تواجه دول الخليج خطرين داهمين، أحدهما هو الإفلاس بسبب توجه العالم للاستغناء عن النفط، والثاني هو تدمير مقومات الحياة في الجزيرة العربية، بسبب زيادة حرارة الأرض، وبين الخطرين الماثلين بشدة تسعى دول الخليج إلى تبني تقنية تخزين الكربون كبديل للمصيرين المرعبين.
فمن بين كل دول العالم لا يخلق التحول العالمي في مجال الطاقة ارتباكاً في أي مكان أكثر مما يفعل في شبه الجزيرة العربية، حيث تعلق المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى بين سيناريوهين مروعين لتغير المناخ، يهددان سبل عيشها، حسبما ورد في تقرير لوكالة The Associated Press الأمريكية.
الإفلاس بسبب بدائل النفط أو الاحتراق بحرارة الأرض
في السيناريو الأول يتوقف العالم عن حرق النفط والغاز لتقليل الانبعاثات المسببة للحرارة؛ ما يهز أساس اقتصاداتها، بينما في الآخر تستمر درجات الحرارة العالمية في الارتفاع؛ ما يؤدي إلى جعل الكثير من جغرافية الخليج شديدة الحرارة بالفعل لا تعُد صالحة للعيش.
سجلت أربع دول في الشرق الأوسط درجات حرارة تجاوزت 50 درجة مئوية، في يونيو/حزيران عام 2021، حيث شهدت كل من سلطنة عمان وإيران والكويت والإمارات درجات حرارة وصلت أو فاقت أعلى الأرقام المسجلة.
وأشارت دراسات إلى أن هذه الحرارة الشديدة تزداد وتيرتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعام 2020 أشارت دراسة نُشرت في دورية Science Advances إلى أن أجزاء من الشرق الأوسط، وخاصة الخليج، قد تصبح غير صالحة لسكنى البشر إذا استمرت هذه الارتفاعات الحالية في درجات الحرارة.
جوس ليليفيلد، الخبير في مناخ الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط في معهد ماكس بلانك: "إذا لم يتغير شيء فقد تتعرض المدن في الشرق الأوسط لدرجات حرارة تصل إلى 60 درجة مئوية في المستقبل، وهو ما سيكون خطيراً بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى مكيفات الهواء".
المشكلة أنها تعتمد بشكل كامل على الوقود الأحفوري
مشكلة دول الخليج الست (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والبحرين وعمان) أنها تعتمد بشكل شبه كامل على أرباح الوقود الأحفوري. وهذا يشمل الصادرات التي سترغب الصين والهند المتعطشتان للطاقة في المزيد منها خلال العقدين المقبلين.
قال جيم كرين، مؤلف كتاب "Energy Kingdoms: Oil and Political Survival in the Persian Gulf- ممالك الطاقة: النفط والبقاء السياسي في الخليج": "العمل المناخي يكاد يمثل مشكلة وجودية لنظام ملكي مطلق قائم على صادرات النفط".
وأضاف: "إنهم بحاجة إلى العمل المناخي للنجاح دون تدمير سوق النفط، هذه مهمة صعبة التنفيذ".
وها هي دول الخليج تحاول اللحاق بركب صفر الانبعاثات
بالتعهد بأهداف انبعاثات "صفرية" كما فعلت السعودية والإمارات والبحرين هذا الشهر، ستعمل هذه الدول على خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري داخل حدودها، مع الحفاظ على صادرات الوقود الأحفوري إلى الخارج.
وأصدرت السعودية، وهي المُورِّد لنحو عُشر الطلب العالمي على النفط، إعلانها هذا الأسبوع، أثناء استضافتها أول منتدى رئيسي لتغير المناخ، وحدد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2060 هدفاً للسعودية.
ويعد هذا إعلاناً مهماً لبلد يُقدَّر احتياطيه من النفط بـ265 مليار برميل بقيمة 22.5 تريليون دولار بالأسعار الحالية. وأعربت المملكة العربية السعودية عن تصميمها على ضخ النفط حتى آخر قطرة، لكن قد لا تجد مشترين يُذكَرون لأكبر مواردها الطبيعية في عالم يعمل بأشكال أنظف من الطاقة المتجددة والشمسية.
ويبدو أنَّ دول الخليج العربية التي تتعهد بانبعاثات "صفرية صافية" تهيئ نفسها لتكون جزءاً من صناعة الطاقة النظيفة، التي تبلغ تكلفتها عدة تريليونات من الدولارات، حتى مع استمرار جنيِها إيرادات من النفط والغاز.
في منتدى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر السعودية في الرياض، أخبر مبعوث الرئيس جو بايدن للمناخ، جون كيري، حشداً من الأمراء ورؤساء الوزراء من جميع أنحاء المنطقة أنَّ العمل المناخي يمكن أن يخلق "أكبر فرصة لسوق عرفها العالم على الإطلاق".
