جاء خطاب حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله الأخير الذي حمل تهديدات لحزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، تعبيراً عن انتقال لبنان إلى مرحلة جديدة بات التهديد فيها بالحرب الأهلية جزءاً من أدبيات السياسة اللبنانية.
خطاب حسن نصر الله جاء رداً على اشتباكات الطيونة والتي أسفرت عن سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً من مناصري وأعضاء "الثنائي الشيعي"، حركة "أمل" و"حزب الله"، نتيجة احتكاك تظاهرة دعا إليها التنظيمان ضد المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، مع شباب أحياء مسيحية دخلوا إليها، وبينهم مناصرون لحزب "القوات اللبنانية" وأحزاب مسيحية أخرى، فيما ركز الحزب على اتهام القوات اللبنانية بالمسؤولية عن الأحداث.
وحمل الخطاب أسلوبين متناقضين، الأول حاد وتهديدي تجاه حزب القوات اللبنانية، والآخر فيه محاولة للاستمالة للمسيحيين اللبنانيين وبالتحديد الموارنة ولكنها يمكن أن تفهم أنها معايرة أيضاً بحماية حزب الله لهم في بعض الأوقات.
وكان أكثر ما لفت الانتباه في خطاب حسن نصر الله تهديده لحزب القوات اللبنانية الذي يترأسه أمير الحرب السابق سمير جعجع بـ100 ألف مقاتل مدربين ومسلحين، محذراً من أي تفكير بخوض حرب أهلية مع الحزب، قائلاً بنبرة حادة: "تأدبوا… وكونوا عاقلين".
الشبيهان: حزب الله والقوات اللبنانية
ويشير حديث نصر الله إلى امتلاك حزب الله لمئة ألف مقاتل ضمن هيكله التنظيمي إلى أن لديه قوات أخرى قد يقصد بها مؤيديه وأنصاره من الشيعة، إضافة لحليفه الرئيسي حركة أمل بطبيعة الحال.
وقد يكون هذا الكلام رداً على ما نشرته جريدة الأخبار اللبنانية الموالية لحزب الله من مزاعم بأن جعجع قال للزعيم الدرزي وليد جنبلاط إنه سيمضي في المواجهة ضد حزب الله حتى النهاية، مضيفاً: "لدي 15 ألف مقاتل، ونحن قادرون على مواجهة الحزب الذي بات يعاني من ضعف كبير، نتيجة الأوضاع في لبنان وفي الإقليم"، وهو التصريح الذي نفاه حزب القوات اللبنانية، فيما لم يؤكده أو ينفيه جنبلاط.
وبصرف النظر عن صحة الكلام عن تسلح القوات اللبنانية من عدمه، فإن حزب الله الذي يتهمه أغلب اللبنانيين بالاستقواء بالسلاح، والتسبب في عزل بلادهم، يحاول تقديم حزب القوات اللبنانية دوماً بأنه عدوه، وقد رفض حزب الله تلميحات للتهدئة من قبل القوات، ثم انتقل إلى اتهام القوات بأنها تتسلح في مواجهة الحزب، علماً بأن حلفاء الحزب الآخرين أيضاً يتسلحون.
وجزء من استهداف حزب الله للقوات اللبنانية ليس نابعاً فقط من انتقاد القوات الدائم لنظام الأسد وإيران وحزب الله، ولا تحالف القوات مع السعودية الذي ازداد قوة في السنوات الأخيرة، ولكن جزءاً منه أيضاً نابع من سمعة القوات السيئة خلال الحرب الأهلية؛ حيث ارتكب عدداً من أسوأ المذابح بعضها ضد المسيحيين مثل مذبحة أهدن التي استهدفت طوني فرنجية والد حليف حزب الله المسيحي سليمان فرنجية.
كما أن القوات يعد من أكثر الأحزاب المسيحية المتهمة بالارتباط مع إسرائيل خلال فترة الحرب الأهلية.
فسمعة حزب القوات القديمة تجعله عدواً مثالياً لحزب الله.
وينظر كثير من المراقبين للقوات على أنه النظير المسيحي لحزب الله وهو أمر يظهر حتى من اسم الحزب الذي بدأ كجناح مسلح للقوى المسيحية بقيادة حزب الكتائب اللبنانية سرعان ما تحول إلى تنظيم عسكري وحزب سياسي مع تراجع قوة الكتائب.
