أصبح احتمال تصاعد الخلاف بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد، بمثابة كابوس بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وسط تساؤلات إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الخلاف، وهل يتم حله بالطرق القانونية، أم الدوافع الانتخابية لزعيمي البلدين قد تخرجه عن السيطرة؟.
ونشب الخلاف بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد بسبب تراخيص الصيد للسفن الفرنسية في مياه المملكة المتحدة بعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي بداية هذا العام.
وسبب أن هددت فرنسا بريطانيا بقطع الكهرباء مع اقتراب أعياد الميلاد بسبب الخلافات حول حقوق الصيد بين البلدين.
والمحادثات مستمرة، لكن الطرفين أطلقا تهديدات، وزادت الترجمات الخاطئة من عمق الخلاف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
الزعيمان عقدا مؤتمرين صحفيين منفصلين عقب قمتهما
ستجرى محادثات رئيسية بين الجانبين في وقت لاحق من هذا الأسبوع بهدف حل الخلاف، لكن خطر حدوث مزيد من التصعيد لا يزال قائماً، بعد تصعيد بين البلدين جرى قبيل قمة مجموعة العشرين في روما.
وعقد الزعيمان اجتماعاً لمدة 30 دقيقة الأحد الماضي أثناء حضورهما قمة مجموعة العشرين في روما، حيث بحثا التوترات المتصاعدة بشأن منح تراخيص الصيد، ولكن اللافت أنهما عقدا مؤتمرين صحفيين منفصلين في نهاية الاجتماع، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيتد برس "AP" الأمريكية.
وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "لا أريد أي تصعيد، لكن يجب أن نأخذ الأمور على محمل الجد. أتمنى ألا أتخذ إجراءات انتقامية… بل إيجاد اتفاق".
وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في نفس الوقت الذي تحدث فيه ماكرون يوم الأحد، إن موقف المملكة المتحدة "لم يتغير".
وأضاف: "يجب أن أقول إنني شعرت بالحيرة لقراءة رسالة من رئيس الوزراء الفرنسي يطلب فيها صراحة معاقبة بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي". "يجب أن أقول للجميع إنني لا أعتقد أن هذا يتوافق مع روح أو نص" اتفاق انسحاب المملكة المتحدة واتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وقال مسؤول فرنسي رفيع المستوى إن جونسون وماكرون اتفقا خلال اجتماعهما يوم الأحد على أن هناك حاجة للتحدث مع بعضهما البعض "في حالة توترات مهمة". وقال إنه يجب اتخاذ الإجراءات "في أقرب وقت ممكن" من أجل وقف التصعيد.
وقال المسؤول الفرنسي ، الذي تحدث دون الكشف عن هويته، إن فرنسا وبريطانيا ستجريان محادثات "في الساعات والأيام المقبلة" بشأن تفاصيل عملية، بهدف "تخفيف التوترات واستقرار الوضع".
ومع ذلك، نفت بريطانيا أن يكون الزعيمان قد اتفقا على اتخاذ خطوات لتهدئة الخلاف، قائلة إن الأمر متروك بالكامل لفرنسا لتهدئة الأجواء.
ورغم عقد القمة بين البلدين، شهد الخلاف حول الصيد بين فرنسا وبريطانيا تصعيداً لافتاً.
أسباب الخلاف بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد
بموجب اتفاقية بريكست للتجارة والتعاون (TCA)، يُسمح للصيادين الفرنسيين بالصيد على مسافة تتراوح بين 6 و12 ميلاً بحرياً من شاطئ المملكة المتحدة وقبالة سواحل جزيرتي غيرنزي وجيرسي حتى عام 2026 إذا حصلوا على ترخيص من بريطانيا.
ولمنحهم هذا الترخيص، من الضروري أن يكون قد سبق لهم الصيد في هذه المنطقة بين عامي 2012 و2016، لكن البلدين يختلفان حول الإثباتات المطلوبة لهذا النشاط السابق، ومقدار المطلوب منها.
تقول فرنسا إنها مُنحت حتى الآن 210 تراخيص للصيد في منطقة الـ 6-12 ميلاً وقبالة سواحل غيرنزي وجيرسي رغم طلبها 454 تصريحاً. وتقول السلطات الفرنسية إنه يُسمح فقط لحوالي 20 سفينة من أسطول بولوني البالغ قوامه 112 سفينة بالصيد في تلك المنطقة.
ومن جانبها، تقول المملكة المتحدة إنها منحت حوالي 1700 ترخيص، أو 98% من الطلبات التي تقدم بها الاتحاد الأوروبي. لكن هذا الرقم يشمل تراخيص الصيد في المنطقة الاقتصادية الخالصة لبريطانيا على مسافة تتراوح بين 12 و200 ميلاً بحرياً من سواحلها، التي تُمنح تلقائياً بموجب شروط اتفاقية بريكست للتجارة والتعاون.
