قرر فيسبوك توظيف 10 آلاف شخص من الاتحاد الأوروبي لتطوير تقنية الواقع الافتراضي، فما قصة "الميتافيرس" الذي يصفها البعض بأنها مستقبل الإنترنت؟ وهل يسعى زوكربيرغ للسيطرة عليها مبكراً؟
وقبل الدخول إلى تفاصيل قصة الميتافيرس Metaverse أو "العالم الافتراضي" من حيث معناها وتأثيرها على حياة البشر، نتوقف قليلاً عند علاقة فيسبوك بتلك التقنية التي يصفها الخبراء بأنها النقلة الكبرى القادمة في عالم الإنترنت بشكل عام.
فقد أعلن مؤخراً عملاق شركات التواصل الاجتماعي، الذي يواجه عاصفة من المشكلات نتجت عن تسريب موظفة سابقة عشرات الآلاف من المستندات الداخلية مثلت سلاحاً هو الأخطر بين أيدي الساعين إلى تفكيك الإمبراطورية التي أسسها مارك زوكربيرغ، عن استثمارات ضخمة في تقنية الميتافيرس، مما أثار تساؤلات حول نية زوكربيرغ في احتكارها والسيطرة عليها.
ويواجه فيسبوك حالياً دعاوى قضائية وتحقيقات نحو تعديلات تشريعية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضاً تهدف إلى وضع العملاق الأزرق تحت طائلة قوانين الاحتكار، لإجباره على التخلي عن تطبيقي واتساب وإنستغرام كخطوة أولى.
ما معنى الميتافيرس؟ ومتى ظهرت؟
والمقصود بالميتافيرس هو العوالم الافتراضية، وبشكل عام هذه التقنية موجودة بالفعل منذ سنوات وتستخدم بالأساس في ألعاب الفيديو، لكن ما يتحدث عنه خبراء التكنولوجيا الآن أمر مختلف، يهدف إلى جعل الميتافيرس وكأنها نسخة منقحة من الواقع الافتراضي.
ويعتقد كثير من هؤلاء الخبراء أن الميتافيرس قد يصبح الثورة القادمة في مستقبل الإنترنت، بل إن ثمة اعتقاداً بأن مقارنة الميتافيرس بالواقع الافتراضي المستخدم في الألعاب حالياً ربما تشبه مقارنة الهواتف الذكية بالجيل الأول من الهواتف المحمولة الضخمة التي أُنتجت في ثمانينيات القرن الماضي، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
فالميتافيرس أو العالم الافتراضي الجديد يمكن أن يستخدم في أي شيء – كالعمل واللعب والحفلات الموسيقية والذهاب إلى دور السينما، أو مجرد الالتقاء بالأصدقاء. ويتصور غالبية الناس أنك تحتاج إلى "أفاتار" أو صورة رمزية ثلاثية الأبعاد، لكي تتمكن من استخدامه. ولكن لأن الميتافيرس لا يزال مجرد فكرة جديدة، فإنه لم يُتفَق بعد على تعريف موحد له.
فبدلاً من الجلوس أمام جهاز كمبيوتر، ربما كل ما ستحتاج إليه عند الاتصال بالميتافيرس هو نظارة أو جهاز يوضع على الرأس لكي تتمكن من دخول عالم افتراضي يربط بين مختلف أنواع البيئات الرقمية.
ولطالما تحدث تيم سويني، رئيس شركة إيبيك غيمز (التي تنتج لعبة فورتنايت)، عن طموحاته المتعلقة بالميتافيرس. وتستخدم ألعاب الفيديو متعددة اللاعبين والتي تمارس عبر الإنترنت عوالم تفاعلية مشتركة منذ عقود. هذه العوالم ليست ميتافيرس، لكنها تشترك معه في بعض الأفكار.
وفي الأعوام الأخيرة، وسعت فورتنايت من منتجاتها، حيث استضافت حفلات موسيقية وملتقيات لبناء العلامة التجارية، وغير ذلك، داخل عالمها الرقمي الخاص. أثار ذلك إعجاب الكثيرين ولفت انتباههم إلى ما يمكن تحقيقه، كما سلط الضوء على رؤية السيد سويني بشأن الميتافيرس.
