من مياه الشرب إلى القهوة، ومن الأدوية إلى لعب الأطفال، ومن الشرائح الإلكترونية إلى ورق الحمام.. يواجه العالم نقصاً في السلع بأنواعها والمتهم الأبرز كورونا، لكنْ للقصة أسباب أكثر تعقيداً.
وقبل الدخول إلى تفاصيل هذا النقص العالمي في السلع بوجه عام، والذي يعاني منه الأفراد والشركات، من المهم القول إن حدوث ندرة في سلعة ما في إحدى الدول في بعض الأحيان أمر طبيعي يحدث لأسباب إما طبيعية كزلزال أو بركان أو جفاف أو فيضانات، وإما من صُنع البشر كحرب أو أزمة داخلية.
لكن ما يواجهه العالم حالياً أزمة مختلفة وربما تكون غير مسبوقة، من حيث حجمها وتأثيرها، إذ تعاني أغلب دول العالم من نقص في سلعة أو سلع في وقت واحد، والأسباب تبدو مرتبطة بجائحة كورونا بشكل عام، لكن الفيروس القاتل ليس المتهم الوحيد.
الأزمة الأكبر في الصين
عندما تفشى فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية أواخر عام 2019، لم يستمر الإغلاق لمواجهة الوباء طويلاً، إذ أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ الانتصار على الوباء من نفس المدينة يوم 10 مارس/آذار 2020، لكن في اليوم التالي مباشرة، أعلنت منظمة الصحة العالمية تحول الفيروس القاتل إلى جائحة عالمية، لا تزال مستمرة حتى اليوم.
ونظراً لكون الصين "مصنع العالم"، كانت تلك بداية مشاكل نقص السلع، لكنها لم تستمر طويلاً، إذ سرعان ما توقف النشاط الاقتصادي والبشري بشكل عام حول العالم بفعل انتشار الجائحة، مما أدى إلى تراجع الطلب على السلع. لكن مع عودة النشاط الاقتصادي في الصين ودوران المصانع بطاقتها القصوى، بدأت تظهر أزمة الطاقة، التي عرقلت ذلك الدوران أو أبطأت حركتها.
ورصد تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC "العاصفة العاتية" التي ضربت المتسوقين والشركات في الصين مؤخراً، سواء في الداخل أو في الخارج. وعن ذلك تقول الدكتورة ميشال ميدان من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، إن تلك العاصفة تؤثر على كل شيء، من الورق والغذاء والمنسوجات ولعب الأطفال إلى شرائح الهواتف الذكية، مضيفة أنها "قد تؤدي في نهاية المطاف إلى نقص حاد في المواد في فترة أعياد الميلاد هذا العام".
وتنبع المشكلة في الصين بشكل رئيسي من أزمة الكهرباء، حيث شهدت أكثر من 20 مقاطعة انقطاع التيار الكهربائي. ويأتي أكثر من نصف كهرباء البلاد من الفحم، الذي ارتفع سعره في جميع أنحاء العالم، وحيث إنه لا يمكن وضع عبء هذه التكاليف على المستهلكين الصينيين بسبب سقف سعر صارم تفرضه السلطات، تعمل شركات الطاقة على تقليل الإنتاج.
وقد تأثر إنتاج الفحم بفحوصات السلامة الجديدة في المناجم، والقواعد البيئية الأكثر صرامة والفيضانات الأخيرة، كما تقول الدكتورة ميدان. وهذا يعني أنه على الرغم من زيادة الطلب على السلع الصينية، فقد طُلب من المصانع تقليل استخدام الطاقة أو الإغلاق في بعض الأيام.
أمريكا تعاني نقصاً في "الألعاب وورق المرحاض"
ومن الصين إلى الولايات المتحدة، حيث حذر مسؤول في البيت الأبيض من أنه "ستكون هناك أشياء لا يستطيع الناس الحصول عليها"، خلال فترة عيد الميلاد. ومن المتوقع أن تتأثر مخزونات الألعاب، وكذلك المواد الغذائية الأساسية مثل ورق المرحاض والمياه المعبأة في زجاجات والملابس الجديدة وأغذية الحيوانات الأليفة.