وجوهر الخلاف بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد هو أنه في المناطق المختلف عليها (منطقة الـ 6-12 ميلاً، وحول جيرسي وغيرنزي)، تحدد اتفاقية البريكست للتجارة والتعاون القوارب المؤهلة للحصول على تراخيص من خلال نشاطها السابق، لكنها لا تحدد الإثباتات المطلوبة بالضبط.
ماكرون يُمهل بريطانيا يوماً واحداً ويهدد بقطع الكهرباء عنها ثم يتراجع
تقول فرنسا إن الشروط التي فرضتها المملكة المتحدة وجزيرتا جيرسي وغيرنزي التابعتان لها غير منصفة للقوارب الصغيرة، التي لا تملك عادة أجهزة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لإثبات نشاطها في مياه المملكة المتحدة في الماضي. وتقول بريطانيا إن من حقها طلب الإثبات الذي تريده.
وبعد يوم واحد من لقائه مع جونسون في روما، وتبادل الابتسامات، هدد ماكرون "بمنع سفن الصيد البريطانية من دخول موانئها وزيادة عمليات التفتيش على الصادرات البريطانية اعتباراً من الثلاثاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، ما لم تمنح لندن تراخيص للقوارب الفرنسية بالصيد في المياه البريطانية"، بحسب شبكة "يورو نيوز" الأوروبية.
ووفق ما ذكرته وكالة رويترز، قالت باريس إنها ستبدأ تكثيف عمليات التفتيش الحدودية والتفتيش الصحي على البضائع القادمة من لندن، مما يزيد من المعاناة الاقتصادية في بريطانيا، التي تعاني بالفعل من نقص العمالة وارتفاع أسعار الطاقة قبل أعياد الميلاد.
كما تدرس حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كذلك، جولة ثانية من العقوبات، لا تستبعد مراجعة صادراتها من الكهرباء لبريطانيا. وقالت وزيرة البحار الفرنسية أنيك جيراردان، لإذاعة "آر.تي.إل": "ليست حرباً ولكنها معركة".
ولكن ماكرون خفّف من لهجته، يوم الإثنين الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، ودعا إلى إجراء مزيد من المحادثات، وتراجع عن التهديد بحظر تفريغ حمولات السفن البريطانية في بعض الموانئ الفرنسية، وإجراء تفتيشات إضافية على التراخيص، وتشديد الرقابة على الشاحنات، وفرض ضوابط للجمارك والنظافة اعتباراً من يوم الثلاثاء.
ويبدو أن كلا الجانبين يعتقد أن الآخر قد خرق شروط اتفاقية بريكست للتجارة والتعاون أو يوشك أن يفعل، حسب صحيفة The Guardian.
وعاد ماكرون إلى عادته في توريط الاتحاد الأوروبي في الخلاف بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد، حيث شكك يوم الجمعة الماضي في "مصداقية" بريطانيا واتهمها بالرغبة في تغيير أجزاء من معاهدة تم توقيعها العام الماضي حول حقوق الصيد ومواضيع أخرى، حسبما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
وقال ماكرون لصحيفة فاينانشيال تايمز إن دولاً أخرى تراقب عن كثب اشتباكات بين بريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي بعد انسحابها من التكتل.
وقال وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي، كليمان بون، يوم الأحد 31 أكتوبر/تشرين الأول إن المملكة المتحدة امتنعت عن إصدار "قدر كبير" من التراخيص وإنها "تستهدف دولة واحدة". وقال إن هذه "ليست مسألة فنية، وإنما خيار سياسي وخرق لاتفاقية بريكست للتجارة والتعاون الذي تنظم العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا".
وبريطانيا تهدد بإطلاق نزاع تجاري مع باريس
من جانبها، أمهلت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، يوم الإثنين، فرنسا 48 ساعة لسحب تهديداتها "غير المنطقية"، لافتة إلى أن المملكة المتحدة قد تستغل "آليات اتفاقها التجاري مع الاتحاد الأوروبي للتحرك".
وهددت بريطانيا، التي تتطلع إلى إبرام صفقات تجارية جديدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بفتح إجراءات بشأن النزاع التجاري ضد فرنسا إذا فرضت باريس عقوبات على لندن، مثل هذه الخطوة يمكن أن تعطل التجارة بشكل خطير بين الجيران.
وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قبيل مشاركته في قمة العشرين بروما إنه يخشى أن تكون باريس عبر ممارستها في الخلاف بشأن الصيد، قد انتهكت شروط اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. واضاف: "سنتخذ الإجراء المناسب".
