كان سيناريو استمرار صعود الصين وتبوأها مكانة الدولة العظمى بمثابة حتمية تاريخية بالنسبة لكثيرين، ولكن الآن تتصاعد مؤشرات على أن قوة الصين الاقتصادية والسياسية قد تبدأ في الأفول أو على الأقل قد تتوقف عن النمو الذي أدهشت به العالم، فلماذا يحدث هذا التغير الاستراتيجي وكيف سيؤثر على العالم.
فبعد أن كانت مصدراً من مصادر قوة الاقتصاد العالمي على مدى زمني طويل، أصبحت الصين اليوم مصدراً للقلق للعالم، حسبما ورد في تقرير نشره موقع بلومبيرغ الشرق.
فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني 40 ضِعْفاً منذ عام 1978، بينما تتربَّع الصين على قمة العالم من حيث الاحتياطي النقدي، والفائض التجاري، والاقتصاد وفق مقياس تعادل القوة الشرائية، والقوات البحرية مقيسة بعدد السفن.
بيد أن الصين في عجلة من أمرها كما يبدو، وذلك لأن نجمها في الواقع أوشك على الأفول. لقد كانت الرياح مواتية لصعود الصين طيلة عقود، أما الآن فقد انعكست هذه الرياح بما لا تشتهيه الصين، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية ترجمه موقع الميدان التابع لـ"الجزيرة.نت".
أطول تباطؤ منذ نهاية عصر ماو
تواجه الصين حالياً نزعتين: ركود النمو، والتطويق الاستراتيجي، وهُما يكتبان نهاية صعودها.
فبسبب مشكلات الاقتصاد الصيني المتراكمة، دخل مؤخراً أطول تباطؤ شهده عصر ما بعد ماو، إذ انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الرسمي من 15% عام 2007 إلى 6% عام 2019، ثمَّ جاءت الجائحة لتهبط بالنمو إلى ما يزيد بقليل على 2% عام 2020. أما الإنتاجية، المُكوِّن الأساسي لصناعة الثروة، فانخفضت بنسبة 10% بين عامَي 2010-2019، وهو أسوأ هبوط للإنتاجية تشهده قوة عظمى منذ الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات.
فمشكلة تباطؤ معدل نمو الاقتصاد الصيني، التي تفاقمت بسبب أزمة الديون بقطاع العقارات، ونقص الطاقة الذي يتسبب في إغلاق المصانع، تجعل انتعاش الاقتصاد العالمي معتمداً أكثر على الولايات المتحدة، وفقاً لتقرير بلومبيرغ الشرق .
وحسب البيانات التي أعلنتها الحكومة الصينية مؤخراً، فلقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 4.9% خلال الربع الثالث من العام الحالي، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وهو مستوى يقل كثيراً عن توقعات الاقتصاديين، وينخفض كذلك بنسبة كبيرة عن معدل 7.9% الذي سجله النمو الاقتصادي خلال الفترة من شهر أبريل/نيسان إلى شهر يونيو/حزيران. وقد انخفض معدل النمو بمقدار نقطة مئوية كاملة تقريباً عمّا كان عليه خلال الربع الأخير من عام 2019، عشية اندلاع جائحة كورونا.
كان أمراً حتمياً، بل مرغوباً فيه، حدوث بعض التراجع عن الوتيرة السريعة والعنيفة للنمو الاقتصادي الصيني التي شهدناها في بداية العام.
فقد كان أداء الصين صاخباً في بداية العام، وحققت نمواً قياسياً بلغ 18.3% في الفترة من يناير/كانون الثاني وحتى نهاية شهر مارس/آذار 2021.
غير أن برودة النشاط الاقتصادي جاءت أكثر حدة من التوقعات، كما ظهرت توترات عنيفة في الوقت ذاته. وضغطت القيود المتشددة التي فرضتها الحكومة على قطاع العقارات، على جانب كبير من النشاط الاقتصادي، بينما تحاصر أزمة الديون شركة "تشاينا إيفرغراند غروب" (China Evergrande Group)، وهي شركة تطوير عقاري كبرى، وتمتد أزمتها للتأثير على بقية القطاع. فقد انخفض مجموع مبيعات أكبر 100 شركة تطوير عقاري في البلاد بنسبة 36% على أساس سنوي في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، الذي يعتبر عادةً ذروة موسم مبيعات المنازل.
