يُنظر إلى تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة حول العالم على أنّها كارثةٌ تزحف باتجاهنا لتُهدِّد الأرواح وسُبل العيش بالفياضانات، والحرائق، والجفاف. كما تتطلب منا جهوداً جبارة وإنفاقاً كبيراً في سبيل مواجهتها.
لكن في روسيا، وتحديداً بيفيك، المدينة المرفئية الصغيرة على ساحل المحيط المتجمد الشمالي أقصى شمال البلاد، يُنظر إلى ارتفاع درجات الحرارة على أنه منجم ثروات يقترب ببطء، كما يقول تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية. وتقول فالنتينا خريستوفوروفا، أمينة أحد المتاحف التاريخية المحلية للصحيفة: "يُمكنني وصف الأمر بأنّه إعادة إحياء. نحن ندخل عصراً جديداً".
كيف تستفيد روسيا مادياً من أزمة تغير المناخ؟
بينما تُسارع حكومات العالم للقضاء على التأثيرات الكارثية المحتملة لتغيّر المناخ؛ يبدو أن اقتصاديات الاحتباس الحراري لها تأثيراتٌ مختلفة في روسيا.
حيث تتوسّع الأراضي الصالحة للزراعة، مما يُمكّن المزارعين من زراعة الذرة في سيبيريا على أراضٍ لم تشهد زراعتها من قبل. كما انخفضت فواتير التدفئة الشتوية أيضاً، في حين تمكّن الصيادون الروس من صيد كميات كبيرة من سمك البلوق في المناطق الذائبة من المحيط المتجمد الشمالي قرب ألاسكا.
وآفاق المستقبل تبدو براقةً في أقصى الشمال الروسي أكثر من أي مكانٍ آخر، حيث فتحت درجات الحرارة التي ترتفع بسرعة الباب أمام سيلٍ من الفرص الجديدة: مثل مشاريع التعدين والطاقة. ولعل الفرصة الأهم التي أُتيحت هي إمكانية مرور الشحن على مدار العام عبر المحيط المتجمد الشمالي باستخدام سُفن حاويات مخصصة للجليد، لتُوفّر بذلك بديلاً لقناة السويس في مصر بدايةً من العام المقبل على الأرجح.
استغلال الفرص بعد ذوبان الجليد
وتحمل سياسة الكرملين تجاه تغيّر المناخ شيئاً من التناقض، كما تقول نيويورك تايمز. إذ لا تمثل أزمة المناخ قضيةً مهمة على صعيد السياسة المحلية. لكن الرئيس فلاديمير بوتين، الحريص دائماً على صورة روسيا أمام العالم، تعهّد مؤخراً للمرة الأولى بأن روسيا ستصير دولةً محايدة للكربون بحلول عام 2060.
ولكن من حسن حظ بيفيك ومدن أقصى الشمال الروسي أنّ النهج الروسي على أرض الواقع يتمحور حول التالي: ربما يُشكّل تغيّر المناخ تهديداً هائلاً لمستقبلنا، فما الذي يمنعنا إذاً من استغلال الفرص التجارية التي يُتيحها لنا في الحاضر؟
بطول أقصى الشمال الروسي المطل على المحيط المتجمد الشمالي، تعكف مجموعة شركات مدعومة من الحكومة الروسية على تنفيذ خطة لاستثمار نحو 10 ملايين دولار على مدار خمس سنوات من أجل تطوير الممر الشمالي الشرقي، وهو ممر شحنٍ بحري بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلنطي يُطلق عليه الروس اسم (طريق بحر الشمال). ويُخططون بذلك لجذب سفن الشحن- بين آسيا وأوروبا- التي تمرُّ حالياً عبر قناة السويس، وتمكين التعدين، واستخراج الغاز الطبيعي، وإنشاء المشروعات السياحية.
ومع انحسار الجليد أكثر، تزيد الأفكار التجارية القابلة للتطبيق؛ حيث فقد المحيط المتجمد الشمالي نحو 2.5 مليون كيلومتر مربع من الجليد، ومن المتوقع أن يكون خالياً من الجليد بالكامل في فصول الصيف بحلول منتصف القرن الجاري- حتى في القطب الشمالي.
مدن مهمَّشة تنهض من جديد
وتُعتبر مدينة بيفيك ميناءً حيوياً يقع على الحافة الشمالية لهذا المحيط الذائب. ولكن قبل أن يذوب الجليد وتبرز معه الفرص الاقتصادية الجديدة، كانت مدينة بيفيك مجرد مدينة متجمدة معزولة، وواحدةً من عدة مدن تعود إلى زمن الإمبراطورية السوفييتية ولكنها أوشكت على الموت وكادت تتحول إلى مدن أشباح.
