يتراجع النفوذ الفرنسي في كثير من مناطق العالم، ولكن هذا التراجع يبدو جلياً في اثنتين من أهم المناطق لباريس المغرب العربي، ومنطقة الساحل الإفريقي.
حين دخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السباق الرئاسي الفرنسي قبل 5 سنوات، صوَّر نفسه باعتباره مرشح التغيير. وبدا أنَّ المرشح المستقل الذي لا يتقيَّد بالسياسات الحزبية التقليدية ينظر إلى التاريخ الاستعماري لفرنسا من منظور جديد، وأنَّه يُفضِّل الحلول الإبداعية. كان صوته غير متوقع وحداثياً للغاية، حسبما وصف الكاتب الجزائري عابد شريف في مقال نشره على موقع Middle East Eye البريطاني.
بل نطق المرشح الرئاسي الفرنسي بالعبارات التي لم يكن أي رئيس فرنسي، حتى من اليسار، يجرؤ على التفوه بها قط، واصفاً الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنَّه جريمة ضد الإنسانية.
لكن بعد خمس سنوات، أطلق ماكرون ذاته، وهو في منصبه الحالي في رئاسة فرنسا، تصريحات متعالية لا تُصدَّق تُشكِّك في هُوية الجزائر كأمة قبل الاستعمار. وقد أشعلت تصريحاته التي مسَّت موضوعاً صعباً– ماضي الجزائر الاستعماري- غضباً واسع النطاق بين الجزائريين.
ويشير شريف إلى أنَّ رد الفعل الغاضب هو نتيجة للتباين الجوهري في الرأي بشأن موضوع بالغ الحساسية. لأنَّ التشكيك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي هو بمثابة تبرير ضمني للاستعمار نفسه.
سر هذا التراجع الغريب في سياسات ماكرون
يتساءل شريف كيف حدث التراجع المذهل لماكرون؟ وكيف أمكن لرجل كان يحمل سابقاً مثل هذه الرؤى السياسية- الاقتصادية الداخلية والدولية غير التقليدية أن يستخدم خطاباً لا يُشكِّك فقط في فكرة وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار، بل يُلمِّح أيضاً إلى وجود خلاف بين الرئيس عبد المجيد تبون والجيش الجزائري؟ وهل يمكن أن يُعزى ذلك إلى زلة بسيطة، أم أنَّه تدوير جديد للتاريخ يهدف لإعادة صياغة التصور للعلاقات الفرنسية الجزائرية؟ أم أنَّ ماكرون تأثر بالتيارات السياسية الجزائرية والفرنسية الحالية التي ترى أنَّ النظام الجزائري قد أُضعِفَ بشدة عقب "الحراك"؟ هل يمكن أن يكون الأمر مجرد تهاون، أو حتى غطرسة، من جانب الرئيس الفرنسي؟
ويرى الكاتب الجزائري، الذي تولى تحرير أسبوعية "La Nation"، أنَّ الوقت والسِير الذاتية المستقبلية لماكرون وحدها ستجيب عن هذه الأسئلة. لكن هناك أمر واحد مؤكد في رأيه: الاتهامات بأن التصريحات تهدف لتحقيق أغراض انتخابية لا تصمد في وجه النقد. فتصريحات ماكرون المثيرة للجدل ضررها أكثر من نفعها بالنسبة له، إضافة لضررها البالغ على النفوذ الفرنسي في منطقة المغرب العربي.
محاولته منع تراجع نفوذ فرنسا تمنى بالفشل
في غضون ذلك، يبدو، بحسب شريف، أنّ ماكرون الحالي قد ضل طريقه. فالرئيس الفرنسي الوحيد الذي أظهر استعداداً، على الأقل في البداية، للتشكيك في سياسات "فرنسا إفريقيا" الساعية للهيمنة– على الرغم من فشله في القطيعة معها بصورة كاملة- يحاول الآن تنظيف الفوضى الدبلوماسية على أمل الحفاظ على الامتيازات الفرنسية التي من الواضح أنَّه يتعذَّر الحفاظ عليها على المدى الطويل.
لأنَّ فرنسا اليوم قوة اقتصادية وعسكرية أصغر تفتقر إلى الوسائل اللازمة لتشكيل السياسات في إفريقيا.
وهكذا تراجع ماكرون عن سياسته تجاه إفريقيا، في حين سمح لنفسه بأن يعلق في دوامة سياسة "فرنسا إفريقيا" الهابطة، حيث يحاول سد الفجوات في ما يبدو بوضوح أنَّها سفينة آخذة بالغرق.