واضطرت المصانع إلى الإغلاق تماماً أو تخفيض إنتاجها، بسبب أزمة نقص الكهرباء. وتسبب تكرار انتشار عدوى كوفيد-19 في انخفاض إنفاق المستهلكين انخفاضاً شديداً.
ليست مشكلات طارئة أو مؤقتة
تُخفي الحكومة الصينية ركوداً اقتصادياً خطيراً، وتنزلق عائدة إلى نظام شمولي هش، حسب تقرير مجلة Foreign Affairs.
هذا علاوة على ما تُعانيه البلاد من ندرة حادة في الموارد، وما تواجهه من انخفاض في عدد السكان، وهو الانحدار الديمغرافي الأسوأ من نوعه في التاريخ (في أوقات السِّلْم).
وأخيراً، وليس آخراً، تخسر الصين تدريجياً اليوم صِلاتها بالعالم الذي رحَّب بها يوماً ومَكَّنها من التقدُّم.
عصف الفقر والجوع بالصين المعزولة والمحاصرة، بيد أن الانفتاح على الولايات المتحدة عام 1971 كسر هذا النمط، فحظيت الصين فجأة بشريك من القوى العظمى، حيث عجَّلت واشنطن من اندماج بكين مع بقية العالم.
وبحلول منتصف السبعينيات، أصبحت الصين بلداً آمناً، وصارت لديها القدرة على الوصول إلى الأسواق ورؤوس الأموال الأجنبية، وحدث كل ذلك في توقيت مثالي. لقد ارتفعت التجارة العالمية بمقدار ستة أمثالها في الفترة بين عامَي 1970-2007، وركبت الصين موجة العولمة لتصبح مصنعاً للعالم.
تمكَّنت الصين من ذلك، لأن حكومتها التزمت بالإصلاح بدرجة كبيرة، فبعد وفاة "ماو تسي تونغ" عام 1976، شرَّع الحزب الشيوعي الصيني حدوداً للفترة الرئاسية مع قيود رقابية أخرى على كبار قادة الدولة، ثمَّ بدأت في مكافأة الأداء الاقتصادي الجيد والكفاءة التكنوقراطية.
وسُمح للمجتمعات الريفية بإنشاء شركات متساهلة تنظيمياً، وتوسَّعت المناطق الاقتصادية الخاصة في شتى أنحاء البلاد؛ ما سمح للشركات الأجنبية بحرية العمل. وفي إطار استعداداتها للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001؛ تبنَّت الصين مجموعة من الأنظمة القانونية والضريبية الحديثة، ومن ثمَّ حازت بكين حزمة السياسات اللازمة للازدهار في عالم مفتوح.
تركيبة سكان كانت مثالية
حازت الصين أيضاً التركيبة السكانية المواتية، إذ شهدت أعظم قِسمة سكانية في التاريخ الحديث، حسب وصف المجلة الأمريكية.
ففي العقد الأول من القرن الحالي، وصل عدد البالغين في سن العمل إلى عشرة أمثال المواطنين المُسِنين، في حين يبلغ المتوسط خمسة أمثال تقريباً في معظم اقتصادات العالم الكبرى.
ولقد نشأت هذه الميزة السكانية نتيجة عرضية لتقلُّبات السياسات المتهوِّرة، حيث حث الحزب الشيوعي الصيني النساء على إنجاب كثير من الأطفال في الخمسينيات والستينيات؛ لتعزيز عدد السكان الذين أنهكتهم الحروب والمجاعات، فارتفع التعداد السكاني بنسبة 80% في 30 عاماً. لكن بكين شدَّت حزام المواليد في السبعينيات، وحدَّدت الإنجاب لكل أسرة بطفل واحد. نتيجة لذلك، امتلكت الصين قوة عاملة هائلة مع أعداد ضئيلة نسبياً من المسنين والأطفال المحتاجين إلى الرعاية. ما من تركيبة سكانية كانت مؤهلة للإنتاج مثل الأمة الصينية في تلك اللحظة.
