لم يتبقَّ إلا أشهر قليلة على الفصل الأخير في الانتخابات الرئاسية في فرنسا، التي ستُعقد في أبريل/نيسان 2022، ورغم ذلك لم يحسم المحافظون أمرهم في اختيار مرشح يمثلهم في هذا الاقتراع.
"لدى فرنسا المحافظون الأغبى في العالم"
هذه الحالة تعيد إلى الأذهان تهكُّم رئيس الوزراء الاشتراكي الفرنسي جاي موليه في عام 1957 الذي قال: لدى فرنسا المحافظون الأغبى في العالم. فقبل ستة أشهر من الانتخابات، يشعر العديد من أعضاء البرلمان بالفزع من أن حزب يمين الوسط ينتظر ستة أسابيع أخرى قبل تحديد بطله لمواجهة الكمين الأخير لليمين الذي يُعِدُّه إريك زمور، المُحلِّل التلفزيوني المتطرف المناهض للمسلمين ويرفع لواء الحنين القومي، بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
ودعا كريستيان جاكوب، زعيم الجمهوريين، إلى ثبات الأعصاب في الوقت الذي يسعى فيه المُرشَّحون الثلاثة الأوائل، الذين تصدَّرهم كزافييه برتراند، رئيس منطقة "أعلى فرنسا" الشمالية، إلى تصويت أعضاء الحزب البالغ عددهم 90 ألف عضو في مؤتمرٍ يُعقَد في 4 ديسمبر/كانون الأول.
وبعيداً عن الحزب، قال 25% من الأشخاص الذين صوَّتوا لآخر مُرشَّحٍ رئاسي للجمهوريين، فرنسوا فيون المُتعطِّش للفضائح، لمنظِّمي استطلاعات الرأي، إنهم سيدعمون زمور، 63 عاماً، في انتخابات أبريل/نيسان المقبل. ويصوِّر زمور نفسه باعتباره الوريث الحقيقي لـ"المجد الديجولي"، ويسخر من إرث الحزب ومرشَّحيه الستة، واصفاً إياهم بالعاجزين.
وقال: "إنه عجزٌ مُنظَّم، وقد قبلوا به، في ظلِّ حكم القضاة الأوروبيين ولجنة بروكسل، والعجز عن قدرتهم على استخلاص الدرس الصحيح من التاريخ".
إريك زمور.. "ترامب فرنسا" الجديد
يُعَدُّ زمور، الصحفي السياسي والمُعلِّق ذو الأصل اليهودي الجزائري، ولديه قناعاتٌ عدة متجذِّرة في خطاب الكراهية، مدافعاً صريحاً عن نظرية "الاستبدال العظيم"، التي تفترض أن الأوروبيين البيض يُستَبدَلون بالمهاجرين، ويدَّعي أن فرنسا تنزلق تجاه الحرب الأهلية.
لم يؤكِّد الترامب الفرنسي المُحتَمَل أنه سيخوض انتخابات أبريل/نيسان، لكنه وضع نصب عينيه اليمين السائد مباشرةً بعد انتقاده اعتبار مارين لوبان بطلةً بلا منازع لقضية معاداة المهاجرين. لقد رفض لوبان الأسبوع الماضي واصفاً إياها باليسارية حتى النخاع، ويحاول الآن سدَّ الفجوة بين التيار المحافظ وحزب التجمع الوطني الذي لا يزال غير مرغوب.
وبينما قال بعض كبار المحافظين إن بإمكانهم التصويت لصالح زمور، أصدر الحزب الجمهوري قراراً رسمياً بأن يكون خارج نطاق الحزب. قال جاكوب: "زمور ليس عضواً في عائلتنا السياسية. يدَّعي أنه يستوحي أفكاره من ديغول، لكنه يدافع عن فيليب بيتان".
تكرَّرَ هجوم زعيم الحزب على دفاع زمور عن المارشال فيليب بيتان، المتعاون مع النازيين في وقت الحرب، على لسان فاليري بيكريس، الوزيرة السابقة المتنافسة الآن على الرئاسة. استدعت بيكريس إلى الذاكرة مؤامرات اليمين ضد قائد المقاومة الفرنسية الحرة سابقاً والرئيس لاحقاً في أوائل الستينيات. وقالت: "لا يمكن أن تطلق على نفسك "ديغولي" بينما تتحالف مع الأشخاص الذين حاولوا اغتيال الجنرال ديغول نفسه".
وجود مرشح يميني متطرف هز الحملات الانتخابية الفرنسية
ورفض كثيرون في الساحة السياسية صعود زمور في استطلاعات الرأي هذا الشهر إلى المركز الثاني أو الثالث، باعتباره ومضةً سريعة خلقتها وسائل الإعلام ليس إلا، لكن وجوده هزَّ الحملات الانتخابية المبكَّرة. يستفيد الرئيس ماكرون، المُرشَّح الأوفر حظاً للفوز بالانتخابات، من انقسام اليمين الذي بدأه هو بنفسه بحملته الخارجة عن إطار الأحزاب في عام 2017. ومع ذلك، لم يعد واثقاً من أنه سيواجه تكراراً لمرحلة الإعادة المريحة التي شهدها في ذلك العام ضد لوبان.