لأنَّ فرنسا، بحسب شريف، لا يمكنها التنافس مع الصين من الناحية الاقتصادية. فالاستثمارات الصينية في إفريقيا لا تجعل نظيرتها الفرنسية تبدو قزمة وحسب، بل تتجاوز أيضاً كل استثمارات البلدان الغربية مجتمعة. إذ بلغت صادرات فرنسا لإفريقيا عام 2020 نسبة 5.3% من إجمالي صادراتها العالمية في ذلك العام. وهي الآن أقل من صادرات ألمانيا، على الرغم من أنَّ إفريقيا ليست أولوية لألمانيا.
وتمثل الصادرات الفرنسية لإفريقيا ربع الصادرات الصينية لإفريقيا فقط، على الرغم من الوصول الصيني الحديث نسبياً إلى القارة.
أوروبا تتلكأ وأمريكا تطعن باريس في ظهرها
بلغت فرنسا من الناحية العسكرية أقصى حدود تدخلها في منطقة الساحل، في ظل إخفاق عمليتيّ "سرفال" و"برخان" في القضاء على المجموعات الإسلامية المسلحة المنتشرة في المنطقة.
ويشير شريف إلى أنَّ فرنسا كانت تأمل تشكيل تحالف من البلدان الإفريقية والأوروبية، لكنَّ هذه الأولى افتقرت إلى الأدوات المطلوبة لمثل هذا الالتزام، في حين كانت الأخيرة غير مستعدة للتدخل فيما كانت تخشى أن تكون حرباً لا يمكن إدارتها ولا يمكن الانتصار فيها.
ويرى شريف أنَّ الضربة الأسوأ لفرنسا جاءت في وقت مبكر هذا الخريف، عقب إعلان الولايات المتحدة تشكيل تحالف أمني في المحيط الهادئ دون فرنسا.
وقد أشعلت الولايات المتحدة، بتوقيعها اتفاق التحالف أولاً مع بريطانيا وأستراليا ثم الهند وبلدان أخرى في أرجاء جنوب شرقي آسيا، أزمة مع فرنسا من خلال إبطالها صفقة غواصات لمجموعة French Naval Group البحرية الفرنسية مع أستراليا بقيمة 57 مليار دولار.
لقد انتُزِع السوق من فرنسا لصالح الشركات الأمريكية، وكان الشعور بنبذ فرنسا بالغاً.
نكسة مالي الكبرى
ولكن فرنسا التي تجاهلها حلفاؤها الغربيون السابقون اعتقدت أنَّ بإمكانها فرض حضورها على الساحة الدولية من خلال فرض قيادتها في مناطق معينة مزقتها الصراعات.
غير أن المجلس العسكري المؤقت في مالي، الذي تفيد تقارير بتمتعه بعلاقات وثيقة مع روسيا، أشاح على نحوٍ مفاجئ بوجهه عن باريس. وبعدما قررت فرنسا بصورة أحادية تقليص وجودها في المنطقة، اتهم رئيس الوزراء الانتقالي، شوغيل كوكالا مايغا، فرنسا بـ"التخلي عن مالي".
وقد وصفت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، تصريحات رئيس الوزراء المالي بأنَّها "غير لائقة" و"غير مقبولة".
روسيا مستعدة للحلول مكان فرنسا
لكنَّ فرنسا المقتنعة بأنَّها لا تزال تملك اليد العليا، تنتهج استراتيجية تجاه مالي تستند إلى الافتراض بأنَّ بقاء المجلس العسكري الحاكم الحالي مرتبط بوجود الجيش الفرنسي، وتتجاهل حقيقتين بالغتيّ الأهمية.
أولاً، في حين احتوى الوجود الفرنسي انتشار المجموعات المتطرفة المسلحة، فإنَّه فشل في حل أزمة مالي. وثانياً، أنَّ هناك خيارات أخرى متاحة.
ففي حال انسحاب القوات الفرنسية، فإنَّ روسيا مستعدة للتدخل. وتفيد التقارير بأنَّ النقاشات جارية بين مالي ومنظمة المرتزقة الروسية المثيرة للجدل، مجموعة فاغنر، الأمر الذي يشكل تهديداً كبيرا على النفوذ الفرنسي في المنطقة.
وتأمل روسيا، التي تملك بالفعل موطئ قدم في ليبيا، أن تمد نفوذها في منطقة الساحل. كانت الولايات المتحدة تاريخياً تُقدِّم الدعم اللوجستي للعمليات العسكرية الفرنسية في المنطقة، على الرغم من عدم وجود قوات أمريكية على الأرض.
لكن في ظل تخلي الولايات المتحدة عن مسارح ذات دلالة في أفغانستان والعراق ورفضها التدخل المباشر في اليمن، تُركِّز جهودها بالكامل على ضمان التفوق الاستراتيجي الأمريكي في منطقة المحيط الهادي.