وجزء من المشكلة هو المأزق الحاصل في الموانئ الأمريكية، إذ إن أربع حاويات شحن من أصل 10 تدخل الولايات المتحدة عبر ميناءين فقط، في لوس أنجلوس ولونغ بيتش في ولاية كاليفورنيا.
وفي يوم واحد من شهر سبتمبر/أيلول، أُجبرت نحو 73 سفينة على الوقوف في طوابير خارج ميناء لوس أنجلوس، علماً أنه قبل وباء كورونا لم يكن من المعتاد أن تنتظر أكثر من سفينة نقل واحدة فقط. وتحول كلا المنفذين الآن إلى العمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، للمساعدة في تخفيف الضغوط.
وفي بعض الحالات، كان النقص ناتجاً أيضاً عن المشكلات المستمرة المتعلقة بتفشي كورونا والإجراءات المرتبطة به في بلدان أخرى. على سبيل المثال، تصنع شركة الملابس الرياضية الأمريكية العملاقة (نايك) Nike، العديد من منتجاتها في دول جنوب شرق آسيا مثل فيتنام، حيث أُغلقت العديد من المصانع.
وقال البروفيسور ويلي شيه من كلية هارفارد للأعمال، لـ"بي بي سي" إنه حتى عندما يتم إنتاج البضائع، فإن توصيلها إلى تجار التجزئة بات أمراً أكثر صعوبة من ذي قبل. ورغم أن هناك زيادة في الإنفاق من قِبَل المستهلكين الأمريكيين، فإن الاضطراب في المصانع والموانئ وشبكات الطرق والسكك الحديدية "المثقلة بالأعباء" خلق أزمة خانقة، كما يقول.
صناعة السيارات تواجه نقص الشرائح الإلكترونية
وبالعودة إلى آسيا، نجد أن أكبر شركة لتصنيع السيارات في الهند، ماروتي سوزوكي، شهدت انخفاضاً حاداً في الإنتاج، ويرجع ذلك جزئياً إلى النقص العالمي في شرائح الكمبيوتر. وتشغل هذه الشرائح ميزات مثل إمدادات المحرك والفرملة في حالات الطوارئ. والسبب الأساسي وراء هذا النقص هو الاضطرابات المرتبطة بالوباء في بلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
وكان الطلب العالمي على الشرائح، التي تُستخدم أيضاً في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، يرتفع قبل الوباء، بسبب اعتماد تقنية الجيل الخامس (5G). وأدى التحول إلى العمل من المنزل إلى ارتفاع إضافي في الطلب، حيث بات الناس بحاجة إلى أجهزة كمبيوتر محمولة أو كاميرات ويب للعمل.
وقد تفاقم النقص في المكونات القادمة إلى الهند بسبب اضطراب الطاقة في البلاد، إذ إن مخزونات الفحم أخذت تنخفض بشكل خطير. وانتعش الاقتصاد بعد الموجة الثانية القاتلة من فيروس كورونا في الهند، مما أدى إلى زيادة الطلب على الطاقة، لكن أسعار الفحم العالمية ارتفعت بينما انخفضت واردات الهند.
وقالت زهرة تشاترجي، الرئيسة السابقة لشركة Coal India Limited، إن التأثير كان واسع النطاق: "تأثر قطاع التصنيع بأكمله، الأسمنت والصلب والبناء، إذ إن كل شيء يتأثر بمجرد حدوث نقص في الفحم". ويقول الخبراء إن العائلات في الهند ستتضرر أيضاً مع ارتفاع أسعار الكهرباء، كما أن التضخم يعني أن أسعار الضروريات مثل الغذاء والنفط قد ارتفعت بالفعل.
نقص الأدوية في لبنان وأزمة القهوة في البرازيل
وعلى الرغم من أزمة لبنان سابقة بالأساس على جائحة كورونا ولها أسبابها المرتبطة بالداخل اللبناني والفساد الناجم عن النظام الطائفي الذي يحكم البلاد، إلا أن نقص مياه الشرب والأدوية والوقود قد تفاقم جراء الأزمة العالمية أيضاً.