يكافح الجمهوريون الفرنسيون الآن على جبهتين: إيقاف انشقاق "المعتدلين" عن ماكرون، الذي تحوَّلَ إلى يمين الوسط، وصد اليمين المتشدِّد الذي يتصدَّره زمور. في الجانب المشرق للجمهوريين، أدَّى وصول زمور إلى خض عتبة الوصول إلى الجولة الثانية. وتُظهِر استطلاعات الرأي أن لديهم فرصةً لذلك والاستمرار في التغلُّب على ماكرون، إذا قدَّموا مُرشَّحاً قوياً يحظى بالدعم عبر طيف اليمين.
تراجَعَ الجمهوريون عن انتحارهم الانتخابي المؤكَّد هذا الشهر عندما تخلَّى برتراند عن محاولته الترشُّح بمفرده خارج الحزب، ووافق على الاختيار الأوَّلي إلى جانب بيكريس. ويُعَدُّ ميشيل بارنييه، المفاوض السابق في الاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خياراً جمهورياً آخر يُحتَمَل أن يكون قوياً، مِمَّا يترك فرصةً ضئيلةً لثلاثة مُرشَّحين رجال آخرين.
هل تكون نهاية المحافظين الفرنسيين؟
وأظهرت استطلاعاتٌ للرأي أن برتراند، 56 عاماً، الوزير السابق في عهد ساركوزي، أصبح هو المنافس الوحيد الذي يمكنه إطاحة ماكرون. يصوِّر برتراند نفسه كخيارٍ واضح، لأنه يمكنه إعادة الناخبين الذين يغريهم زمور ولوبان مع طمأنة المعتدلين. ويصنِّف نفسه على أنه رجلٌ عادي بدأ حياته العملية كبائعٍ في بلدةٍ صغيرة في شمال فرنسا. وقال في إشارةٍ ساخرة من ماكرون: "وكيل التأمين في شمال فرنسا ليس هو نفسه المصرفي الاستثماري في باريس".
حذَّرَ برتراند الحزب، الأسبوع الماضي، لكي يتَّخِذوا خياراً واقعياً، قائلاً في تجمُّعٍ محلي: "إذا لم نفُز في هذه الانتخابات ولم نكن في الجولة الثانية، فسوف تكون هذه نهايةً للعائلة السياسية التي هي وريثة الجنرال ديغول وجاك شيراك وساركوزي".
رغم كونه الأكثر شعبيةً لدى الجمهور، فقد لا تختار قواعد الحزب برتراند، لأنه أدار ظهره للحزب، مثلما فعلت بيكريس، 54 عاماً، حتى انضمَّت إليه مرةً أخرى هذا الخريف. وبصفتها برجوازية باريسية، تعاني بيكريس أيضاً من أن تبدو في أعين الجمهور بالقرب من ماكرون.
وعزَّزَ ذلك من احتمالات أن يكون بارنييه (70 عاماً) الموالي للحزب. ظلَّ وزير الخارجية السابق، الذي كان أقل تقديراً، غائباً عن السياسة الفرنسية لأكثر من عقدٍ من الزمان، لكنه شخصيةٌ مطمئنة من شأنها أن تشفي أمةً مُمَزَّقة. وقد وضعه استطلاعٌ لراديو فرنسا في المقدمة في الانتخابات التمهيدية، لكنه لا يزال بعيد المنال فيما يُتوقَّع في التصويت الرئاسي لشهر أبريل/نيسان.
تقول "ذي تايمز" البريطانية إن "شيوخ الحزب"، بما في ذلك ساركوزي، يأسفون على غياب شخصية كاريزمية يمكنها اغتنام الفرصة للتغلُّب على ماكرون، 43 عاماً، والعودة إلى السلطة التي احتلَّها الحزب آخر مرة قبل هزيمته في عام 2012.
هل يستمر ماكرون "الضعيف"؟
يُنظَر إلى ماكرون على نطاقٍ واسع باعتباره متعجرِفاً، لكنه ضعيفٌ لأن غالبية البلاد تريد التخلُّص منه. لا يوافق 60% من المشاركين في الاستطلاعات عليه، ويظلُّ هو عند 25% بشكلٍ عام في استطلاعات الرأي، لكنه لا يزال في طريقه للفوز بفترة ولاية ثانية إذا ظلَّ خصومُه منقسمين.
قال ساركوزي إن زمور ظَهَرَ لأن الحزب أصبح ليناً تحت ضغط الصوابية السياسية في القضايا التي يهتم بها الناس، بما في ذلك الهجرة والإسلام. وأضاف أن هذا "أفرغ الجدل السياسي وخلق فراغاً. زمور ليس سبب هذا الفراغ، بل هو عَرَض ناتج عنه. عندما يطرح سياسيو الحزب أفكاراً قوية على الطاولة، يُنبَذون باعتبارهم متشدِّدين ويمينيين متطرِّفين".