المنطقة، وبخاصة السعودية والإمارات، كانت معترضة بالأساس على الاتفاق النووي الأصلي، إضافة إلى إسرائيل، وتريد تلك الدول وغيرها من دول المنطقة أن يتسع نطاق الاتفاق مع إيران ليشمل برنامج طهران للصواريخ الباليستية وتدخلها في شؤون دول المنطقة من خلال وكلائها، كحزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي، إضافة إلى دعم طهران للحوثيين في اليمن وللنظام السوري برئاسة بشار الأسد.
الجزء الآخر من الصورة يتعلق بإسرائيل تحديداً، ومدى ما يمكن أن تقبل به إدارة بايدن من شروط إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، دون أن يؤدي ذلك إلى خسارة الديمقراطيين للوبي الداعم لتل أبيب في واشنطن، خصوصاً في ظل نجاح الجمهوريين في إلحاق هزائم انتخابية غير متوقعة بحزب بايدن في انتخابات الولايات الأخيرة، خصوصاً في فيرجينيا.
وكان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، قد أشار الأربعاء، إلى أن مفاوضات إحياء الاتفاق ستفشل إذا لم يتسن للرئيس الأمريكي جو بايدن ضمان عدم تخلي واشنطن عن الاتفاق مرة أخرى.
الملف النووي الإيراني باختصار بات يمثل أخطر ملفات الشرق الأوسط، نظراً لتداخله مع أغلب، إن لم يكن جميع، النقاط الساخنة في المنطقة، ناهيك عن رفض القوى الدولية والإقليمية لفكرة امتلاك طهران سلاحاً نووياً من الأساس. فرغم إعلان طهران المتكرر أنها لا تسعى لامتلاك قنبلة نووية، لا يبدو أن أحداً يصدق ذلك، كما أن تطوير إيران لقدراتها النووية بات غامضاً بصورة مقلقة منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.
الخلاصة هنا هي أن الجولة المقبلة من مفاوضات فيينا قد تشهد قبلة الحياة لذلك الاتفاق النووي، الذي أوشك أن يتحول إلى "جثة هامدة"، أو قد يتم التوصل لاتفاق جديد، وإن كانت فرص ذلك تبدو ضعيفة، بينما سيفتح الفشل أبواب الجحيم على مصراعيها في منطقة الشرق الأوسط، التي لا تخلو من الأزمات بأنواعها المختلفة، بحسب محللين.