وتوجد بعض الألعاب الأخرى التي تقترب أيضاً من مفهوم الميتافيرس. على سبيل المثال روبلوكس، التي تعد منصةً لآلاف الألعاب المنفردة التي ترتبط جميعاً بنظام بيئي أكبر. وفي غضون ذلك، تستثمر "يونيتي"، وهي منصة لتطوير المنتجات ثلاثية الأبعاد، فيما يعرف "بالتوائم الرقمية" – وهي نسخ رقمية للعالم الحقيقي، كما أن شركة تصميمات الغرافيكس "نفيدا" تعكف حالياً على بناء ميتافيرس خاص بها، تصفه بأنه منصة للربط بين العوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد.
لماذا إذن هذا الاهتمام المفاجئ بالميتافيرس؟
عادة ما تثار ضجة دعائية حول العوالم الرقمية وما يعرف بالواقع المعَزز كل بضعة أعوام، لكنها سرعان ما تخبو. إلا أن هناك قدراً كبيراً من الإثارة والترقب للميتافيرس في أوساط المستثمرين الأثرياء وشركات التكنولوجيا الضخمة، ولا أحد يرغب في أن يتخلف عن الركب إذا ما صار هذا المفهوم بالفعل هو مستقبل الإنترنت.
كما يسود شعور بأنه للمرة الأولى، أوشكت التقنية أن تكون متاحة، مع التقدم الذي تشهده ألعاب الفيديو باستخدام الواقع الافتراضي، واقتراب الاتصالية من الشكل الذي يتطلبه الميتافيرس.
لكن رغم أن هناك الكثير من الأفكار حول الشكل الذي سيتخذه الميتافيرس، فإن غالبية الرؤى تضع التفاعل الإنساني في لبّ ذلك المفهوم، وهذا يختلف بشكل تام عن مفهوم العالم الافتراضي المطبق في ألعاب الفيديو، حيث ينصب التركيز كاملاً على اللعبة نفسها وكيفية إتقانها وتحقيق مركز متقدم فيها.
فيسبوك، على سبيل المثال، يقوم باختبار تطبيق للاجتماعات الافتراضية أطلق عليه "وركبليس" (أو مكان العمل)، ومنبر اجتماعي اسمه "هورايزونز" (أو آفاق)، وكلاهما يستخدم نظم أفاتار افتراضية خاصة به. وهناك تطبيق آخر للواقع الافتراضي هو "في.آر.تشات" يركز تركيزاً كلياً على الالتقاء والدردشة عبر الإنترنت، ولا هدف له سوى استكشاف بيئات مختلفة ومقابلة أشخاص آخرين.
وربما كانت هناك تطبيقات أخرى بانتظار من يكتشفها. وصرح سويني مؤخراً لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية بأن لديه رؤية لعالم تستطيع فيه شركة تصنيع سيارات تسعى إلى الترويج لطراز جديد بأن "تطرح سياراتها في الوقت الحقيقي، فيتمكن المرء من قيادتها في الحال في العالم الافتراضي".
ربما عندما تذهب للتسوق عبر الإنترنت، سيكون بإمكانك قياس الملابس رقمياً أولاً، ثم تطلبها ويتم توصيلها إليك في العالم الحقيقي. وشهدت تكنولوجيا الواقع الافتراضي تطوراً كبيراً في الأعوام الأخيرة، حيث ابتُكرت نظارات باهظة الثمن بإمكانها خداع العين البشرية وجعلها ترى الأشياء بالأبعاد الثلاثية، بينما يتنقل اللاعب في العالم الافتراضي. كما أصبحت أكثر شيوعاً – فقد كانت نظارة "أوكيولاس كويست-2" التي تستخدم في ألعاب الواقع الافتراضي من بين الهدايا الرائجة خلال أعياد الميلاد في 2020.
وربما يشير تفجُّر الاهتمام بتقنية التشفير "إن.إف.تي"، التي قد تزودنا بوسيلة موثوقة لتتبع ملكية السلع الرقمية، إلى الكيفية التي سيعمل بها الاقتصاد الافتراضي في المستقبل. والعوامل الرقمية الأكثر تطوراً سوف تكون بحاجة إلى اتصالية أكثر جودة واتساقاً وقابلية للتنقل – وهو شيء ربما يتحقق مع توسيع نطاق تقنية الـ5 جي.
