أطلق سراح رئيس الوزراء المقال عبد الله حمدوك وعاد إلى منزله، فيما دافع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عن سيطرة الجيش على السلطة، بينما تتواصل الاحتجاجات الرافضة والمجتمع الدولي يبدو منقسماً، فمَن الأقرب لفرض إرادته في السودان؟
كان الجيش بقيادة البرهان رئيس مجلس السيادة، قد أعلن الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عدداً من القرارات، أبرزها حل مجلس السيادة وإقالة حكومة حمدوك وفرض حالة طوارئ في البلاد، وأعفى كافة مسؤولي الولايات من مناصبهم، وذلك بعد ساعات من اعتقال حمدوك وعدد من الوزراء والقيادات المدنية في قوى "إعلان الحرية والتغيير"، الشريك المدني في حكم البلاد في الفترة الانتقالية.
وخلال اليومين الماضيين، أصبح السودان ولا يزال فوق صفيح ساخن، فشوارع العاصمة الخرطوم وجسورها الرئيسية مغلقة، والمحتجون يعتصمون في بعض المناطق، وسقط عدد من القتلى والجرحى في مواجهات بين الرافضين لما وصفوه بـ"الانقلاب العسكري" وبين القوات الأمنية والعسكرية.
وعلى الرغم من التنديد الدولي بما حدث في السودان، فإن البرهان بدا مصمماً على التمسك بالقرارات التي تم اتخاذها، وإن كان تم الإفراج عن حمدوك وزوجته، وأشارت تقارير إلى عودتهما إلى مقر إقامتهما، وأجرى أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي اتصالاً مع حمدوك، فإلى أين تتجه الأوضاع في السودان؟
البرهان يُبرّر "إجراءاته الاستثنائية"
أمس الثلاثاء 26 أكتوبر/تشرين الأول، عقد البرهان مؤتمراً صحفياً متلفزاً، دافع فيه قائد الجيش عن سيطرة القوات المسلحة على السلطة، قائلاً إنه أطاح بحكومة حمدوك لتجنب "حرب أهلية"، مضيفاً أن "المخاطر التي شهدناها في الأسبوع الماضي كان من الممكن أن تقود البلاد إلى حرب أهلية"، مشيراً فيما يبدو إلى مظاهرات ضد مؤشرات على اعتزام الجيش الاستيلاء على السلطة.
وقال البرهان إن حمدوك لم يُصبه أذى، وإنه موجود في بيت البرهان، مضيفاً "حمدوك ضيف في منزلي وليس معتقلاً، وسيعود لبيته بعد هدوء الأمور… حمدوك في منزلي لحمايته من قيود فرضتها عليه قوى سياسية".
وفي وقت لاحق، قال مصدر مقرب من حمدوك لرويترز، إنه وزوجته في منزلهما وتحت حراسة مشددة، وقالت مصادر عائلية إنهم لم يتمكنوا من التواصل مع حمدوك أو زوجته عبر الهاتف.
كان البرهان قد أكد في بيانه، الإثنين، على مُضي القوات المسلحة في إكمال التحول الديمقراطي، حتى تسليم قيادة الدولة لحكومة مدنية منتخبة، على حد وصفه. ومن بين قرارات البرهان تجميد بعض مواد الوثيقة الدستورية التي وُقعت من قبل قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد عزل البشير في ديسمبر/كانون الأول 2019.
لكن الموقف على الأرض في الخرطوم يبدو رافضاً لقرارات البرهان، ولم يتغير الموقف كثيراً بعد مؤتمره الصحفي، الثلاثاء، عشية الاشتباكات الدامية التي وقعت في محيط مقر قيادة الجيش، إذ خرجت احتجاجات في الشوارع، منددة بما سمته "الانقلاب"، وسط استجابة تبدو واسعة لدعوات الإضراب والعصيان المدني التي أطلقتها قوى "إعلان الحرية والتغيير".