خطاب حسن نصر الله تهديد للقوات، واستمالة للمسيحيين
وكان نصر الله في خطابه حريصاً على التمييز بين القوات اللبنانية والمسيحيين، متهماً القوات بتوريط المسيحيين في حرب أهلية وأنها تشكل خطراً عليهم، كما حاول استغلال مخاوف مسيحيي لبنان من داعش وبالأخص مسيحيي البقاع، بالحديث عن أن القوات اللبنانية ساعدت تنظيم داعش خلال فترة وجود التنظيم في جبال لبنان الشرقية على الحدود مع سوريا، وهو ما لا يوجد عليه أي دليل.
وأبرز نصر الله دور حزبه في التصدي لداعش خلال تلك الفترة، قائلاً إنه وفر حماية لمسيحيي لبنان من داعش، وكذلك مسيحيي سوريا، بل أشار إلى عدم مساس الحزب بأي مسيحي بعد تحرير الجنوب اللبناني رغم أن جيش لبنان الجنوبي العميل لإسرائيل كان يضم العديد من المسيحيين، كما أشار نصر الله إلى أن حزبه قبل بقوانين وتحالفات انتخابية أدت إلى زيادة الوزن النسبي للمسيحيين في البرلمان اللبناني.
ومن الواضح أن هناك لغة استمالة واضحة لمسيحيي لبنان، وهو امتداد لخطاب بشار الأسد والعماد ميشال عون وسليمان فرنجية القائم على محاولة الترويج لحلف الأقليات في الشام والعراق، والذي يضم الشيعة والعلويين والمسيحيين في مواجهة السنة، عبر تخويف المسيحيين تحديداً من خطر التطرف السني.
وبالطبع يتناسى هذا الخطاب عمداً، أن أكبر اضطهاد تعرض له المسيحيون في تاريخ لبنان كان على يد نظام الأسد الذي اقتحم مدنهم مستخدماً آلته العسكرية بوحشية هائلة خلال الحرب الأهلية مثلما حدث في مدينة زحلة التي يسميها المسيحيون عاصمة الكثلكة.
كما أن التطرف السني في الشام مثل داعش والنصرة وغيرهما، هو نتيجة مباشرة لمجازر الأسد، الذي عرف عنه دوماً التلاعب بالحركات المتطرفة واستخدامها في العراق ولبنان، وأخيراً في سوريا نفسها؛ حيث كانت محطات الكهرباء في مناطق داعش تمد مناطق نظام الأسد بالطاقة، قبل أن يستغل النظام داعش للترويج لنفسه أنه يحارب الإرهاب.
لماذا قد تؤدي محاولة تقرب نصر الله للمسيحيين إلى استفزازهم؟
أيضاً محاولة إظهار حزب الله على أنه يحمي المسيحيين قد تأتي بنتيجة عكسية مع مسيحيي لبنان وبالأخص الموارنة.
فعلى عكس معظم المسيحيين في العالم العربي الذين يشكون أقليات ريفية ومدينية مسالمة تعتمد على حسن علاقتها بمحيطها المسلم وبالأنظمة المتعاقبة، فإن الموارنة تركيبتهم الاجتماعية مختلفة تماماً.
يعتز الموارنة باستقلالهم وهم شعب جبلي صلب تحصنوا في جبال لبنان منذ قرون طويلة، ولديهم تركيبة اجتماعية ذات طابع عسكري قبلي أقرب للقبائل العربية، وقد تكون جذورها تعود للأصل العربي للموارنة قبل الإسلام الذي تحدث عنه المفكر اللبناني المسيحي كمال صليبا في كتابه الشهير "بيت بمنازل كثيرة".
فالموارنة يرون في أنفسهم طائفة تعتمد في استقلالها على قوتهم وعلاقتهم بالغرب، وليس حماية من طائفة منافسة أو حتى حكومة، وهذه اللعبة التي يلعب عليها سمير جعجع بشكل غير مباشر، وهي أن المسيحيين لا يعتمدون في أمنهم على رضا الشيعة عنهم أو علاقتهم بها كما يفعل العماد ميشال عون، وصهره جبران باسيل.
وأحداث الطيونة تؤكد رواية القوات اللبنانية بعد أن أصبح ينظر للقوات أنها تصدت لتوغل حزب الله وأمل بمناطق المسيحيين، بينما سبق لأنصار حركة أمل أن أحرقوا مقراً للتيار العوني في منطقة ماري إلياس دون رد فعل من العونيين.