وبالتالي فإنَّ منطقة الساحل التي جرى التخلي عنها مُتاحة لمن ينتزعها، وروسيا، الحليفة طويلة الأمد للجزائر، مستعدة للتدخل.
وفي رأي شريف، لا يوجد شيء يمكن لقادة فرنسا المحبطين فعله حيال ذلك. فلا هم يمكنهم التنافس مع الصين على المستوى الاقتصادي، ولا مع روسيا على المستوى العسكري.
المشكلة أن قادة فرنسا أساءوا فهم طبيعة الوضع في الجزائر ومالي
الأسوأ من ذلك أنَّ قادة فرنسا فشلوا في فهم الطبيعة المتغيرة لهياكل القوة في الجزائر ومالي، اللتين يملك نظاماهما الحاكمان روابط تاريخية واقتصادية أقل مع فرنسا.
ومن ثم، حين أعلن ماكرون قرار الحكومة الفرنسية تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للقادة الجزائريين بصورة كبيرة، فإنَّه كان يتخذ القرار الخطأ: الأشخاص الذين تستهدفهم السياسة الجديدة لم يعودوا على رأس عملية اتخاذ القرار.
وفي النهاية، يرى شريف أنَّ وضع النفوذ الفرنسي في شمال وغرب إفريقيا سيتغير بصورة جذرية.
ففرنسا لم يعد بمقدورها تولي السيطرة، والولايات المتحدة لديها أولويات أخرى. وستحل الصين وروسيا– الأولى اقتصادياً والثانية عسكرياً- لا محالة محل الشبكات والمصالح السابقة، في حين تدخل تركيا هي الأخرى المضمار.
بعد الغطرسة الفرنسية.. هل تتحالف الجزائر مع الصين وروسيا؟
يقول شريف إنَّه في السياق الحالي سريع التغير والمحفوف بالمخاطر، تملك الجزائر يداً حديدية، حسب تعبيره، وهي تهدف لفرض نفسها شريكاً استراتيجياً وليس مجرد مقاول فرعي بالباطن.
فعلاقات البلاد الاقتصادية القوية بالفعل مع الصين واتفاقاتها العسكرية مع روسيا تجعلها مستعدة لأن تصبح جزءاً مركزياً إن لم يكن محورياً في التكتل الإقليمي الناشئ.
تجاهل ماكرون التفكير في العلاقات الفرنسية الجزائرية من هذه الزاوية، واكتفى بدلاً من ذلك باتباع السياسة الخارجية الفرنسية التقليدية، التي يجري فيها النظر إلى البلدان الإفريقية باعتبارهم حلفاء طبيعيين، إن لم يكونوا توابع. أمَّا أن يستدعي بلد إفريقي سفيره من باريس ويغلق مجاله الجوي في وجه الطائرات العسكرية الفرنسية والتفكير في اتخاذ خطوات أخرى أكثر جوهرية، فلم يكن أمراً مُتصوراً تقريباً.
كانت السياسة الخارجية الفرنسية تاريخياً تعتبر البلدان الإفريقية مجرد حراس يحرسون النفوذ الفرنسي ومصالح باريس، وهو ما تصادف أنَّه يصب في صالح هذه البلدان. كان ذلك ينطبق على عدد من البلدان، وقد يوافق البعض اليوم على الاضطلاع بالدور المساند المتمثل في التابع أو المقاول بالباطن.
لكن حتى صوت ماكرون الحديث لم يتمكَّن من زعزعة العادة القديمة لسياسة "فرنسا إفريقيا". ومن هنا يأتي التوبيخ اللاذع من البلدان التي تتطلَّع إلى صفقة جديدة أكثر عدالة بعيداً عن شكل النفوذ الفرنسي التقليدي.
حتى مالي، وعلى الرغم من عدم الاستقرار الشديد فيها، تُغيِّر مسارها. فلماذا قد تختار واحدة من أفقر دول العالم، دون أي آفاق جادة بادية، البقاء ضمن نطاق النفوذ الفرنسي الخانق؟ ففي النهاية، لم تحقق سياسات "فرنسا" شيئاً بعد 50 عاماً من الاستقلال.
في غضون ذلك، يرى شريف أنَّ الجزائر، التي من المرجح أن يفوق عدد سكانها عدد سكان إيطاليا وإسبانيا بحلول منتصف القرن، بلا شك ستكون قوة يُحسَب حسابها على طاولة المفاوضات المستقبلية، على الرغم من الإخفاقات المؤسسية والاقتصادية التي تؤخرها في الوقت الحالي.