قبل ستين عاماً ارتكبت فرنسا واحدة من أسوأ المجازر بحق المدنيين في تاريخ أوروبا المعاصر، فهل يعني اعتراف الرئيس ماكرون بالمجزرة أخيراً أنها "جريمة دولة" ارتكبتها بلاده بحق جزائريين؟
وترجع وقائع المجزرة إلى يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961، حين تجمع مئات الآلاف من الجزائريين في شوارع باريس احتجاجاً على فرض حظر التجول عليهم ودعماً لبلدهم الأم في حرب الاستقلال ضد الاستعمار الفرنسي.
وعلى الرغم من مرور 60 عاماً بالتمام والكمال على واحدة من أسوأ المجازر التي ارتكبتها دولة بحق متظاهرين عزل في تاريخ أوروبا المعاصر، لا تزال فرنسا تتنصل من مسؤوليتها كدولة عن "الجريمة"، فماذا يعني ما أقدم عليه ماكرون هذه المرة؟
في ذكرى مجزرة باريس
الاستعمار الفرنسي للجزائر، الذي استمر منذ 1830 وحتى 1962، يعتبر واحداً من أبشع الملفات الاستعمارية، إذ شهد تاريخاً لم يتوقف من النضال الجزائري قابلته فرنسا باستخدام جميع أنواع التنكيل وارتكبت قوات المستعمر مئات بل آلاف المجازر، لتصبح الجزائر "بلد المليون شهيد" تعبيراً عما تعرض له الجزائريون على أيدي المحتل الفرنسي.
لكن الفظائع التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين لم تتوقف عند حد التراب الجزائري، بل امتدت إلى شوارع باريس ذاتها، حيث تحول لون مياه نهر السين إلى "الأحمر" بلون الدم الجزائري الذي اختلط بمياه النهر، حسب وصف أحد شهود العيان على المجزرة.
وكانت فرنسا قد فرضت يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 حظر تجول على الجزائريين الذين يعيشون في باريس ومحيطها، تزامناً مع دخول حرب الاستقلال مراحلها الأخيرة.
وفي يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، خرج أكثر من 300 ألف جزائري في مظاهرة سلمية رفضاً لحظر التجول ودعماً لنضال بلدهم من أجل الاستقلال. وبناءً على أوامر صادرة من رئيس شرطة باريس آنذاك، موريس بابون، تدخلت الشرطة بقوة في قمع المتظاهرين وقتلت العشرات منهم عمداً في الشوارع ومحطات مترو الأنفاق، وألقت بعدد من المصابين من الجسور في نهر السين، ما أدى إلى مقتلهم، وهو ما بات يعرف بعد ذلك بمجزرة "باريس عام 1961".
ولم يُحدد رسمياً عدد قتلى الاحتجاج الذي أسفر عن إصابة آلاف الأشخاص واعتقال قرابة 14 ألف شخص، إلا أن شهود المجزرة ومصادر مستقلة ذكروا أن أكثر من 300 جزائري قُتلوا على يد الشرطة الفرنسية.
وفي تصريح للأناضول قال محمد كاكي، رئيس جمعية "لي زورانج" (Les Oranges)، إن الجمعية "تكافح من أجل الذين قتلوا يوم 17 أكتوبر 1961".
ولفت كاكي وهو مؤلف كتاب "17 أكتوبر 1961، أذكر.." وشارك والده في المظاهرات في حينه، إلى أن الجزائريين "احتجوا سلمياً على قرار حظر التجول المفروض في باريس في 5 أكتوبر 1961، قائلاً: "لقد ذُبحوا في هذه التظاهرة".
وتابع: "ما حدث جريمة دولة (..) كان رئيس شرطة باريس موريس بابون محمياً من قبل وزير الداخلية آنذاك روجر فراي، والأخير كان محمياً من قبل رئيس الوزراء آنذاك ميشال دوبريه".
وأضاف كاكي: "هؤلاء لم يحتملوا قرار الأطفال والنساء والرجال الذين يرتدون ملابس جميلة بالتظاهر ضد حظر التجول وضد الاستعمار ومن أجل استقلال الجزائر".