فمنذ بضع سنوات، كانت المدينة والقرى التابعة لها شبه مهجورة؛ إذ انخفض عدد سكانها من 25 ألف نسمة في العصور السوفييتية إلى نحو ثلاثة آلاف نسمة فقط. حيث قال أحد سكانها بافل روخوف: "كانت هناك شائعات تقول بأنّ تلك المدن سوف يتم إغلاقها".
لكن الاحترار العالمي جاء ليقلب عجلة الحظ، ويرفع تعداد السكان بنحو 1.500 شخص، ويُقدّم بذلك أوراق اعتماد استراتيجية الكرملين للتكيّف مع تغيّر المناخ- بالإنفاق متى دعت الحاجة والتربّح متى أمكن.
وليست عيون الكرملين معميةً عن سلبيات الاحترار العالمي، حيث أقر في مرسومٍ السياسة صدر عام 2020 بأنّ "الشعب الروسي، والاقتصاد، والموارد الطبيعية معرضون للخطر بسبب تداعيات تغيّر المناخ".
وأشارت الخطة إلى أنّ ظاهرة الاحترار العالمي ستتطلّب عملية تكيّف مكلفة؛ إذ سيتعيّن على الحكومة منع اندلاع الحرائق في الغابات التي صارت عرضةً لحرائق الغابات مؤخراً، وتقوية السدود ضد فيضانات الأنهار، وإعادة بناء المنازل التي تنهار بسبب ذوبان التربة الصقيعية، والتهيؤ للتراجع المحتمل في الطلب العالمي على النفط والغاز الطبيعي.
منافسة قناة السويس
بينما قالت Rosatom، شركة الطاقة النووية التابعة للحكومة الروسية والمُكلّفة بتنسيق الاستثمارات في ممر الشحن البحري، إنّ المبادرة تستفيد مادياً من تغيّر المناخ وتساعد في الوقت ذاته على تقليل انبعاثات الكربون من السفن التي تبحر بين أوروبا وآسيا بنسبة 23%، مقارنةً بالطريق الأطول إلى قناة السويس.
والرحلة من بوسان في كوريا الجنوبية إلى أمستردام في هولندا مثلاً عبر طريق بحر الشمال ستكون أقصر بـ13 يوماً- وهذا توفيرٌ هائل في الوقت والوقود.
وقد ارتفعت حركة مرور السفن في أقصى الشمال الروسي بنسبة 50% العام الماضي، لكنها لا تمثل سوى 3% فقط من حركة المرور التي تعبر قناة السويس حتى الآن. في حين أوضح نائب رئيس الوزراء يوري تروتنيف لوسائل الإعلام الروسية أنّ عملية التشغيل التجريبية في فبراير/شباط الماضي أثبتت إمكانية عبور الممر في الشتاء باستخدام سفن تجارية مجهزة خصوصاً، لذا من المتوقع أن ترتفع حركة المرور بشدة بعد فتح الممر على مدار العام بدءاً من العام المقبل. وأردف: "سنسحب حركة النقل من قناة السويس تدريجياً. ولا أعتقد أن توفير خيارٍ ثانٍ للبشرية سيزعج أي أحد".
وقد بدأت الأموال في التدفق على مشروعات المنطقة القطبية الشمالية. حيث وقعت Rosatom في يوليو/تموز على اتفاقٍ مع شركة موانئ دبي العالمية لتطوير عددٍ من الموانئ وأسطولٍ من سفن الحاويات المخصصة للجليد مع هياكل مُدعمة للتنقل عبر البحار الجليدية.
كما أدّى ذوبان المحيط إلى زيادة ربحية مشروعات النفط والغاز الطبيعي والتعدين، بتقليل تكلفة شحن الإمدادات إلى المواقع وشحن المنتجات منها. وقد تشكّلت شركة محاصصة برأس مال يصل إلى عدة مليارات من الدولارات بشراكة بين Novatek الروسية وTotal الفرنسية وCNPC الصينية ومستثمرين آخرين، وتقوم الآن بتصدير نحو 5% من إجمالي الغاز الطبيعي المُسال المتداول عالمياً عبر المحيط المتجمد الشمالي.
ويقول المحللون بشكلٍ عام إنّ ست شركات روسية كبرى على الأقل، تعمل في مجالات الطاقة والشحن والتعدين، ستستفيد من ظاهرة الاحترار العالمي. لكن الاستفادة الوحيدة التي لم يشعر بها سكان بيفيك هي الإحساس بارتفاع درجات الحرارة فعلياً. فبالنسبة لهم لا يزال الطقس يبدو بارداً وكئيباً كما كان دائماً.