قال كيري: "سيكون أكبر تحول حدث على الإطلاق على هذا الكوكب، منذ الثورة الصناعية، إذا فعلنا ذلك".
من جانبها، قالت إيلين والد، الزميلة البارزة في المجلس الأطلسي ومؤلفة كتاب "Saudi Inc- الشركة السعودية"، إنَّ تعهدات "صفر في المئة صافي انبعاثات" تمكن النخبة الحاكمة في الخليج بحسم من ممارسة نفوذها في مؤتمرات مثل قمة الأمم المتحدة للمناخ "كوب 26″، حيث تُصَاغ سياسات العمل المناخي.
وأضافت: "من المهم بالنسبة لهم أن يجلسوا على الطاولة وأن يؤخذوا على محمل الجد في هذه المؤتمرات… لأنهم بهذه الطريقة يكون لهم رأي"، في وضع هذه السياسات.
ولكنها تسعى لإبطاء الاقتصاد الأخضر عبر الترويج لتبني تقنية تخزين الكربون
والمملكة العربية السعودية هي واحدة من العديد من الدول التي تمارس الضغط وراء الكواليس، قبيل قمة "كوب 26″، لتغيير اللغة المستخدمة لمخاطبة الانبعاثات، في محاولة على ما يبدو لتخفيف تأثير تقرير لجنة العلوم التابعة للأمم المتحدة حول ظاهرة الاحتباس الحراري، وفقاً لوثائق مسربة.
وتناصر دول الخليج العربية سراً وعلناً تبني تقنيات احتجاز الكربون بدلاً من التخلص التدريجي السريع من الوقود الأحفوري، محذرة من أنَّ الانتقال السريع من شأنه ترك السكان الأفقر دون مصادر طاقة.
وانتقدت منظمة Greenpeace، التي حصلت على الوثائق المسربة، هذا النهج، قائلة إنَّ تقنيات احتجاز الكربون "غير المؤكدة فاعليتها حتى الآن" تسمح للدول بإصدار المزيد من غازات الاحتباس الحراري على افتراض متفائل بإمكانية إخراجها من الغلاف الجوي لاحقاً.
ما هي تقنية احتجاز الكربون، وكيف تحاول دول الخليج الاستثمار فيها؟
تقنية تخزين الكربون: CCS توجه يعتمد على التكنولوجيا لمنع تحرير كميات كبيرة من CO2 في الغلاف الجوي الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري في توليد الطاقة وغيرها من الصناعات، وذلك باحتجازه ونقله، وفي نهاية المطاف، ضخه في تكوينات جيولوجية تحت الأرض لتخزين آمن بعيداً عن الغلاف الجوي. وهو وسيلة محتملة للتخفيف من مساهمة الانبعاثات من الوقود الأحفوري لظاهرة الاحتباس الحراري.
ويمكن لأشجار المانغروف الساحلية، على سبيل المثال، أن تحتجز الكربون بفاعلية وديمومة أكبر بكثير مما تفعله الغابات. كما يجري احتجاز ثاني أكسيد الكربون عن طريق زراعة الطحالب التي يمكن حصادها ومعالجتها لتصنيع منتجات مفيدة، ومن الخيارات الأخرى استخلاص الكربون من الكتلة الحيوية، بالتخمير مثلاً، واستخدامه كمصدر للطاقة المتجددة. وكذلك استخلاص الكربون المنبعث من عادم السيارات وتخزينه على المركبة لاستخدامه لاحقاً. وكانت الشركة السعودية "أرامكو" طوّرت تقنية تسمح باحتجاز 25% من ثاني أكسيد الكربون الصادر عن عادم السيارات. ويمكن من خلال الجمع بين هذه التقنية وتقنية الاشتعال بضغط البنزين وتقنيات تحسين الكفاءة الأخرى، خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 50%، حسبما ورد في تقرير لجريدة "الشرق الأوسط" السعودية.
وقد تكون أفضل الخيارات المتاحة حالياً "تقنية التقاط الكربون النقطي"، التي تتضمن تنقية غاز ثاني أكسيد الكربون من غازات العادم في مداخن المصانع ومحطات الطاقة، حيث ينبعث هذا الغاز بكميات أكبر وتركيزات أعلى بآلاف المرات مما هو موجود في الغلاف الجوي.
وتُعتبر شركة "أرامكو" من بين الشركات الرائدة عالمياً في تطوير وتبني تقنيات التقاط الكربون النقطي، وهي تنفذ حالياً أحد أكبر المشاريع التجريبية على مستوى الشرق الأوسط. ويعتمد مشروع "أرامكو" التجريبي على استخلاص نحو 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً في معمل استخلاص سوائل الغاز الطبيعي في الحوية، التي تقع جنوب الهفوف شرقي السعودية، ثم يجري نقل الغاز في أنابيب بطول 85 كيلومتراً لحقنها في المكامن النفطية لحقل العثمانية.
