قبيل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بدأت تتضح معالم المعركة السياسية للفوز بكرسي الإليزيه، في ظل صعود للتيارات اليمينية، خاصة المتطرفة منها، وابتعاد الأحزاب اليسارية، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي، عن دائرة المنافسة الحقيقية.
فبحسب نتائج استطلاع رأي أجراه "معهد دراسات الرأي والتسويق في فرنسا والخارج"، لحساب إذاعة الجنوب الفرنسية، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون، اليميني الذي خرج من عباءة الحزب الاشتراكي، يتصدر نوايا التصويت بنسبة 25%، بينما يتصارع على المرتبة الثانية، اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان (16%)، والتي تواجه لأول مرة منافسة من مرشح من نفس العائلة السياسية، وهو الإعلامي اليهودي من أصول جزائرية إريك زمور المعروف بـ"ترامب فرنسا" (14%).
غير أنه في هذا الاستطلاع، الذي نشر في 11 أكتوبر/تشرين الأول، صعد التيار الديغولي (يمين الوسط) بقيادة كزافييه برتران، رئيس منطقة أوت دو فرانس (16%)، ليزاحم مرشحَي اليمين المتطرف (لوبان وزمور) على المرتبة الثانية، التي تؤهله للصعود للدور الثاني رفقة ماكرون، وحينها ستتغير الكثير من الحسابات والتحالفات.
بينما يوجد التيار اليساري خارج دائرة المنافسة على الصعود للدور الثاني، رغم انتخاب الحزب الاشتراكي رئيسة بلدية العاصمة باريس، آن إيدالغو، (6% من نوايا التصويت)، مرشحة له في الرئاسيات المقبلة، بدعم من الأمين العام للحزب أوليفييه فور.
أما بقية المرشحين الصغار، والذين لا يتجاوز عددهم 30، فسيقف الكثير منهم أمام حاجز الحصول على 500 تزكية من "الناخبين الكبار"، ممثلين في نواب البرلمان الفرنسي بغرفتيه، وأيضاً النواب الفرنسيين في البرلمان الأوروبي، وكذلك رؤساء البلديات.
"كورونا".. هل ينقذ ماكرون؟
يراهن ماكرون على تكرار سيناريو 2017، عندما صعد إلى الدور الثاني أمام مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وانتصر عليها بشكل ساحق (66.1%)، باعتباره أقل المرشحين سوءاً بالنسبة للكثير من المرشحين الخاسرين.
لكن المعركة الانتخابية قد تكون أصعب إذا واجه مرشحاً من تيار اليمين الديغولي أو حتى تيار يسار الوسط، لأن التحالفات في الدور الثاني تكون في العادة حاسمة، خاصة أنه لا يحظى سوى بربع نوايا التصويت ويحتاج إلى 50% +1 للفوز بالرئاسة.
ويسعى ماكرون ليكون أول رئيس فرنسي منذ عهد جاك شيراك (1995 – 2007) يفوز بولايتين رئاسيتين، بعد أن أخفق في تحقيق ذلك كل من نيكولا ساركوزي (2007-2012) وفرانسوا أولاند (2012- 2017).
وإن كان ماكرون فاز في 2017، بفضل استقطابه لشريحة من الحزب الاشتراكي وأخرى من اليمين، وثالثة من الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية، وقدم نفسه كمرشح مستقل والله ليبرالي اجتماعي وسطي، إلا أنه في نهاية ولايته الأولى انحاز أكثر لليمين بل واقترب من اليمين المتطرف.
فماكرون بدأ مسيرته السياسية ضمن الحزب الاشتراكي (2006-2009)، وصعد نجمه بفضل الرئيس الاشتراكي أولاند، الذي عينه نائباً للأمين العام للرئاسة في 2012، ثم وزيراً للاقتصاد والصناعة والشؤون الرقميّة في 2014، ليستقيل في 2016، وينسحب من سفينة الاشتراكيين الغارقة في الأزمات، استعداداً لرئاسيات 2017، التي فاز بها.
لكن أصعب أزمة واجهها ماكرون، في بداية ولايته الرئاسية، مظاهرات السترات الصفراء، التي اندلعت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، للتنديد بالأوضاع الاجتماعية الصعبة ورفض زيادة الضرائب التي أرهقت العاملين والطبقة الوسطى.