موقف الشارع الرافض لقرارات البرهان
استيلاء الجيش على السلطة أوقف عملية انتقال السودان إلى الديمقراطية، بعد عامين من الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس عمر البشير الذي حكم البلاد فردياً لنحو ثلاثة عقود متتالية، عانت منها البلاد من عزلة دولية خانقة أدت إلى وصول الاقتصاد لشفا الانهيار.
ومساء الثلاثاء، قال تجمع المهنيين السودانيين على تويتر "تتواتر الإفادات عن هجمة انتقامية تقوم بها قوات الانقلابيين على مواقع تجمعات الثوار في أنحاء متفرقة من العاصمة ومدن أخرى، تُستخدم فيها الأعيرة النارية ومحاولات اقتحام التروس".
كما ذكرت صفحة مكتب حمدوك على فيسبوك، التي يُعتقد أنها ما زالت تحت سيطرة الموالين لرئيس الوزراء المعتقل، أن عدداً من الوزراء والساسة المدنيين لا يزالون قيد الاعتقال في أماكن مجهولة. وقال شهود عيان إن مجهولين اعتقلوا فيصل السالك، وهو مستشار إعلامي سابق لحمدوك.
وقالت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، في تصريحات لقناة الجزيرة، الثلاثاء، إن صديق صادق المهدي المنتمي لحزب الأمة، الذي كان له تمثيل في مجلس السيادة، اعتُقل في منزله، وإن الناشط إسماعيل التاج، القيادي بتجمع المهنيين، الذي كان له دور نشط في احتجاجات 2019 المناهضة للبشير، اعتُقل أيضاً.
وطالبت صفحة مكتب حمدوك على فيسبوك بإطلاق سراحه وإطلاق سراح الزعماء المدنيين الآخرين. وقالت إن حمدوك ما زال "القيادة التنفيذية التي يعترف بها الشعب السوداني والعالم". وأضافت أن البديل هو احتجاجات الشوارع والإضرابات والعصيان المدني.
وفي السياق ذاته، قال مصدر دبلوماسي، الثلاثاء، إن سفراء السودان في 12 دولة، منها الولايات المتحدة والإمارات والصين وفرنسا، رفضوا في بيانٍ الانقلابَ العسكري الذي وقع الإثنين.
ووقّع على البيان أيضاً سفراء السودان لدى بلجيكا والاتحاد الأوروبي وجنيف، ووكالات تابعة للأمم المتحدة وجنوب إفريقيا وقطر والكويت وتركيا والسويد وكندا. وذكر البيان أن السفراء ينحازون إلى جانب المقاومة الشعبية للانقلاب.
شلل في الخرطوم وسقوط قتلى
وقال مسؤول بوزارة الصحة السودانية لرويترز، إن سبعة أشخاص قُتلوا في اشتباكات بين المحتجين وقوات الأمن يوم الإثنين. وشهدت الخرطوم وأم درمان، المدينة الواقعة على الضفة المقابلة من النيل، أغلاقاً جزئياً، وتصاعدت أعمدة الدخان من الأماكن التي أشعل فيها محتجون النار في إطارات السيارات.
ووجهت دعوات للإضراب العام عبر مكبرات الصوت في المساجد، وأغلقت حواجز أقامها محتجون الشوارعَ والجسورَ، وأغلق الجنود الشوارع والجسور، وخلت الشوارع إلا من المتظاهرين وأفراد الأمن الذين انتشروا بكثافة حول القصر الرئاسي ووزارة الدفاع، وظلت بعض الطرق مسدودة بحواجز نصبها المتظاهرون بالحجارة وأغصان الأشجار والإطارات المشتعلة.
وأغلقت البنوك، وتوقفت ماكينات الصراف الآلي عن العمل وتطبيقات الهواتف المحمولة المستخدمة على نطاق واسع في تحويل الأموال، وقال رجل في الخمسينيات من عمره، يبحث عن دواء في إحدى الصيدليات التي قلّت مخزوناتها، متحدثاً بنبرة غاضبة لرويترز "نحن ندفع الثمن في هذه الأزمة، لا يمكننا العمل، ولا يمكننا العثور على الخبز، ولا توجد خدمات ولا مال".
وأظهرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي احتجاجات الثلاثاء في مدن عطبرة ودنقلة والأبيض وبورتسودان. وردد المشاركون فيها هتافات تطالب السودانيين بعدم مساندة الجيش، وتقول لهم إنه لن يحميهم.
وتطرح ردة فعل الشارع السوداني تساؤلات بشأن إذا ما كان البرهان وباقي قيادات المجلس العسكري، الذي عاد لتولي المسؤولية منفرداً بعد قرارات البرهان، قد أساءوا تقدير الموقف الداخلي.
وهذا ما عبّر عنه جوناس هورنر من مجموعة الأزمات الدولية، إذ قال لرويترز إن الجيش استخف بقوة المعارضة المدنية في الشارع، مضيفاً: "لم يتعلموا الدرس، كما رأينا في فترة ما بعد الثورة وما بعد البشير، كانت الشوارع مصممة، وكان المدنيون على استعداد للموت من أجل هذا".
هل الموقف الدولي داعم للجيش في السودان؟
قبل التطرق إلى الموقف الدولي لا بد من رصد الموقف الداخلي كاملاً، إذ إن هناك قوى مدنية مؤيدة لقرارات البرهان، ومنها فصيل من قوى "إعلان الحرية والتغيير" يحمل نفس الاسم، مضافاً إليه "الميثاق الوطني"، وكان أنصار ذلك الفصيل يحتجون أمام مقر قيادة الجيش، مطالبين بإقالة حكومة حمدوك، قبل أيام من قرارات البرهان.
وهناك أيضاً المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في شرق السودان، برئاسة محمد الأمين ترك، وهي الجهة التي أغلقت موانئ وطرق شرق السودان، وتسببت في أزمة خانقة في إمدادات الوقود والسلع الرئيسية في البلاد، مطالبة بإلغاء "مسار الشرق" في اتفاقية السلام الموقعة في جوبا، وبإلغاء "لجنة إزالة التمكين"، وهي اللجنة المسؤولة عن تفكيك نظام البشير واسترداد الأموال المنهوبة، وأعلن البرهان إلغاءها بالفعل، ضمن قراراته يوم الإثنين.
وأعلن مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة بالفعل، اليوم الأربعاء 27 أكتوبر/تشرين الأول، رفع الإغلاق عن الموانئ والطرق في شرق السودان، وهو ما يمثل خطوة إيجابية تصبّ في صالح معسكر البرهان، إن جاز التعبير.
لكن الأوضاع الاقتصادية في السودان، التي كانت تواجه تحديات قاسية في ظل الشراكة بين المدنيين والعسكريين من الأصل، تواجه الآن تحديات أكثر صعوبة، في ظل تهديدات الدول الأوروبية بوقف المساعدات وإعلان واشنطن نفسها تعليق مساعدات قيمتها 700 مليون دولار للسودان، ما لم يتراجع البرهان ويعود حمدوك إلى قيادة الحكومة والإفراج عن جميع المعتقلين.
ففي واشنطن، ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية أن الوزير بلينكن تحدث إلى حمدوك في وقت متأخر من يوم الثلاثاء، ورحب "بإطلاق سراحه من الاحتجاز"، وقالت الوزارة في بيان إن بلينكن عاود التأكيد على مطالبته القوات المسلحة السودانية بالإفراج عن جميع القادة المدنيين المعتقلين.
لكن الموقف الأمريكي، على وجه الخصوص، يثير علامات استفهام برأي كثير من المراقبين، فإدارة جو بايدن امتنعت تماماً عن استخدام وصف "انقلاب" في إفاداتها بشأن ما حدث، كما أن وجود فيلتمان المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي في الخرطوم، ولقاءه مع البرهان الأحد -اليوم السابق لإجراءات البرهان- يشير إلى معرفة واشنطن المسبقة بما حدث، وهذا ما نشره بالفعل موقع Axios الإخباري الأمريكي.
