رغم انسحاب جنود الجيش الأمريكي من أفغانستان بشكل نهائي، لا تزال عمليات الاستخبارات الأمريكية مستمرة، فقد قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، إن الولايات المتحدة ستستمر في شن ضرباتها الجوية مستعينة بالطائرات بدون طيار في أفغانستان للقضاء على كل من تعتبره عدواً لها.
وقد صرح بايدن خلال إعلانه سحب القوات الأمريكية من أفغانستان نهاية آب/أغسطس الماضي، بأن الولايات المتحدة "ستواصل الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان ودول أخرى. فهي لديها ما يُسمى بقدرات (ما وراء الأفق) التي تشمل الطائرات بلا طيار، ما يعني أن الولايات المتحدة تستطيع توجيه الضربات للإرهابيين والأهداف التي تريدها دون حاجة إلى وجود جنود أمريكيين على الأرض". فهل ينجح هذا الأسلوب؟
اعتماد بايدن على الطائرات بدون طيار "نهج فاشل"
تقول مجلة The Foreign Affairs الأمريكية، للوهلة الأولى، قد تبدو خطة بايدن منطقية أو حتى ضرورية لمن يتبنَّى نهج الولايات المتحدة في مواجهة المجموعات التي تعتبرها إرهابية في أفغانستان، لا سيما مع غياب القوات على الأرض، فقد يكون من المنطقي هنا اعتماد المسؤولين الأمريكيين على طائرات بدون طيار مسلحة لقتل أعدائها المحتملين.
مع ذلك، فإن المتأمل سيرى أن هذا الأمر سينطوي على مفارقة مأساوية: فزيادةُ الولايات المتحدة اعتمادها على الطائرات بلا طيار يعني، في الوقت نفسه، تبنيها نهجاً كان له دور رئيسي في الهزيمة الاستراتيجية للولايات المتحدة في أفغانستان.
فعلى مدار عقدين من الحرب الأمريكية في أفغانستان، استخدم صانعو السياسات الأمريكيون العمليات العسكرية قصيرة المدى (مثل ضربات الطائرات بدون طيار) لتسويفِ التفكير والمواجهة للعيوبِ التي كانت واضحة في الجيش الأفغاني، والهشاشة التي انطوت عليها حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني، والغياب لأي خطةٍ نهائية قابلة للتفعيل.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد قتلت الطائرات بلا طيار مئات من المدنيين الأبرياء، وآخرهم زماري أحمدي، الذي كان يعمل منذ سنوات عديدة مع منظمة إغاثة أمريكية، وتسعة أفراد من عائلته. وتؤدي هذه الضربات الخاطئة، خاصة تلك التي توقع ضحايا من الأطفال، إلى تأجيج غضب السكان المحليين ومساعدة المجموعات المناهضة للولايات المتحدة في تجنيد أعضاء جدد، وهذا أمر طبيعي.
ويكفي شاهداً على ذلك أنه بعد سنوات مما يُعرف بـ"ضربات قطع الرؤوس" التي استهدفت فيها الولايات المتحدة قيادات تلك المجموعات، فإن أحد التقديرات وجد أن أعداد "المتطرفين" في جميع أنحاء العالم الآن تزيد بنحو 4 أضعاف عمَّا كانت عليه عند أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، كما تقول "فورين بوليسي".
ورثَ بايدن هذا الفشل. فقد اعتمد أسلافه الثلاثة كلهم اعتماداً كبيراً على الطائرات بدون طيار، وهو ما أدى إلى انتقادات سياسية وردود فعل سلبية محلياً ودولياً. ومن ثم، إذا استمر بايدن على نهج أسلافه، فإنه لن يزيد الأمور إلا سوءاً. والبديل عن ذلك هو التخلي عن عمليات المطاردة المستمرة والاستهداف بالاشتباه واستخدام الضربات المميتة للطائرات بلا طيار تحت شروط خاصة محددة، تشمل، على سبيل المثال، دليلاً واضحاً على هجوم وشيك من إرهابي معروف.
بالإضافة إلى ذلك، تقول فورين بوليسي إنه يجب على الولايات المتحدة أن تكون أكثر شفافية فيما يتعلق بعملية إصدار القرار الخاص باستخدام الطائرات بلا طيار ونتائجها، وأن تعمل على تعويض الضحايا الأبرياء. بخلاف ذلك، ستستمر واشنطن في إدامة دورة العنف التي كان يمكن تجنبها.