وتمكنت مظاهرات السترات الصفراء من حشد 282 ألف متظاهر بباريس والعديد من المدن الفرنسية، بحسب قناة فرانس 24 (حكومية)، وطالبت حينها برحيل ماكرون، لكنها جوبهت بعنف شديد من الشرطة، نددت به عدة منظمات حقوقية فرنسية ودولية.
ذهبت بعض الآراء حينها إلى أن يُنهي حراك "السترات الصفراء" طموح ماكرون في ولاية رئاسية ثانية مبكراً، خاصة أنه استمر لأشهر طويلة، لكن وباء كورونا الذي ضرب العالم في 2019، كان بمثابة سترة نجاة ألقيت للرئيس الفرنسي، سمحت له بفرض إجراءات وقائية ساهمت في إضعاف زخم المظاهرات المنددة بسياساته اللااجتماعية.
كما استغل ماكرون تنامي مشاعر العداء للمهاجرين والمسلمين بوجه خاص، بعد ذبح معلم فرنسي عرَض على طلابه صوراً مسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فأصدر قوانين وإجراءات تضيق على الحريات الدينية للمسلمين، لرفع رصيده بين الأوساط اليمينية.
والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل ذهب لاستفزاز الجزائر من خلال تصريحات شكك فيها بوجود أمة جزائرية، لاستقطاب أصوات اليمين المتطرف الذي يتصاعد حجمه، بالنظر إلى التهييج الإعلامي ضد المسلمين والمهاجرين.
غير أن هذه السياسة من شأنها إفقاد ماكرون، نحو مليون و200 ألف من أصوات الناخبين من أصول جزائرية كانت حاسمة في الدور الأول من انتخابات 2017، ناهيك عن مئات الآلاف من المسلمين الفرنسيين من أصول مختلفة.
اليمين المتطرف يسعى للفوز لأول مرة
صعود النزعة اليمينية في فرنسا بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة أدى إلى ظهور اسم جديد على الساحة السياسية من اليمين المتطرف المناهض للمسلمين والمهاجرين وهو إريك زمور، الذي يحظى باهتمام إعلامي هائل من الصحافة الفرنسية.
ومواقف زمور المتطرفة جعلته يزايد على مارين لوبان، التي تزعمت اليمين المتطرف لسنوات طويلة، لكنها اليوم تواجه معركة مصيرية ليست فقط ضد ماكرون الذي هزمها في 2017، بل أيضاً ضد زمور الذي يستقطب جزءاً من قاعدتها الانتخابية.
ففي 5 أكتوبر/تشرين الأول، وضعت نتائج زمور متقدماً على لوبان، لكن قبل انقضاء هذا الشهر تقدمت الأخيرة عليه بنقطتين، وحلت ثانية خلف ماكرون رفقة مرشح اليمين الديغولي.
لكن زمور لا يستقطب فقط الناخبين من اليمين المتطرف المستاء من لوبان، بل أيضاً يغرف من وعاء يمين الوسط، بالإضافة إلى تأييد شريحة من يهود فرنسا له، خاصة أن هذه الفئة متغلغلة في قطاع الإعلام الفرنسي، ما يفسر سر هذا الاهتمام "المبالغ فيه" بزمور حتى قبل إعلان ترشحه رسمياً.
والملاحظ أن اليمين المتطرف يمثل نحو 30% من نوايا التصويت، وأصبح متفوقاً على اليسار بكل أطيافه، ما يعني تغيراً في الخريطة الانتخابية وأيضاً في المزاج العام للناخبين، في ظل مستويات قياسية للمقاطعة لم تكن مألوفة من قبل.
حيث شارك أقل من 30% في الانتخابات الإقليمية، التي جرت في يونيو/حزيران الماضي، والتي خسر فيها حزب ماكرون (الجمهورية إلى الأمام) وأيضاً حزب لوبان (التجمع الوطني)، بينما فازت أحزاب يمين الوسط واليسار.