لم تحتج الصين إلى مساعدة خارجية كبيرة لتزويد مواطنيها بالغذاء والمياه، أو إمداد صناعاتها بمعظم المواد الخام اللازمة، وجعلت عوامل مثل سهولة الوصول إلى هذه الموارد، إضافة إلى العمالة الرخيصة وضعف سياسات حماية البيئة، جعلت من الصين مركزاً هائلاً للصناعة.
أسباب الصعود هي ذاتها عوامل الهبوط
بيد أن عطايا القدر تلك لا تدوم طويلاً، فعلى مدار العقد الماضي، صارت المزايا التي حفَّزت صعود البلاد يوماً هي نفسها الالتزامات التي تشدُّها إلى أسفل، حسب وصف Foreign Affairs.
بادئ ذي بدء، شارفت الصين على نفاد مواردها، إذ اختفت نصف أنهارها، وتسبَّب التلوث في جعل 60% من مياهها الجوفية "غير صالحة لاستهلاك البشر"، بحسب اعتراف الحكومة نفسها.
إضافة إلى ذلك، تشهد البلاد تدهوراً في الأمن الغذائي بعدما دمّرت 40% من أراضيها الزراعية بسبب الاستخدام المفرط، وباتت اليوم أكبر مستورد للمنتجات الزراعية في العالم.
ونتيجة جزئية لندرة الموارد، ارتفعت تكلفة النمو ارتفاعاً كبيراً وبات على الصين استثمار ثلاثة أمثال رأس المال الذي استثمرته سابقاً لخلق نمو مماثل لما أنجزته مطلع القرن الحالي.
علاوة على ذلك، تقف التركيبة السكانية الصينية على أعتاب الانكماش، ويعود الفضل في ذلك إلى إرث سياسة الطفل الواحد. ستفقد الصين عمالاً ودافعي ضرائب يُكافئ عددهم تعدادهم الشعب الفرنسي، مع زيادة أصحاب معاشات ومتقاعدين بشكل يكافئ تعداد الشعب الياباني. ثم ستفقد الصين 105 ملايين عامل إضافي بين عامَي 2035-2050، وسيزداد بالتزامن عدد المُسِنين بنحو 64 مليوناً آخرين. ستكون العواقب الاقتصادية وخيمة.
سيكون التعامل مع هذه المشكلات عسيراً، لأن الصين يحمكها حُكم استبدادي منفرد يُضحِّي بالكفاءة الاقتصادية لصالح القوة السياسية، حسب المجلة الأمريكية.
محاباة الشركات الحكومية على حساب القطاع الخاص الذي صنع المعجزة الصينية
ورغم أن الشركات الخاصة تُولِّد معظم الثروة في البلاد، فإنها حُرِمَت من رأس المال تحت حكم الرئيس "شي جينبينغ".
عوضاً عن ذلك، تحصل الشركات المملوكة للدولة والأقل كفاءة على 80% من الدعم والقروض الحكومية. لقد قاد الروَّاد المحليون وشركاتهم طفرة الصين الاقتصادية، لكن حملة مكافحة الفساد التي قادها "شي" نفَّرتهم من الانخراط في تجريب المشروعات من جديد.
ولقد حظرت الحكومة فعلياً نشر أخبار اقتصادية سلبية، وهو أمر استحالت معه الإصلاحات الحيوية تقريباً، في حين انسحق الابتكار بفعل موجة من القوانين ذات الدوافع السياسية.
بالتزامن مع تحوُّل الصين إلى دولة أكثر حزماً وسلطوية، بات العالم هو الآخر أقل ملاءمة للنمو الصيني، إذ واجهت بكين آلاف العوائق التجارية منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. علاوة على ذلك، تعزل اقتصادات العالم الكبرى اليوم شبكاتها التجارية عن التأثير الصيني، حيث تسعى أستراليا والهند واليابان وغيرها إلى إبعاد الصين عن سلاسل الإمداد الخاصة بهم.
الرهان على الابتكار التكنولوجي قد لا ينجح
يأمل الرئيس الصيني إحياء النمو السريع عبر الابتكار التكنولوجي، وقد زاد الإنفاق على البحث والتطوير بالفعل بثلاثة أمثاله منذ عام 2006.
ورغم هذه الجهود، فإن نصيب الصين من السوق العالمية في معظم الصناعات العالية التقنية لا يزال ضئيلاً. والسبب الرئيسي في ذلك هو أن نظام البحث والتطوير الصيني محكوم من أعلى إلى أسفل، ورغم أنه ممتاز في حشد الموارد، فإنه يخنق التدفُّق المفتوح للمعلومات ورأس المال اللازمَيْن للابتكار المُستديم.