وقال: "كان الأمر لا يطاق بالنسبة للشرطة والسياسيين وقائد الشرطة آنذاك، لهذا السبب نفذوا مداهمة وحشية وقتلوا أكثر من 300 شخص وتحول نهر السين إلى اللون الأحمر مصطبغاً بدماء الجزائريين".
ووصف المؤرخان البريطانيان "جيم هاوس" و"نيل ماكماستر"، ما تعرض له الجزائريون يومها، في كتابهما "الجزائريون.. الجمهورية ورعب الدولة"، بأنه "أعنف قمع لمظاهرة في أوروبا الغربية في التاريخ المعاصر".
كيف تعاملت فرنسا مع مجزرة باريس؟
رغم جهود أقارب الضحايا، ظلت فرنسا تنكر المجزرة لمدة 37 عاماً، حتى جاء عام 1998 حين أقرت باريس بمسؤوليتها عن مقتل 40 شخصاً فقط، وهو ما يراه مؤرخون محاولات فرنسية مستمرة للتستر على هذه المذبحة.
وفي 17 أكتوبر 2001 ، وضع عمدة باريس الاشتراكي برتراند ديلانوي لوحة على جسر سان ميشيل على نهر السين، أحد الأماكن التي وقعت فيها المجزرة، تخليداً لذكرى أولئك الذين فقدوا حياتهم، في حين لا تزال فرنسا لا تعترف بالمذبحة على أنها "جريمة دولة".
وفاز المؤرخ جان لوك أينودي بالدعوى المرفوعة ضد رئيس شرطة باريس بابون في 1999، وبذلك تقرر رسمياً أن المجزرة ارتكبت عمداً إلا أن الحديث عنها كان من المحرمات في فرنسا.
ومنذ 2012 تنظم في فرنسا مراسم تأبين ضحايا المجزرة بعد الحصول على ترخيص من السلطات المعنية. ويؤكد خبراء أن الحدث يعد أكبر مجزرة آنذاك في أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، وأنه تم لأسباب سياسية وعنصرية.
وقال فرنسيون من أصول مغاربية يحيون ذكرى ضحايا المجزرة أمام اللوحة الموضوعة على جسر سان ميشيل، إن المجزرة اعتبرت من المحرمات في البلاد، مشددين على وجوب أن يتغير هذا الوضع وأن تتحمل فرنسا مسؤوليتها عنها.
وتمثل مجزرة باريس ما يمكن تسميته بأحد "ألغام الذاكرة" فيما يتعلق بالاستعمار الفرنسي للجزائر، أو قضية كتابة تاريخ ذلك الاستعمار، وهي العقبة الجوهرية أمام تطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين اقتصادياً واجتماعياً بشكل نهائي.
وفي هذا السياق، جاء اتفاق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون العام الماضي على تكليف خبيرين للعمل على ملف "الذاكرة" الحساس، لكن الخطوة لم تكلل بالنجاح، بعد أن خلا تقرير المؤرخ المعروف بتخصصه في تاريخ الجزائر، بن جامان ستورا، من حتمية اعتراف فرنسا بجرائمها والاعتراف عنها.
ماكرون وموقفه من "مجزرة باريس"
الذكرى السنوية الستون لمجزرة باريس شهدت تزايد الدعوات للرئيس الفرنسي ماكرون لقبول مسؤولية فرنسا عن هذه المجزرة، إذ قال محمد كاكي للأناضول: "نطالب بثلاثة أمور هي: الاعتراف بالمجزرة كجريمة دولة، وفتح الأرشيف، وسرد هذا التاريخ (17 أكتوبر 1961) في الكتب المدرسية".
ويرى كاكي أن "هذا لا يمثل تاريخ الجزائريين فقط، إنما تاريخ فرنسا أيضاً، لأن الحدث وقع في باريس"، لافتاً إلى ضرورة إطلاق اسم "17 أكتوبر 1961" على بعض الشوارع في البلاد، ومؤكداً أنهم سيواصلون محاربة العنصرية والتمييز والإسلاموفوبيا.