حالياً، لا يزال كل شيء في مراحله الأولى. وتطور الميتافيرس -إذا حدث من الأصل- سوف يكون شيئاً تتصارع عليه شركات التكنولوجيا العملاقة على مدى العقود القادمة، وربما لأبعد من ذلك.
ما علاقة فيسبوك بالميتافيرس؟
فيسبوك جعل من تصميم الميتافيرس واحدة من أهم أولوياته، فقد استثمر أموالاً طائلة في الواقع الافتراضي من خلال نظارات "أوكيولاس"، ما جعلها أرخص ثمناً من منافساتها، وربما يكون قد تكبد خسائر نتيجة لذلك، وفقاً لبعض المحللين.
كما يعكف على تصميم تطبيقات واقع افتراضي للقاءات الاجتماعية والاجتماعات في أماكن العمل، بما في ذلك تطبيقات تتفاعل مع العالم الحقيقي. واستثمر فيسبوك 50 مليون دولار أمريكي في تمويل هيئات غير ربحية للمساعدة في "تصميم الميتافيرس بشكل مسؤول".
وبسبب ما اشتهر به فيسبوك من شرائه للشركات المنافسة له، كما فعل مع واتساب وإنستغرام على سبيل المثال، بدأت الشركة ومؤسسها زوكربيرغ يواجهان اتهامات بالسعي للسيطرة على الميتافيرس قبل حتى أن تنضج التقنية بشكل كامل.
لكن فيسبوك يزعم أن الميتافيرس "لن يُصمم بين عشية وضحاها من قِبَل شركة واحدة"، وتعهد بالتعاون مع شركات أخرى.
في الوقت نفسه، أعلن فيسبوك أنه بصدد توظيف عشرة آلاف شخص في الاتحاد الأوروبي بغرض تطوير تقنية الميتافيرس، في أعقاب فضيحة التسريبات الأخيرة، وقالت الشركة في بيان لها إن هذه الوظائف ستتم تدريجياً من الآن وعلى مدى خمسة أعوام، وستركز على انتقاء مهندسين متخصصين على أعلى مستوى، بحسب تقرير للبي بي سي.
"للميتافيرس قدرة على فتح الأبواب أمام فرص إبداعية واجتماعية واقتصادية جديدة، وسيكون للأوروبيين الدور الرئيسي في تشكيل تلك التقنية منذ البداية"، بحسب ما جاء في بيان فيسبوك.
وربما يكون اختيار فيسبوك للاتحاد الأوروبي كنقطة انطلاق للاستثمار في تقنية الميتافيرس بهذا الشكل المكثف راجعاً إلى الرغبة في الاستفادة من المستوى المرتفع للتعليم الجامعي ووفرة المتفوقين في مجال التكنولوجيا بين طلاب وخريجي تلك الجامعات، بحسب بعض الآراء.
لكن البعض الآخر يرى أن الشركة تسعى لتحسين صورتها على المستوى الشعبي في أوروبا، في ظل تكثيف مسؤولي الاتحاد من رقابتهم على فيسبوك والسعي إلى إصدار تشريعات تتعلق بخصوصية بيانات المستخدمين الأوروبيين ومنع الشركة الأمريكية من نقلها إلى الولايات المتحدة.
لكن في كل الأحوال يوجد كثير من الشكوك تحيط بنوايا فيسبوك ومؤسسه تجاه تقنية الميتافيرس، التي -إن تم تطويرها بالشكل الذي يأمله مطوروها والمستثمرون فيها- قد تُغير حياة البشر على الكوكب بشكل كامل وتحول الحياة نفسها إلى واقع افتراضي مترابط، فهل يفعلها زوكربيرغ ويصبح المتحكم الوحيد في تقنية كهذه؟ فيسبوك تنفي، لكنها أيضاً تنفي أن تكون خوارزمياتها تسعى للربح فقط، عكس ما أثبتته تسريبات هوغن الأخيرة.