أصبح مسلسل "Squid Game– لعبة الحبار" التلفزيوني الكوري الجنوبي، الذي يتنافس فيه الأشخاص المُثقَلون بالديون مع بعضهم البعض في بطولة مميتة، أفضل عروض نتفليكس في 90 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، وصار بالفعل أكثر أعمال خدمة البث المباشر شعبيةً على الإطلاق.
وحول تأثير المسلسل، تقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية إن "هذا العرض ليس سوى أحدث تصدير ثقافي من كوريا الجنوبية يجتاح العالم". فمن أعمال موسيقى البوب مثل فرقة بي تي أس BTS إلى أفلام مثل Parasite (الذي أصبح أول فيلم بلغة أجنبية يفوز بـ4 جوائز أوسكار منها لأفضل فيلم في عام 2020)، تتمتع الموجة الكورية "الهاليو" بنجاح عالمي غير مسبوق.
من ناحية تاريخية، يحرك كوريا الجنوبية شعورها بالقلق بشأن صد الهيمنة الثقافية الصينية واليابانية أكثر مما تحركها رغبتها في نشر ثقافتها الخاصة في الخارج؛ مما جعلها الآن دولة ذات قوة ناعمة نافذة عالمياً، كما تقول المجلة الأمريكية.
من فرقة بي تي أس إلى "لعبة الحبار".. القوة الناعمة لكوريا الجنوبية
ولم يكن النمو الثقافي الذي حققته كوريا الجنوبية مجرد نتاج عمل حفنة من المبدعين الملهمين؛ بل نتيجة جهد حكومي طويل الأجل لتوسيع صناعات إبداعية محددة، وهي استراتيجية جاءت بمردود قوي في شكل نمو اقتصادي ونفوذ عالمي أكبر.
ومع هذا النفوذ المكتشف حديثاً، صار لدى سيول فرصة للاضطلاع بدور أنشط في السياسة الدولية المعاصرة، ونشر مُثُلها الديمقراطية جنباً إلى جنب مع ثقافتها الشعبية المنتشرة في كل مكان.
ووُلِدَت النهضة الثقافية في كوريا الجنوبية من رحم الشدائد. فقد استهدف الرئيس كيم داي جونغ، الذي تولى السلطة في عام 1998 في وقت تعاني فيه كوريا الجنوبية من الأزمة المالية الآسيوية، الإعلام والثقافة الشعبية باعتبارها مصدراً رئيساً للنمو الاقتصادي.
صناعة تساوي مئات المليارات من الدولارات
وتحت رعاية "خطة تطوير دعم صناعة الموجة الكورية"، حدَّدت إدارته هدفاً يتمثل في زيادة قيمة الصناعة الثقافية في كوريا الجنوبية ("الموسيقى والصابون والأفلام والرسوم المتحركة والألعاب والشخصيات") إلى 290 مليار دولار في غضون عامين، أيْ أكبر من قطاع أشباه الموصلات في البلاد، الذي كان بقيمة 280 مليار دولار. إضافة إلى ذلك، وسَّعت الحكومة ميزانية الصناعة الثقافية من 14 مليون دولار في عام 1998 إلى 84 مليون دولار في عام 2001.
ولتعزيز إنتاج الثقافة الشعبية الكورية، استخدمت حكومة كوريا الجنوبية نفس نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي طوَّرته سيول في الأصل لتنمية الإلكترونيات وبناء السفن وصناعة السيارات وصناعات التصدير الأخرى.
وبالاشتراك مع شركات العلاقات العامة وشركات التكنولوجيا وأجزاء أخرى من القطاع الخاص، بدأت وزارة الثقافة والسياحة في تطوير خطط عمل مُفصَّلة مُصمَّمة لتنمية الأسواق الخارجية للمسلسلات التلفزيونية الكورية والأفلام والأغاني الشعبية وقدمت قروضاً لرواد الأعمال والتدريب للفنانين الطموحين.
وكان أول نجاح كبير تسجله هذه المبادرة مع الدراما التليفزيونية Winter Sonata في عام 2002؛ إذ حقق هذا العرض نجاحاً عالمياً يُعزى جزئياً للصفقات التي أبرمتها الحكومة الكورية مع الشبكات الأجنبية وسرعان ما اجتذب معجبين مخلصين من جميع أنحاء العالم. وتجاوزت مبيعات السلع المرتبطة بالمسلسل 3.5 مليون دولار في اليابان وحدها. وفي غضون ذلك، زاد عدد السياح الأجانب الذين يسافرون إلى كوريا الجنوبية بنسبة 75% تقريباً من عام 2003 إلى عام 2004. وجاء الجزء الأكبر من النمو، وفقاً لمسؤولي السياحة في كوريا الجنوبية، من جاذبية الثقافة الشعبية الكورية.
