أثار خبر دعوة الصين مواطنيها لتخزين الغذاء والمواد الضرورية حالةً من التكهنات داخل البلاد وخارجها، بشأن دافع بكين للدعوة التي نالت تغطية مكثفة حول العالم، وفتحت باب التأويلات على مصراعيه.
القصة بدأت في وقت متأخر من مساء الإثنين، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، من خلال إعلان نشرته وزارة التجارة الصينية على موقعها الإلكتروني، وجهت فيه الدعوة إلى العائلات "لتخزين كمية معينة من المنتجات الأساسية لتلبية الاحتياجات اليومية وحالات الطوارئ".
وخلال وقت قصير، أصبح هذا الإعلان حديث منصات التواصل الاجتماعي في الصين، وتصدّر منصة ويبو (تويتر الصيني)، وانتشرت نظريات متعددة تفسر سبب الدعوة للتخزين، بينما تناولت وسائل الإعلام حول العالم الإعلان الصيني، في سياق يمكن وصفه بالذعر مما قد يعنيه ذلك، وتداعياته دولياً.
هل إعلان الدعوة للتخزين دقيق؟
وحتى تكون الصورة أوضح بشأن ما يحدث، سارعت السلطات الصينية بنشر تطمينات رسمية، صباح الثلاثاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني، من خلال مقال نشرته الجريدة الاقتصادية الرسمية التابعة للحزب الشيوعي الحاكم، لتفسير "إعلان وزارة التجارة"، وشارك نحو 88 مليون شخص ذلك المقال عبر منصة ويبو، بحسب تقرير لصحيفة Global Times الصينية.
وسارعت الصحف والقنوات الرسمية إلى طمأنة المواطنين الصينيين، مطالبة الجميع بعدم الإفراط في تفسير "الدعوة للتخزين" أو إخراجها من سياقها. وقال تقرير صحيفة Economic Daily الرسمية، إن الدعوة لتخزين كميات معينة من احتياجاتها اليومية من الغذاء والمواد الضرورية موجهة بالأساس إلى السلطات المحلية في أنحاء البلاد، للقيام بدورها الطبيعي في ضمان تأمين الحاجات الأساسية للعائلات.
وجاء عنوان تقرير آخر للصحيفة الاقتصادية الرسمية، نشرته الأربعاء 3 نوفمبر/تشرين الثاني "بيان الوزارة يهدف إلى دعم جهود توفير البضائع"، استطلع آراء مسؤولين وخبراء اقتصاد حول الجدل الذي أثاره إعلان وزارة التجارة، في إشارة واضحة على عمق الجدل الذي أثاره الإعلان داخل البلاد، ناهيك بالطبع عما أثاره من قلق حول العالم.
واستضاف التلفزيون المركزي الصيني زو شاوليانغ مدير قسم عمليات السوق وتطوير الاستهلاك في وزارة التجارة، ليؤكد على "وجود إمدادات كافية من الاحتياجات اليومية، يمكن ضمان توافرها بناء على الموقف الحالي".
وزارة التجارة الصينية إذن وجهت الدعوة للعائلات الصينية لتخزين كميات معينة من احتياجاتها اليومية، ومن الغذاء والمواد الضرورية، وهو ما يعني أن الخبر صحيح ولم يتم إخراجه من سياقه، كما ألمحت التقارير والمقالات والتحليلات الرسمية، التي لا تزال مستمرة في الصين، في سياق تفسيرها للدوافع وراء تلك الدعوة.
وقال زو، في هذا السياق، إن "الغرض من البيان (بيان وزارة التجارة) كان تقوية جهود السلطات المحلية، لضمان توفير الإمدادات وتوجيه تعليمات لشركات التوزيع التجاري؛ كي تضمن مصادر البضائع وتسهل التواصل بين الإنتاج والمبيعات، وتسهيل توقيع اتفاقيات إمداد الخضراوات".