ونددت الدول الغربية بالانقلاب، ودعت إلى إطلاق سراح رئيس الوزراء والوزراء المعتقلين، وأضافت أنها ستقطع المساعدات عن السودان إذا لم يحافظ الجيش على تقاسم السلطة مع المدنيين.
وقالت بعثة ألمانيا لدى الأمم المتحدة على تويتر، إنها ستعلق المساعدات حتى إشعار آخر. وقال دبلوماسيون إن مجلس الأمن الدولي يبحث إمكانية إصدار بيان حول الوضع في السودان.
وندد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الثلاثاء، بما وصفه "وباء الانقلابات"، لأن السودان هو الأحدث في سلسلة من الانقلابات العسكرية شهدتها ميانمار ومالي وغينيا، ومحاولات الانقلاب في عدة دول أخرى.
إلى أين تتجه الأمور إذن؟
لكن يمكن القول إن المؤشرات توحي بأن مجلس الأمن لن يتدخل بصورة مباشرة فيما يحدث في السودان، وهذا ما عبرت عنه روسيا، التي تملك حق الفيتو في المجلس، إذ قال نائب مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة إن موسكو "لا تعتبر ما حدث في السودان انقلاباً".
وقال ديميتري بوليانسكي، قبل لحظات من جلسة مشاورات مغلقة عقدها مجلس الأمن بشأن السودان: " لماذا نقول على ما حدث بالسودان انقلاب عسكري؟ ولماذا لا يكون انتقالاً للسلطة، لقد رأينا ذلك من قبل… في السودان قبل عامين عندما تم التحرك لعزل الرئيس السابق عمر البشير".
واستبعد بوليانسكي، صدور أي بيانات من جلسة مجلس الأمن بشأن السودان، وهو ما حدث بالفعل. "لقد سمعت عن أفكار (يقصد من نظرائه بمجلس الأمن) بشأن ما حدث في السودان، لكنني لم أرَ أي شيء مكتوباً يمكن أن يرقى إلى بيان صادر من قبل أعضاء المجلس".
وكان لنيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، تصريحات لا تحتاج لتفسير بشأن الأوضاع في السودان، إذ قال: "نعرف أن السلطة العسكرية في السودان اختطفت العملية السياسية، وسعيها يتعارض مع الوثيقة الدستورية"، لكنه استدرك: "إذا شعرنا أن الاتصال بالعسكريين السودانيين سيكون بنّاء ومفيداً من أجل مصلحة السودانيين والعملية الديمقراطية فلن نخجل من القيام بذلك".
وترسم هذه المعطيات الداخلية والخارجية صورة معقدة تماماً للأوضاع على الأرض في السودان، بين مجتمع مدني قوي ومتماسك وشارع رافض للانقلابات العسكرية وانفراد الجيش بالسلطة من جهة، وبين انقسامات جهوية ومطالب مناطقية واختلافات في وجهات النظر بين المدنيين من جهة أخرى، يرى فريق من المحللين أنها تصب في مصلحة قيادة الجيش.
ويرى فريق من المحللين أن فرصة البرهان في فرض إرادته على المشهد كما يريد لا تبدو قوية، خصوصاً أن حمدوك نفسه أصبح الوجه الأكثر تمثيلاً للسودان على الساحة الدولية، وهذا ما يفسر إعادته وزوجته إلى مقر إقامتهما -رغم استمرار الحراسة المشددة عليهما ومنع التواصل عنهما- في مقابل استمرار اعتقال باقي الوزراء والمستشارين والشخصيات المدنية الأخرى.
وفي نهاية المطاف، ربما يكون من المستحيل توقع الاتجاه الذي قد تؤول إليه الأوضاع في السودان في نهاية المطاف، لكن فرصة انفراد الجيش بالسلطة وصولاً إلى الانتخابات المقررة في يوليو/تموز من عام 2023، كما قال البرهان، ضعيفة على الأرجح.