"كوريا الإبداعية"
بدورها، سعت الحكومات اللاحقة في كوريا الجنوبية إلى الاستفادة من هذه النجاحات المبكرة. فقد صاغت "روه مو هيون"، الذي تولى الرئاسة في عام 2003، عبارة "كوريا الإبداعية" وزاد الإعانات للشركات الثقافية الناشئة. وأعطى خليفته المحافظ، لي ميونغ باك، الأولوية للصادرات الثقافية بصفتها وسيلة لتعزيز الصورة الوطنية لكوريا الجنوبية وتعزيز النمو الاقتصادي. وحرص لي تحديداً على الترويج للطعام الكوري، مثل الكيمتشي.
ووعدت الرئيسة التالية، بارك كون هيه، في خطاب تنصيبها، بأنَّ "الإثراء الثقافي" سيكون أحد الأهداف الرئيسية لإدارتها. وتزامنت فترة ولايتها أيضاً مع إطلاق أغنية Gangnam Style لمغني البوب ساي، التي سرعان ما زادت شعبيتها؛ محققة منذ ذلك الحين أكثر من 4 مليارات مشاهدة على موقع يوتيوب.
واستغلت الرئيسة بارك الانتشار العالمي للأغنية باستعراض موسيقى البوب الكورية في زياراتها للخارج. كما ساعد نجاح ساي أيضاً في تبرير خطط الحكومة لضخ ملايين الدولارات في وزارة الثقافة والرياضة والسياحة من أجل مشروعات تضمنت سلسلة من القاعات والمراكز الثقافية العملاقة.
أهداف سياسية واقتصادية
وواصل الرئيس مون جيه-إن، التقدمي الذي تولى السلطة في عام 2017، دعم الإنتاج الثقافي بالحوافز الضريبية والإعانات. سعت حكومة مون أيضاً إلى استخدام القوة الناعمة لتعزيز مكانة كوريا الجنوبية الدولية.
وساعدت مبادرته المميزة في السياسة الخارجية- "سياسة الجنوب الجديدة"، المُصمَّمة لتوسيع علاقات سيول مع الهند ودول عبر جنوب شرق آسيا- في تحويل المنطقة الأوسع إلى واحدة من أكبر الأسواق لثقافة البوب الكورية.
ورتَّب مون أيضاً لتقديم عروض موسيقى البوب الكورية، من فنانين مثل فرقة Red Velvet والمغنية بايك دجي يونغ، في بيونغ يانغ خلال قمة عام 2018 مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، وعينت حكومته مغنيي فرقة BTS "مبعوثين رئاسيين خاصين" إلى الأمم المتحدة "من أجل الأجيال القادمة والثقافة". وتابع أكثر من مليون شخص حول العالم الكلمة التي ألقتها الفرقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كان المردود الاقتصادي لهذه السياسات هائلاً. في عام 2019، صدرت كوريا الجنوبية 12.3 مليار دولار في ثقافة البوب (ارتفاعاً من 189 مليون دولار فقط في عام 1998)، بما في ذلك ألعاب الكمبيوتر والجولات الموسيقية ومستحضرات التجميل. بحسب أحد التقديرات، ارتفع عدد الكوريين الجنوبيين العاملين في المجالات الثقافية إلى 644847 في عام 2017 – 3% من القوة العاملة بأكملها. BTS هم وحدهم قوة اقتصادية. وفقاً لمعهد أبحاث هيونداي، تولد الفرقة وتأثيرها ما يقدر بنحو 3.5 مليار دولار سنوياً في النشاط الاقتصادي. في عام 2017، زار حوالي 800000 سائح– حوالي 7% من جميع الوافدين إلى كوريا الجنوبية- بسبب اهتمامهم بالمجموعة الفنية.
صورة إيجابية عن كوريا الجنوبية حول العالم
بعض الفوائد الاقتصادية الأخرى للقوة الناعمة الكورية غير ملحوظة، لكنها ليست أقل أهمية؛ إذ صار الكثير من الناس حول العالم ينظرون إلى كوريا الجنوبية على أنها دولة صغيرة وغير مُهدِّدَة وتزداد "روعة". وأثارت الصادرات والاستثمارات الكورية ردود فعل قليلة بين الأمريكيين، على الرغم من أنَّ كوريا الجنوبية لديها فائض تجاري مع الولايات المتحدة.