فعلى مدى الأشهر الـ١٨ الماضية، عانى البلد من أزمة اقتصادية دفعت بنحو ثلاثة أرباع سكانه إلى الفقر والعوز، وأدت إلى انهيار عملته وكانت السبب في اندلاع مظاهرات كبيرة ضد الحكومة والنظام السياسي في لبنان.
وكان اقتصاد البلاد يعاني أصلاً من مشاكل قبل تفشي الوباء، لكن الجائحة جعلت الأوضاع أسوأ بكثير. وأدى نقص الوقود إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر، ما جعل الشركات والعائلات تعتمد على مولدات الكهرباء الخاصة باهظة الثمن، والتي تعمل بالديزل، هذا بالطبع في حال كانت العائلة قادرة أصلاً على تحمل تكاليف هذه المولدات.
وفي أغسطس/آب الماضي، قالت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في لبنان نجاة رشدي، إنها "قلقة للغاية بشأن تأثير أزمة الوقود على تأمين خدمات الرعاية الصحية وإمدادات المياه لملايين الأشخاص في لبنان".
أما البرازيل، فالجفاف الذي حاق بالبلاد جراء التغير المناخي، والذي يعتبر الأكثر حدة منذ ما يقرب من قرن، يعتبر مسؤولاً بشكل جزئي عما حلَّ بمحصول البن الذي جاء مخيباً للآمال هذا العام. وقد ساهم الجفاف إلى جانب الصقيع والدورة الطبيعية للحصاد، في انخفاض كبير في إنتاج البن.
كما تفاقمت التحديات التي تواجه منتجي البن بسبب ارتفاع تكاليف الشحن ونقص الحاويات. وحتماً ستنعكس تكاليف البن المرتفعة تلك على المقاهي في جميع أنحاء العالم، حيث إن البرازيل هي أكبر منتج ومصدر للبن.
ونظراً لأن معظم كهرباء البرازيل تأتي من الطاقة الكهرومائية التي تستخدم الخزانات، فإن نقص المياه له تأثير مباشر على إمدادات الطاقة في البلاد.
ومع ارتفاع أسعار الطاقة تطلب السلطات من الناس الحد من استخدامهم للكهرباء لتجنب التقنين. وقال وزير الطاقة إن الوكالات الحكومية طُلب منها خفض استهلاكها للكهرباء بنسبة 20%، بحسب صحيفة واشنطن بوست.
وفي إفريقيا، تعاني نيجيريا من نقص في الغاز الطبيعي المسال، والذي يستخدم بشكل رئيسي في الطهي، على الرغم من امتلاك الدولة أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي في إفريقيا.
وقد ارتفع سعر الغاز الطبيعي المسال بنسبة 60% تقريباً بين أبريل/نيسان ويوليو/تموز، مما جعله بعيداً عن متناول العديد من النيجيريين. ونتيجة لذلك، تحولت المنازل والشركات إلى استخدام الفحم الأكثر تلوثاً، أو الحطب للطهي. ويبدو أن أحد أسباب ارتفاع الأسعار هو النقص العالمي في العرض، إذ لا تزال الدولة تعتمد على الغاز الطبيعي المسال المستورد.
كما أنه من المحتمل أن يكون الوضع قد تفاقم بسبب انخفاض قيمة العملة، وإعادة فرض الضرائب على الغاز الطبيعي المسال. ويحذر الخبراء من أن النقص قد تكون له آثار صحية وبيئية مثيرة للقلق، حيث يلجأ الناس إلى بدائل وقود أرخص ولكنها أكثر خطورة.
الأزمة إذن عالمية وأسبابها متداخلة بشكل مُعقَّد، ويبدو أن التقارير التي تحدثت خلال الأشهر الماضية عن مدى عمق تداعيات جائحة كورونا ليست فقط دقيقة، بل ربما تكون متفائلة. ففي مجال الشحن البحري على سبيل المثال، رصدت دراسة توقعات بأزمة كبيرة في طواقم سفن الشحن خلال السنوات القليلة المقبلة، لكن الأزمة أطلت برأسها بالفعل، إضافة إلى أزمة النقص في سائقي الشاحنات.