لماذا بات المسيحيون أقل تقبلاً للحزب؟
يتنافس جعجع والعونيون في الوسط المسيحي، الأول حليف للسعودية وإلى حد ما تيار المستقبل ومعاد للأسد، والثاني حليف لحزب الله وللأسد.
كلاهما يحاول استغلال مخاوف المسيحيين، ففي ذروة صعود داعش، كان العونيون يخوفون المسيحيين من داعش، وما يعتبرونه تطرفاً سنياً ويحاولون ربط تيار المستقبل وجعجع بهذا التطرف، حتى إنهم قالوا إن جعجع ليحكم الإخوان.
بينما جعجع يركز على ذكريات المسيحيين بمن فيهم أنصار عون المريرة مع نظام الأسد، وكذلك النفور المسيحي من الوسط الشيعي الذي يبدو أكثر محافظة من سنة لبنان، كما أن حزب الله بطابعه الديني بطبيعة الحال، لا يلائم الذائقة المسيحية.
واليوم بعد اختفاء الجماعات المتطرفة السنية من المناطق اللبنانية المتاخمة لسوريا، فإن مخاوف المسيحيين من التطرف السني قد تراجعت، بينما يشعرون بوطأة سيطرة حزب الله على البلاد والتي يرى الكثيرون أنها سبب لأزمته، كما أن الموقف الحاد للحزب من القاضي طارق بيطار، الذي يحقق في قضية انفجار مرفأ بيروت يبدو مستفزاً للمسيحيين الذين يعتبرون أن الانفجار قد استهدفهم بالأساس، إذ إن المناطق الشيعية كانت بعيدة نسبياً عن الانفجار.
وبالتالي، فإن الجو العام المسيحي بات أكثر تحفزاً ضد حزب الله، وهو ما يظهر في تراجع مواقف التيار العوني المؤيدة لحزب الله، إذ يشعر عون وباسيل بأنهما يخسران شعبياً في الوسط المسيحي من التحالف مع حزب الله، والأكثر أنهم يخسرون دولياً جراء هذا التحالف.
ولكن هذا التحالف الذي أوصل عون للرئاسة، ومكن قوى 8 آذار من الفوز بالأغلبية، ووفر الغطاء السياسي لسيطرة حزب الله على المفاصل الأمنية للبلاد.
هل ينتهي تحالف حزب الله مع عون؟
تظهر محاولة نصر الله الأخيرة استمالة المسيحيين أهمية هذا التحالف لحزب الله.
فبدون عون ستصبح قوى 8 آذار مجرد تجمع شيعي مع بعض القوى المسيحية والسنية الضعيفة، قد يكون أقواها الزعيم المسيحي سليمان فرنجية الذي تتركز قوته في قضاء أهدن فقط.
لا يعني ما حدث أن عون سيفض تحالفه مع حزب الله بالضرورة، ولكنه على الأقل يحاول أن ينأى بنفسه عن الحزب الذي أوصله للحكم، ولكنه لا يستطيع التخلي عنه تماماً، لأنه أولاً يحتاج له لضمان عملية تمديد لعون أو توريث الرئاسة لصهره باسيل، خاصة أن انهيار المصالحة العونية مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية قد يجعل من الصعب على عون الاعتماد عليهما في أي تحالفات سياسية مستقبلية.
كما أن عون يعلم أن حزب الله بسيطرته الأمنية الواسعة على البلاد، قد يمنع أصلاً وصول أي رئيس لا يؤيده ويدعم بقاء سلاحه.
نحن أمام تضعضع للتحالف بين حزب الله وعون، أكثر منه انهياراً، وهو أمر قد يكون مفيداً للطرفين، فعلاقة عون الوثيقة مع حزب الله تحرجه دولياً وإلى حد ما مسيحياً، كما أن علاقة الحزب بعون كانت تثير غضب حركة أمل التي لديها خلافاتها الخاصة مع التيار الوطني خاصة زعيمه جبران باسيل؛ حتى إنها كانت الكتلة الرئيسية التي لم تنتخب عون للرئاسة.
أما بالنسبة لسليمان فرنجية، فلا يتوقع أن يتأثر كثيراً تحالفه مع حزب الله بالغضب المسيحي من الأخير، فآل فرنجية حافظوا على تحالفهم مع نظام الأسد في ذروة مجازره ضد المسيحيين في لبنان خلال الحرب الأهلية، وهم يفصلون تماماً بين ما يعتبرونه عراقتهم المسيحية وبين علاقتهم بنظام الأسد وحزب الله.