ورغم إشارة كاكي إلى تلقي المتظاهرين دعم الفرنسيين في كفاحهم، فإنه بين أيضاً أن فرنسا "لم تقر بمسؤوليتها عن الأحداث بسبب الضغوط التي مارستها بعض الشرائح على الوزراء والسياسيين في البلاد".
وعلى الرغم من تزامن ذكرى المجزرة هذا العام مع انهيار العلاقات الثنائية بين الجزائر وباريس، بعد تصريحات الرئيس الفرنسي التي شكك فيها في وجود "أمة جزائرية" قبل الاحتلال الفرنسي وسحب الجزائر سفيرها لدى باريس، شارك ماكرون السبت 16 أكتوبر/تشرين الأول في مراسم إحياء الذكرى الستين لمجزرة باريس.
وأدان ماكرون ما وصفها بأنها "جرائم لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية"، في المرة الأولى على الإطلاق التي يتوجه فيها رئيس فرنسي إلى مكان المجزرة، بحسب تقرير لفرانس 24.
وقال قصر الإليزيه، في بيان، إن "الرئيس ماكرون أقر بالوقائع: إن الجرائم التي ارتكبت تلك الليلة تحت سلطة موريس بابون (قائد شرطة باريس يومها) لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية".
وبحسب البيان، يأمل رئيس الدولة الذي يقوم بعمل غير مسبوق في الذاكرة عن الحرب الجزائرية، أن "ينظر إلى التاريخ وجهاً لوجه"، كما فعل مع رواندا عبر الاعتراف بـ"مسؤوليات" فرنسا في الإبادة الجماعية للتوتسي 1994. لكن الإليزيه أكد في الوقت نفسه أن "هذا لا يعني إعادة كتابة التاريخ أو إعادة اختراعه".
لكن على الرغم من أن ماكرون أصبح أول رئيس فرنسي على الإطلاق يشارك في إحياء ذكرى مجزرة باريس بحق جزائريين، فإنه ما زال يرفض في الوقت ذاته الاعتذار عن مثل هذه الفظائع أو التحقيق فيها جدياً، وهو ما يعتبر تناقضاً صارخاً تميز به التقرير الرسمي عن فترة الحكم الاستعماري الفرنسي للجزائر الذي دام 132 عاماً وحرب التحرير الوحشية التي أنهته، بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
ويتسبب هذا التناقض في تأكيد اتهامات يواجهها ماكرون بأنه يرغب في كسب الناخبين الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية، وبأنه في الوقت نفسه يغازل القوميين الفرنسيين الذين يمجدون إمبراطوريتهم القديمة، خصوصاً أنه كان قد أعرب صراحة عن أنه لن يعبر عن "ندم ولا اعتذار" عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الجزائر.
أما في الجزائر، فقد نشرت وزارة الإعلام بياناً بالمناسبة جاء فيه: "لقد تعرض هؤلاء المدنيون المتظاهرون لأبشع صور البطش والتنكيل والتعذيب والاغتيال". وأوضح أن "القمع خلف في يوم واحد 300 شهيد منهم نساء وأطفال ومسنون في بلد يسوق لنفسه بهتاناً وزوراً دور المدافع عن حقوق الإنسان".
وتحيي الجزائر الأحد الذكرى السنوية الـ60 لمجزرة باريس، حيث قرر الرئيس تبون الوقوف دقيقة حداد كل سنة اعتباراً من صباح الأحد، عبر كامل الأراضي الجزائرية تخليداً لأرواح شهداء المجزر.
وقالت الرئاسة الجزائرية، في بيان، إن الرئيس "تبون قرر ترسيم الوقوف دقيقة صمت كل سنة عبر كامل التراب الوطني، بدءاً من الأحد، في تمام السّاعة الحادية عشرة صباحاً، ترحّماً على أرواح شهداء مجازر 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961".