الطائرات بدون طيار الأمريكية.. إدمان قاتل
في ليلة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2001، حلقت طائرة بلا طيار تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية من أوزبكستان إلى أفغانستان، مسلحةً بصاروخ موجه أمريكي من نوع "هيلفاير"، أطلقته الطائرة مستهدفةً أمير حركة طالبان، الملا عمر، في مجمع سكني في قندهار. لكن الصاروخ أخطأ هدفه، وقتل بدلاً من ذلك عدداً من الحراس الشخصيين لزعيم طالبان. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تًستخدم فيها طائرة أمريكية بلا طيار في محاولة اغتيال مباشرة.
خلال الشهر التالي، استهدفت الطائرات بلا طيار من نوع "بريداتور" Predator التابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية أكثر من 40 هدفاً تابعاً لحركة طالبان وتنظيم القاعدة. وبحلول نهاية إدارة جورج دبليو بوش، كانت واشنطن شنَّت ما يقرب من 60 ضربة بطائرات بلا طيار، معظمها في باكستان.
عند توليه منصبه، توسَّع باراك أوباما في الاعتماد على برنامج الطائرات بلا طيار. وبين عامي 2009 و2017، تضاعف عدد الضربات خارج مناطق القتال المحددة بنحو 10 أضعاف، ليصل إلى 563 غارة جوية. وآلت الأمور إلى تحوُّل الاستهداف من "الضربات على أساسٍ من المعرفة للشخص المستهدف" (personality strikes) إلى "الضربات على أساس من التقفي والاشتباه في نمط المستهدَف" أو ما يُعرف بـ"ضربات تقفي الأثر" (signature strikes). وفي ظل هذا النموذج، بات جميع الذكور مجهولي الهوية في سن التجنيد كافياً وجودهم في معسكر تدريب أو تجمعٍ يثير الاشتباه لاستهدافهم.
مئات الأبرياء قتلتهم الإدارات الأمريكية بواسطة طائرات بدون طيار
مع ذلك، يقول بعض المراقبين إن أوباما، وإن ضاعف استخدام الطائرات بلا طيار، فإنه حاول إنشاء "منظومة أكثر ضبطاً من تلك التي كانت موجودة في عهد بوش". ويزعم أصحاب هذا الرأي أن البيت الأبيض في عهد أوباما كان يسيطر بإحكام على خيارات الاستهداف، وكان يشترط وجود "تهديد مستمر ووشيك" لمصالح الأمريكيين، كما أن العمليات كانت تخضع لتنسيقٍ مشترك بين الوكالات الأمريكية.
ومن جهة أخرى، اضطرت الإدارة إلى نشر بيانات الضربات مع تصاعد الضغط العام. ومع كل ذلك، فإن الاستخدام المتزايد للطائرات بلا طيار خارج مناطق القتال أدى إلى مقتل ما يقدر بنحو 606 أشخاص ممن تعتبرهم الولايات المتحدة أبرياء بين عامي 2009 و2017.
بعد توليه الرئاسة، كثَّف دونالد ترامب وتيرة الهجمات بدون طيار. ونبذَ الضوابط التي وُضعت في عهد أوباما وفوَّض قرارات الاستهداف إلى عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية والقادة العسكريين. وأصدرت إدارته سراً قرارات أفضت إلى تخفيض عتبة الحد الأدنى لشروط الاستهداف والقتل، لا سيما فيما يتعلق بالرجال المدنيين البالغين. كما ألغى ترامب أمراً تنفيذياً كانت إدارة أوباما أصدرته ويُلزم فيه الوكالات الأمريكية بالتحقيقَ في التقارير المتعلقة بسقوط مدنيين وتقديم تعويضات لذويهم.
بعد أن تولى بايدن الرئاسة، كانت واحدة من أولى خطوات الأمن القومي التي اتخذها هي إعادة فرض سيطرة البيت الأبيض على عمليات الطائرات بلا طيار، ووضع قواعد جديدة لكيفية تنفيذ الجيش والاستخبارات الأمريكية لهذه الضربات. ولم تقع أي هجمات بلا طيار في الأشهر الستة الأولى من عام 2021، لكن مستشار الأمن القومي جيك سوليفان قال إن الإجراءات الجديدة هي "توجيهات مؤقتة"، وإن الأمر في طور المراجعة بين الوكالات.