وقال جوان ليكسين، نائب مدير الأكاديمية الصينية للتجارة والتعاون الدولي لصحيفة Economic Daily، إن "بيان وزارة التجارة إجراء وقائي استجابة للزيادات الأخيرة في أسعار الخضراوات، والموجة الجديدة من تفشي كوفيد-19 محلياً، وتأثير الطقس المتطرف".
ما سبب الضجة التي أثارتها الدعوة للتخزين إذن؟
السبب الرئيسي لهذا القلق الذي أثاره بيان وزارة التجارة الصينية هو أن البيان لم يذكر سبباً لتوجيه الدعوة للعائلات لتخزين الغذاء، وهذا ما فتح الباب أمام التكهنات عبر منصات التواصل الاجتماعي داخل وخارج البلاد.
وكانت أبرز النظريات التي انتشرت عبر منصة ويبو تحديداً، أن الصين على وشك أن تبدأ الحرب لضم تايوان، خصوصاً أن التوترات بين بكين وتايبيه على أشدها، والتدريبات العسكرية وصلت مراحل متقدمة.
وكان هذا التفسير تحديداً موضوعاً لعدد كبير من المقالات والتحليلات داخل الصين، ونشرت صحيفة Global Times الصينية مقالاً لرئيس تحريرها -وهي صحيفة غير رسمية لكن تعتبر منبراً إعلامياً للحزب الشيوعي الحاكم- عنوانه "الحكومة طلبت من الناس تخزين مزيد من الحاجات اليومية، لكن لا داعي لإساءة تفسير الرسالة".
ورصد المقال التركيز على مسألة تايوان -الجزيرة المستقلة التي تعتبرها بكين جزءاً منها وتؤكد على أنها ستعيد ضمها إلى البر الرئيسي ولو بالقوة العسكرية- وكيف أن التفسير الأبرز لبيان التخزين مرتبط باقتراب ساعة الصفر لضم تايوان بالقوة العسكرية. ووجه كاتب المقال رسالة إلى الصينيين، مفادها أن قرار الحرب ليس وشيكاً، وأن الدعوة للتخزين ليست مرتبطة به.
وإلى جانب تفسير الدعوة للتخزين في سياق التوتر مع تايوان، ظهرت تفسيرات أخرى مرتبطة بالتوتر بين الصين والغرب، وكيف أن ذلك قد يؤثر على واردات بكين من الخضراوات والمحاصيل الزراعية تحديداً، ما سيؤدي إلى ندرتها وارتفاع أسعارها بشكل لافت.
كما توقفت تفسيرات أخرى عند مخاطر موجة جديدة من وباء كورونا، يبدو أن البلاد بدأت تواجهها بالفعل، ما قد يضطر السلطات الصينية إلى اتخاذ إجراءات حجر صحي صارمة، كتلك التي طبقتها على مقاطعة هوبو ومدينة ووهان، مطلع العام الماضي، فأرادت تحضير المواطنين لتلك الإجراءات المتوقعة.
لماذا أثارت الدعوة قلقاً حول العالم؟
لو تركنا الموقف الصيني الداخلي وحوّلنا النظر إلى الموقف حول العالم، نجد أن التكهنات تركزت بالأساس على سلاسل التوريد، وهي تواجه اختناقات بالفعل وتتسبب في زيادة الأسعار وتباطؤ النمو الاقتصادي، ومن ثم ارتفاع معدلات التضخم حول العالم.
فالصين تعتبر المصنع الرئيسي للعالم، وعليها تعتمد أغلب الدول في إنتاج كثير من البضائع الضرورية، وبالتالي فإن ما يحدث في الصين تكون له تداعيات مباشرة على جميع دول العالم تقريباً.
وكانت سلاسل التوريد قد تعطلت بسبب الحجر الصحي في ذروة تفشي وباء كورونا، مطلع العام الماضي، في عدة أجزاء من الصين، وأُغلقت العديد من الطرق السريعة. ومع اقتراب موعد دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، في شباط/فبراير المقبل، تخشى الحكومة من تفشي الوباء من جديد واتخذت إجراءات جذرية في الأسابيع الأخيرة، بعد ظهور حالات تفشٍّ متفرقة في شمال البلاد.