وأصبحت الشركات الكورية؛ مثل سامسونغ وكيا وهيونداي، أجزاءً لا جدال فيها من الحياة الأمريكية اليومية؛ في تناقض حاد مع الشركات اليابانية؛ مثل تويوتا وسوني وهوندا، في الثمانينيات والشركات الصينية مثل هواوي اليوم.
ووجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أنَّ 77% من الأمريكيين اليوم لديهم وجهة نظر إيجابية عن كوريا الجنوبية، مقارنةً بـ46% في عام 2003. وهذا أكثر إيجابية بكثير من وجهات النظر الأمريكية للحلفاء التقليديين مثل أستراليا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، ناهيك عن الدول الآسيوية الأخرى.
علاوة على ذلك، تعزز القوة الناعمة التحالف العسكري طويل الأمد بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، الذي صمد أمام اتهامات الرئيس السابق دونالد ترامب بأنَّ سيول تستغل السخاء العسكري الأمريكي. وفشلت مثل هذه الادعاءات في أن يتردد صداها في الولايات المتحدة ليس فقط بسبب تاريخ مشترك من التضحية يعود إلى الحرب الكورية، لكن أيضاً بسبب الموقف الإيجابي تجاه كوريا الجنوبية الذي يتبناه العديد من الأمريكيين، وهي وجهة نظر عززتها الصادرات الثقافية إلى حد كبير.
التأثير الثقافي على الجارة الشمالية
لا تكون القوة الناعمة لكوريا الجنوبية ذات تأثير كبير عندما يتعلق الأمر بتغيير السلوك الصيني، لكنها يمكن أن تكون أكثر قوة في كوريا الشمالية. فمثلما ساعدت الصادرات الثقافية الغربية، ومنها: ماكدونالدز وكوكاكولا وهيرشي وإلفيس بريسلي والبيتلز، في تقويض الكتلة السوفيتية والفوز بالحرب الباردة، فإنَّ القوة الناعمة لكوريا الجنوبية لديها القدرة على تحدي استبداد كوريا الشمالية من خلال إغراء سكانها بالثمار المغرية للديمقراطية والرأسمالية، كما تقول المجلة الأمريكية.
من جانبها، وصفت الحكومة الكورية الشمالية هذه الصادرات الثقافية باستخفاف بأنها "رياح جنوبية"، ثم بقلق أكبر بأنها "سلاح". ومع ذلك، لا يزال العديد من الكوريين الشماليين قادرين على مشاهدة الدراما الكورية الجنوبية والاستماع إلى موسيقاها على محركات أقراص USB المُهرّبة من الصين والمبيعة في السوق السوداء. واستجابت بيونغ يانغ، على نحو متوقع، بتحذير المواطنين بالابتعاد عن كل الأشياء الكورية الجنوبية، بما في ذلك الأزياء والموسيقى وتسريحات الشعر وحتى اللغة العامية، مثل أوبا (الأخ الأكبر)، وهو مصطلح اشتهر من أغنية "Gangnam Style".
وبعيداً عن كوريا الشمالية، تمتلك كوريا الجنوبية أيضاً فرصة لتسخير قوتها الناعمة لتعزيز القيم الديمقراطية، لا سيما في آسيا، حيث يتردد صدى عروضها الثقافية بالفعل. ولا شك أنَّ أفلاماً مثل Parasite وعروضاً مثل مسلسل لعبة الحبار Squid Game تعتبر سيوفاً ذات حدين؛ كونها تعرض قوة الثقافة الرأسمالية بينما توضح في نفس الوقت مخاطر التفاوت المفرط في الدخل النتاج عن النظام الرأسمالي.
ومع ذلك، فإنَّ حقيقة أنَّ كوريا الجنوبية تنتج مثل هذه الروايات النقدية الواعية بوضعها، هي بحد ذاتها تكريم لحرية التعبير التي لا يمكن تصورها في العديد من البلدان، بما في ذلك الصين، كما تقول فورين آفيرز.
أحرزت كوريا الجنوبية تقدماً قوياً في تنمية قوتها الناعمة بطرق لا يسع للدول الأخرى إلا أنَّ تحسدها وتحاكيها. لكن سيول الآن لديها مهمة أصعب بكثير؛ ألا وهي معرفة كيفية تسخير تلك القوة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للبلاد. وفي إطار هذه العملية، تحتاج كوريا الجنوبية إلى تحديد ما تمثله: هل تريد فقط تصدير الترفيه، أم تريد أيضاً تصدير مُثُلها الديمقراطية وترسيخ قوة نجوميتها الثقافية خلال ذلك؟.