وستتفاقم المشكلة بفعل القمع السياسي الجاري الذي يُحفِّز الانصياع للرأي الواحد.
ويمثل التجسس الصيني على أمريكا وسيلة بكين الرئيسية لمنافسة واشنطن وصولاً إلى هدفها للتفوق عليها، ولكن الولايات المتحدة تحاول إغلاق هذه الثغرة.
التطويق الاستراتيجي الأمريكي بدأ يؤتي ثماره
لطالما تجنَّبت الصين أثناء صعودها طيلة 40 عاماً تقريباً، تطويقها استراتيجياً عن طريق التقليل من شأن طموحاتها العالمية، والحفاظ على علاقات ودية مع الولايات المتحدة.
لكن هذه المرحلة انتهت منذ أن أصبحت بكين أكثر عدوانية في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان أو أصبح العداء للصين محور السياسة الأمريكية.
فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، تخلَّت الولايات المتحدة عن التفاعل البنَّاء وانتهجت سياسة احتواء جديدة. فقد أجرت واشنطن توسعة بحرية وصاروخية هي الأكبر في 30 عاماً، وفرضت رسوماً جمركية هي الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية، وطبَّقت أشد قيود عرفتها منذ الحرب الباردة على الاستثمار الأجنبي، وجميعها إجراءات موجَّهة ضد بكين.
واشتكى نائب وزير الخارجية الصيني هذا العام من "حملة حكومية وشعبية، هدفها تركيع بلاده".
يصُب تحوُّل الموقف الأمريكي تجاه الصين لصالح كفة رد الفعل المتنامي على نطاق أوسع ضد قوة بكين من الدول الآسيوية والغربية، بالتأكيد يظل التعاون المناهض للصين قيد التنفيذ ولم تتبلور ملامحه بعد، لأن دولاً عديدة لا تزال معتمدة على التجارة مع بكين، غير أن هذه الشراكات المتشابكة قد تكون في النهاية سيفاً مُسلَّطاً على رقبة الصين.
تأثير أفول الصين على العالم
قد تكون الصين قوة أتمَّت صعودها بالفعل، لا قوة صاعدة، حسب المجلة الأمريكية.
فقد اكتسبت إمكانات جيوسياسية هائلة، لكن أجمل أيامها ولَّت بالفعل. وتلك التفرقة مهمة هُنا، لأن الصين خطَّطت لتحقيق طموحات لا سقف لها، ولعلها لن تستطيع تحقيقها الآن دون أن تسلك سلوكاً حاداً.
تباطؤ الاقتصاد الصيني حالياً جاء في توقيت صعب للغاية: ارتفاع في مستوى التضخم من نيوزيلندا إلى المملكة المتحدة يحتمل أن يسرّع من وتيرة الانتقال إلى سياسة نقدية تقشفية في مختلف أنحاء العالم المتقدم، بينما تتباطأ وتيرة النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، وفقاً لموقع بلومبيرغ الشرق.
ولذا فإن التباطؤ الاقتصادي في الصين مشكلة يحتاج صنّاع السياسة إلى مواجهتها، على المديين القصير والمتوسط على الأقل.
وربما تنتهي آلام بكين إلى دفع الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي إلى تأجيل خروجهما النهائي من سياسة التيسير النقدي، حتى وإن كان التضخم أعلى كثيراً من المستوى المرغوب.
المفارقة أن أوجاع الصين زادت من اعتماد العالم على الولايات المتحدة، التي أسهم برنامج التحفيز لديها في قيادة انتعاش اقتصادي قوي في بداية العام.
وفي حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن يسجل الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي معدل نمو قوياً يبلغ 5.9%، بدأ النمو الاقتصادي يفقد قوته الدافعة. ويخفض الاقتصاديون تقديراتهم للنمو في الولايات المتحدة، حتى إن اثنين من الأكاديميين المشهورين تساءلا عمّا إذا كنا قد بلغنا ركوداً اقتصادياً آخر. ويبدو أن أوجاع الصين الاقتصادية أوجاع عالمية أيضاً، مثلما هي محلية.