هل تندلع معركة بين حزب الله والقوات اللبنانية؟
كان لافتاً عدم سعي حزب الله للرد ميدانياً حتى الآن على ما حدث في منطقة الطيونة رغم مساسها بهيبته؛ خاصة أنه سبقها حادث مماثل وإن كان أقل حجماً في منطقة خالدة حيث أطلقت قبائل عربية سنية النار على منتسبين للحزب.
وقد يرجع بذلك إلى حرص حزب الله الكبير على العلاقة مع المسيحيين باعتبار أن أكبر حلفائه وزناً في البرلمان هو كتلة الرئيس عون.
ولكن هناك عوامل أخرى، قد تجعل احتمال اشتعال الحرب الأهلية ضعيفاً على الأقل على المديين القصير والمتوسط، أهمها أن الجيل الحالي من القادة اللبنانيين هو الذي خاض الحرب الأهلية التي وقعت بين 1975 و1990، وهو يعلم أكثر من غيره ويلاتها.
كما أن الجيش اللبناني أكثر تماسكاً وقدرة على معالجة الخلافات مما كان عليه الأمر قديماً، حيث كان يُخشى قبل الحرب الأهلية من تدخله خوفاً من انقسامه، وهو ما حدث بالفعل.
الأمر الثالث أن فارق القوة بين حزب الله بعيداً عن استعراضات نصر الله وبين القوى الأخرى يجعله يفكر مرتين قبل خوض حرب أهلية.
وفي الوقت ذاته فإن هناك أسباباً تدفع حزب الله تحديداً للتفكير مراراً قبل الإقدام على خوض حرب أهلية مع المسيحيين.
فبالإضافة إلى حاجته لمراعاة حلفائه المسيحيين، فإن طبيعة مناطق المسيحيين الجبلية الوعرة، المكتظة بالسكان والمكدسة بالسلاح، تمثل تحدياً حقيقياً حتى لقوة مدربة عسكرياً كحزب الله.
والأهم حساسية المسيحيين الشديدة لفكرة أي اختراق مسلم لمناطقهم والتي قد تجعل كل المسيحيين ينتفضون ضد الحزب لو تدخل في مناطقهم.
ماذا سيحدث إذاً؟
أحداث الطيونة، قد لا تعني بداية حرب أهلية في لبنان، ولكنها قد تعني بداية ترسيخ، الكانتونات المسلحة والمتجاورة والتي كانت موجودة أصلاً في لبنان، وتعني أن حزب القوات اللبنانية قد يعمد لتعزيز ما يقال عن جناحه المسلح، وتعزيز سيطرته على الشارع المسيحي، وأن يقدم نفسه كندٍّ لحزب الله.
كما ستوفر أحداث الطيونة وما ترتب عليها- بما في ذلك خطاب حسن نصر الله التهديد- ذريعة مماثلة للأحزاب الأخرى، ومنها بطبيعة الحال حزب الله وأمل.
وفي النهاية هذا يعني إضعافاً للأنشطة السياسية العابرة للطائفية، التي تعارض الزعامات الطائفية التي تحكم لبنان، وبالتالي فإن أبرز نتائج أحداث الطيونة أنها ستقلل فرص ظهور معارضة سياسية لا طائفية مع اقتراب الانتخابات النيابية.
ولهذا لم يكن غريباً أنه في اليوم التالي لخطاب حسن نصر الله صوت البرلمان اللبناني على تبكير الانتخابات اللبنانية، ويبدو أن حزب الله والقوات اللبنانية قد صوتا بتأييد القرار، فيما عارضه التيار الوطني بقيادة باسيل، كما اتصل القيادي في حزب القوات اللبنانية كمال عدوان برئيس مجلس النواب اللبناني زعيم حركة أمل نبيه بري للتهدئة بين الطرفين.
فأحداث الطيونة هي بمثابة حقنة مقوية للنظام الطائفي اللبناني، أكثر منها نقطة مفصلية في تاريخه، ولكن المشكلة أن الرهان على أن تظل البلاد في حال التلويح بالحرب الأهلية دون وقوع فيها، هو لعب بنار قد تخرج عن سيطرة الجميع.