خطوة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء
يقول المؤيدون للطائرات بدون طيار في الولايات المتحدة إن ضرباتها ساعدت في مكافحة الإرهاب، ونزعت عن المجموعات المسلحة، مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، قياداتها. وأعجزت المسلحين عن التحرك بحرية، كما قللت قدرتهم على التخطيط لعمليات بعيدة المدى.
مع ذلك، فإن الأسلوب الذي تعتمده الولايات المتحدة في هجمات الطائرات بلا طيار يقوِّض تلك الفوائد. فقد أدت ضربات قطع رؤوس القيادات إلى تحوِّل تنظيم القاعدة من اللامركزية إلى نموذج إنشاء فروع لها في كل مكان، وهو ما أدى إلى ظهور منظمات جديدة. كما أن تلك المجموعات تناقلت الخبرات التي باتت تتيح لها الإفلات من هجمات الطائرات بلا طيار، ومنها البقاء في المناطق الحضرية وتوثيق الاندماج في أوساط المدنيين.
وهكذا، وفي حين أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة عند بداية استخدام هذه الطائرات كان القضاء على شبكات الإرهاب العالمية وتقليص العدد الإجمالي لمقاتليها وفصلهم عن عامة السكان، فإن واقع الأمر أن أياً من هذه الأهداف لم يتحقق، وذلك على الرغم من الحملات المكثفة لاستخدام الطائرات بلا طيار، أو ربما كانت هي بعض أسباب هذا الفشل.
لا يوجد سبب مقنع للاعتقاد بأن الطائرات بلا طيار ستكون استراتيجية ناجحة في أفغانستان في المستقبل مما كانت عليه على مدار العشرين عاماً الماضية. بل على النقيض، يصعب الآن على القوات الأمريكية تحديد أهدافها بدقة وضربها. كانت الخطة الأصلية لإدارة بايدن هي شن الهجمات بالتنسيق مع أشرف غني، لكن الأخير فرَّ من البلاد وانهارت حكومته ولم يعُد لدى واشنطن طريقة مباشرة لجمع المعلومات الاستخباراتية التي تحتاج إليها لإصدار قرارات الاستهداف، أو للتوثق من هوية من قتلتهم في أعقاب الهجمات.
الحاجة إلى قطيعة مع النهج السابق
تقول فورين بوليسي، إذا كانت إدارة بايدن تريد حقاً عدم الوقوع في السياسات الفاشلة السابقة، فعليها أن تقلِّص استخدامها للطائرات بلا طيار إلى أقصى حد ممكن. ويمكن لبايدن أن يقصر الضربات على "الأهداف المعروفة والمؤكدة فقط". ويجب أن تُسبق الضربات بالمشاورة مع سفراء الولايات المتحدة المحليين، الذين يُفترض أنهم على دراية بأوضاع الدولة وأكثر تهيؤاً لتقييم السياقات والتداعيات السياسية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتعاون سراً مع مصادر ميدانية معروفة ومع الجهات الفاعلة الإقليمية، مثل الصين وباكستان وروسيا وحتى إيران كما تقول المجلة. كما يجب على بايدن أن يحد من النطاق الجغرافي للضربات، وما لم تتيقن الولايات المتحدة من خطر وشيك، فعليها ألا تستخدم الطائرات بلا طيار في دول مثل تشاد وليبيا ومالي والنيجر.
كما يجب على الوكالات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية أن تبذل جهوداً أكبر لتحديد أعداد الضحايا المدنيين والكشف عنها بشفافية أكبر. وينبغي أن تدفع الحكومة الأمريكية تعويضات للمتضررين بالخطأ من تلك الضربات.
في خطابه إلى الأمريكيين بمناسبة إعلان الانسحاب من أفغانستان، قال بايدن: "ونحن نطوي صفحة السياسة الخارجية التي وجَّهت أمتنا خلال العقدين الماضيين، علينا ألا نتجاوزها دون التعلم من أخطائنا". لكن الوفاء بهذه الكلمات لا يتحقق بمجرد سحب القوات، يجب على الإدارة الأمريكية أن توقفَ هذا الاستعراض العسكري اللانهائي لقوتها عبر الطائرات بلا طيار، لأن الفوائد المزعومة لهذه الطائرات في حماية الأمريكيين أقل بكثير جداً مما أوقعته من أضرارٍ لا تُحصى بتسبُّبها في مقتل عدد هائل من المدنيين، وما جرَّته على الجيش الأمريكي من معارك كثيرة كان في غنى عنها.