تصرف من فرنسا أجّج الخلاف
تصاعدت التوترات في الخلاف بين فرنسا وبريطانيا حول الصيد بشكل حاد عندما طردت باريس سفينة صيد بريطانية ليل الأربعاء، بعد أن قال مسؤولون فرنسيون إن طاقمها فشل في إثبات أنه مسموح له بالصيد في المياه الفرنسية.
وقال مسؤولون بريطانيون إن السفينة لديها الوثائق الصحيحة.
وقال وزير البيئة البريطاني جورج يوستيس يوم الجمعة، غاضباً من الحادث والتهديد بفرض عقوبات: "يمكن لاثنين أن يلعبا في تلك اللعبة".
البريطانيون يتهمون ماكرون بالمزايدة الانتخابية
يصور بعض المسؤولين البريطانيين دفاع فرنسا عن صياديها على أنه محاولة من قبل ماكرون لإظهار أنه يعتني بمصالحهم قبل انتخابات في أبريل من المتوقع أن يسعى خلالها لولاية جديدة.
لا يمكن لجونسون أيضاً أن يبدو ضعيفاً فيما يتعلق بحقوق الصيد بعد أن قاد الحملة لمغادرة الاتحاد الأوروبي، ووعد بأن ترك الكتلة الأوروبية كان في مصلحة الناخبين.
ورغم أن للصيد مساهمة صغيرة في الاقتصادين الفرنسي والبريطاني، ولكنه شريان حياة لبعض المجتمعات الساحلية في البلدين.
إلى أي مدى قد يصل النزاع؟ إليك خيارات البلدين
يعتمد هذا على مسار المحادثات، والتدابير التي ستنفذها فرنسا، إن وجدت، والطريقة التي ستختارها المملكة المتحدة للرد، ولكن بإمكان أي من الطرفين أو كليهما الدخول في إجراءات تسوية الخلافات على اتفاقية بريكست للتجارة والتعاون.
وهذا يتطلب الدخول في مشاورات أولاً، ثم اللجوء إلى التحكيم، في حالة فشل المشاورات. وإذا تبين أن أحد الطرفين قد انتهك اتفاقية بريكست للتجارة والتعاون، فيتعين عليه الامتثال للحُكم خلال فترة زمنية معقولة، أو المخاطرة بأن يسحب الطرف الفائز منه مزايا اتفاقية بريكست للتجارة والتعاون.
وبالفعل، بعد طرد السفينة البريطانية، تدرس لندن "إطلاق إجراءات تسوية المنازعات بموجب قانون المساعدة التقنية، والاستجابات العملية الأخرى".
من المحتمل أن تتضمن مثل هذه الإجراءات عقد هيئة تحكيم للبت في النزاع ، ويمكن أن تؤدي إلى طلب تعويض أو تعليق الالتزامات بموجب صفقة التجارة الحرة.
وقالت باريس إنها ستمنع قوارب الصيد البريطانية من التفريغ في الموانئ الفرنسية، وستجري فحوصات إضافية لترخيص السفن البريطانية ، وتشدد الرقابة على الشاحنات وتعزز ضوابط الجمارك والنظافة إذا فشلت المحادثات.
كما ألمحت إلى إمكانية رفع رسوم الطاقة في وقت لاحق لبريطانيا.
وردت بريطانيا باستدعاء سفير فرنسا في لندن لشرح تصريحات باريس.
وقال وزير البيئة البريطاني جورج يوستيس يوم الجمعة: "يمكن لبريطانيا أن تلعب نفس اللعبة، وأنها يمكنها أيضاً زيادة القيود على السفن الفرنسية".
وبالنظر إلى خطاب كلا الطرفين، والمنافع السياسية المحلية المكتسبة من التشدد في المواقف، يصعب أن نرى تراجعاً سريعاً في التصعيد.
وربما لا ترغب دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرون في اندلاع حرب أسماك، ولكن يسود بينها شعور أيضاً بأن بريطانيا تتمادى في تعنتها، حسب صحيفة The Guardian البريطانية.
وفاقمت الترجمات الخاطئة أيضاً من الأزمة؛ إذ أشار بوريس جونسون يوم الأحد 31 أكتوبر/تشرين الأول إلى رسالة بعث بها رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس إلى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين دعا فيها الاتحاد الأوروبي إلى "معاقبة" بريطانيا.
وذكرت تقارير أخرى أن الرسالة طلبت من الاتحاد الأوروبي "الإضرار" بالمملكة المتحدة. ولكن الترجمة الصحيحة لهذه العبارة قد تكون: "من الضروري أن نبيّن للرأي العام الأوروبي أن احترام الالتزامات المُتعهَّد بها غير قابل للتفاوض، وأن الخروج من الاتحاد الأوروبي أشد ضرراً من البقاء فيه".