وكانت الإمارات بدأت عام 2016 بتشغيل منشأة "الريادة" لالتقاط الكربون من انبعاثات مصانع شركة حديد الإمارات، ثم حقنه وتخزينه في حقول النفط. ويقوم المشروع، الذي تملكه شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) وشركة أبوظبي لطاقة المستقبل (مصدر)، على التقاط 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، مع خطة طموحة لزيادة الاستطاعة إلى 5 ملايين طن بحلول 2030.
وبالفعل، تمضي شركات الطاقة الوطنية مثل أرامكو السعودية وشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) وقطر للبترول -التي أعيد تسميتها إلى قطر للطاقة- قدماً في الجهود المبذولة، للحد من الانبعاثات وتعزيز الاستثمارات في المنتجات البتروكيماوية المستخدمة في الأسمدة والبلاستيك والمطاط والبوليمرات الأخرى التي يوجد طلب كبير عليها عالمياً.
وأعلنت أرامكو، أكبر شركة نفط في العالم، أنها ستصل إلى "صافي انبعاثات صفر" بحلول عام 2050 في عملياتها، أي قبل عقد من تعهد الحكومة السعودية. وتعهدت أدنوك بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 25% بحلول عام 2030.
وأرسلت قطر للبترول بالفعل شحنة غاز طبيعي مسال خالية من الكربون إلى سنغافورة وستدمج تكنولوجيا احتجاز الكربون في خططها التوسعية، وفقاً لتقرير صادر عن معهد دول الخليج العربي في واشنطن.
وفي حديثه في المنتدى في الرياض، دعا سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة أدنوك، الناس إلى "أن يكونوا أكثر نضجاً ورصانة" في مناقشة تحول الطاقة، وأصر على أنَّ الأمر سيستغرق وقتاً ويجب أن يشمل النفط والغاز.
وقال الجابر: "لا يمكننا الخروج من العدم والتحدث فجأة عن تحول الطاقة، متجاهلين تماماً أو مقللين من تأثير النفط والغاز في المساعدة على تلبية متطلبات الطاقة العالمية"، مشيراً إلى أنَّ 80% من إجمالي احتياجات الطاقة يوفرها حالياً الوقود الأحفوري، 60% منها من النفط والغاز.
متى يتخلى العالم عن النفط؟
وتتوقع منظمة الدولة المصدرة للنفط (أوبك) أنه في حين أنَّ الدفع نحو الطاقة البديلة والمتجددة سيؤذن بدخول عصر انخفاض الطلب على النفط في بعض أجزاء العالم، لكنه سيظل المصدر الأول للطاقة عالمياً حتى عام 2045. وتتوقع أنَّ من بين 2.6 مليار سيارة على الطريق بحلول عام 2045، 20% فقط ستعمل بالكهرباء.
وعلى الرغم من أنَّ دول الخليج الست لا تزال تعتمد اعتماداً كبيراً على الوقود الأحفوري في الإنفاق الحكومي، فقد اتخذت كل منها خطوات لمحاولة تنويع اقتصاداتها، إذ تقود السعودية والإمارات جهوداً حثيثة لجذب الاستثمار في الصناعات الجديدة.
ومع ذلك، يأتي أكثر من نصف عائدات السعودية من النفط، مع توقع وصولها إلى 150 مليار دولار هذا العام وحده مع ارتفاع الأسعار إلى 85 دولاراً للبرميل.
وعلّق المؤلف جيم كرين: "صادرات النفط هي شريان الحياة للاقتصاد السعودي والنظام السياسي السعودي. ستكون كارثة للمملكة، إذا فطم بقية العالم نفسه بسرعة عن النفط".
ويقول العلماء إنَّ العالم يجب أن يستثمر في الطاقة المتجددة، للحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية، على الرغم من أنَّ تقريراً جديداً للأمم المتحدة وجد أنه حتى تعهدات الحكومات الجديدة ليست صارمة بما يكفي للحفاظ على ارتفاع درجات الحرارة دون ذلك، بحلول نهاية مئة عام مقبلة.
ويُعزَى كل الاحترار الذي حدث على الأرض تقريباً إلى انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، وفي حال تجاوز الحد الأقصى، يقول العلماء إنَّ الضرر سيكون لا رجعة فيه.
وفي تصريحات للصحفيين هذا الشهر، تساءل وزير الطاقة القطري سعد الكعبي عمّا إذا كانت الدول التي لديها تعهدات بتحقيق "صافي صفر من الانبعاثات" لديها خطة لكيفية تحقيق ذلك.
وأضاف الكعبي: "بالنسبة لي أن أخرج وأقول: صافي صفر بحلول 2050 مثير جداً.. ما أعنيه هو أنَّ ذلك سيبدو رائعاً في الصحف، لكن لن يكون هذا صائباً".