ولو أن الانتخابات الإقليمية لا تشهد عادة نفس الحماس المعتاد في الانتخابات الرئاسية، ونتائجها لا تعكس بالضرورة حجم كل حزب، إلا أنها تُقدم ملمحاً أو مؤشراً حول إمكانية حدوث مفاجأة غير متوقعة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
فنتائج سبر الآراء لم تضع ماكرون منذ البداية في مقدمة المرشحين في رئاسية 2017، إلا أنه في النهاية كسب الرهان، رغم أنه كان يوصف بـ"المرشح شبه المجهول"، وقد يتكرر نفس السيناريو مع مرشح آخر لم يكن في الحسبان في 2022.
اليمين الديغولي يملك أوراقاً قوية
اليمين الديغولي أو يمين الوسط الذي يمثله حزب "الجمهوريون"، يراقب بشكل جيد السباق الرئاسي، رغم أنه لم يحسم بعد مرشحاً لرئاسيات أبريل/نيسان المقبل.
وأجّل الحزب قرار الحسم إلى غاية 4 ديسمبر/كانون الأول المقبل، لضمان الدخول بمرشح واحد، خاصة أن هناك عدة أسماء ترغب في خوض غمار الرئاسة.
إلا أن أكثر هذه الأسماء حظوظاً كزافييه برتران، الذي حصل على أعلى نسبة من نوايا التصويت (16%)، متقدماً بخمس نقاط عن فاليري بيكريس، رئيسة منطقة إيل دو فرانس (11‰).
ما يمنح "الجمهوريون" 27% من نوايا التصويت على الأقل عند الدخول بمرشح واحد، وهي نسبة أعلى من تلك التي منحت لماكرون، ما يجعل مرشح الحزب منافساً قوياً على ورقة الترشح للدور الثاني من الرئاسيات المقرر في مايو/أيار المقبل.
وفوز "الجمهوريون" في الانتخابات الإقليمية الأخيرة أمام مرشحي حزبي ماكرون ولوبان، يمنحهم جرعة تحفيز للمنافسة على الصعود للدور الثاني، على الأقل، واستعادة كرسي الرئاسة الذي خسره في 2012.
ولكن "الجمهوريون" ربما لن يكونوا لوحدهم ممثلين لعائلة اليمينيين الديغوليين، فميشال بارنييه، مفاوض الاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، قرر هو الآخر دخول المعترك الانتخابي، عبر حزب جديد أسسه في فبراير/شباط الماضي، تحت اسم "وطنيون أوروبيون".
وشهرة بارنييه على الصعيد الأوروبي لا تعني بالضرورة أن يمثل ثقلاً في الساحة الفرنسية، فقد لا يتمكن حتى من جمع 500 تزكية من الناخبين الكبار لدخول الرئاسيات.
اليسار لم يفق بعد من الصدمة
لا تبدو الأحزاب اليسارية بمختلف أطيافها جاهزة للمنافسة بشكل جدي على كرسي الرئاسة، بالنظر إلى انقسامها، وأيضاً نجاح ماكرون في استقطاب جزء هام من إطارات وقاعدة الحزب الاشتراكي، الذي كان عضواً فيه.
وحتى إن فازت عميدة بلدية باريس، آن إيدالغو، بترشيح الحزب الاشتراكي، إلا أنها في آخر سلم نوايا التصويت مقارنة بمرشحين يساريين، على غرار الزعيم الشيوعي الراديكالي جون لوك ميلونشون (7-8% من نوايا التصويت)، ويانيك جادوت زعيمة حزب الخضر (8%).
وينتظر "الحزب الاشتراكي" حدوث مفاجأة أو نجاح تحالفاته داخل العائلة اليسارية التي تمثل كتلة انتخابية تقدرها أوساط إعلامية فرنسية بنحو 30%، لقلب نتائج سبر الآراء، خاصة إذا حظي بدعم من الفرنسيين من أصول جزائرية ومغاربية.
وحتى وإن كانت الصورة الأولوية تمنح لماكرون ولوبان، بتكرار سيناريو رئاسيات 2017، إلا أن الأشهر الخمسة المقبلة قد تحمل العديد من المفاجآت، سواء من مرشح "الجمهوريون" أو من زمور المدعوم من جناح من اليمين المتطرف، وآخر من اليمين، بالإضافة إلى قطاع من اللوبي اليهودي في فرنسا.