وحُجر أكثر من ستة ملايين شخص، لا سيّما في مدينة لانتشو، الواقعة على بعد 1700 كيلومتر غرب بكين. ومع ذلك لا يزال عدد الحالات الموثقة منخفضاً جداً مقارنة بالتقارير المسجلة في بقية العالم. وأُعلن عن 71 حالة إصابة جديدة فقط الثلاثاء خلال الـ24 ساعة الماضية، بعد تسجيل 92 حالة الإثنين، وهو أكبر عدد إصابات يومي في الصين منذ منتصف أيلول/سبتمبر.
كما تعرضت الصين في الصيف الماضي لفيضانات عطلت الإنتاج الزراعي ورفعت الأسعار، ويرجّح أن يزيد التغير المناخي من تواتر هذا النوع من الكوارث الطبيعية.
ولا تتوقف الكوارث التي تعاني منها الصين عند هذا الحد، فالبلاد تواجه أزمة حادة في الطاقة وانقطاع الكهرباء عن المصانع والبيوت أصبح متكرراً في الأسابيع الأخيرة، إضافة إلى التعثر الذي يعاني منه قطاع العقارات -يمثل 30% من اقتصاد الصين- وفي القلب منه شركة إيفرغراند، التي تخطت ديونها 300 مليار دولار.
هذه العوامل مجتمعة ترسم صورة مقلقة عن وضع الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصادات العالم، وبالتالي فإن "دعوة لتخزين الغذاء والحاجات الضرورية" تمثل رسالة مخيفة لباقي دول العالم ومواطنيها، خصوصاً أن الشفافية ليست من صفات الحزب الشيوعي الحاكم من الأساس، وهو ما يفتح الباب على تكهنات قد تصيب وقد تخطئ.
ما التفسير الأقرب بشأن دعوة التخزين إذن؟
بالعودة إلى الداخل الصيني، نجد أن البلاد هي أكبر مستورد للمنتجات الغذائية في العالم، وهو ما يجعلها عرضة للتوترات الدبلوماسية مثل تلك القائمة مع مورديها الرئيسيين مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وكانت الصحف الصينية قد ذكرت قبل يومين فقط أن أسعار 28 سلعة غذائية ارتفعت، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بنسبة 16% عن سبتمبر/أيلول، بالاعتماد على بيانات رسمية.
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ قد وجه الدعوة لمواطنيه في العام الماضي بضرورة التوفير، مندداً بهدر الطعام في البلاد. وتاريخياً تعرضت الصين لفترات مجاعة، لا سيما في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، عندما تسبب نظام الملكية الجماعية للأراضي الذي فرضه النظام الشيوعي بعشرات ملايين الوفيات في الأرياف.
وعلى صعيد إصابات كورونا، فإن البلاد تشهد ارتفاعات كبيرة خلال الأسابيع الماضية، بحسب البيانات الرسمية، وأمس الثلاثاء تعرض أطفال في مدرسة ابتدائية للحجز ساعات طويلة داخل المدرسة، بعد اكتشاف إصابة أحد العاملين بالمدرسة بعدوى الوباء.
وظل الأطفال، البالغة أعمارهم بين 7 و12 عاماً داخل المدرسة حتى تم فحصهم جميعاً، وأخبر مدير المدرسة أولياء الأمور المتجمعين خارج المدرسة -حتى منتصف الليل- أن بعضاً من التلاميذ سيخضعون للحجر الصحي، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
الخلاصة هنا هي أن بيان وزارة التجارة الصينية الذي وجه الدعوة للعائلات لتخزين احتياجاتها من الغذاء والمواد الضرورية، دون توضيح الأسباب، ربما يكون إجراءً روتينياً، كما قال التفسير الرسمي لاحقاً بالفعل، مرتبطاً بموجة محتملة للوباء وتخوفات من الطقس المتطرف في الشتاء وتأثيره على الزراعة، وربما أيضاً يكون مرتبطاً بالاستعداد لغزو تايوان، بحسب التفسيرات الأخرى.