تسود حالة من الفوضى في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، بعد مقتل وإصابة عدد من المتظاهرين، صباح الخميس 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تزامناً مع احتجاجات ينظمها أنصار حزب الله وحركة أمل الشيعية ضد المحقق العدلي في تفجير مرفأ العاصمة اللبنانية، القاضي طارق بيطار. فما الذي يحدث في لبنان؟
ماذا يحدث في لبنان؟
قتل 6 أشخاص وأصيب نحو 20 آخرين في إطلاق نار بالعاصمة اللبنانية بيروت، بحسب ما نشرت الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان، وذلك على وقع احتجاجات عنيفة اندلعت بعد أن رفضت محكمة التمييز طلب تنحية المحقّق العدلي بانفجار المرفأ، طارق البيطار، للمرة الثانية.
ولم يُعرف على الفور مصدر إطلاق النار، فيما انتشرت مقاطع فيديو لمسلحين ملثمين وقناصين يطلقون النار في منطقة الطيونة قرب القصر العدلي في بيروت، في الوقت الذي يسيطر التوتر على أحياء في العاصمة، ويترافق مع انتشار عناصر من الجيش اللبناني.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات وصوراً للاحتجاجات التي وقعت بالعاصمة اللبنانية بيروت، وأخرى أظهرت إطلاق نار عشوائياً وقذائف "آر بي جي" وسقوط جرحى، وحالة من الفوضى والهلع يعيشها اللبنانيون جراء هذا الحادث.
وعلى الفور أعلن الجيش أن على المدنيين إخلاء الشوارع المحيطة بمنطقة إطلاق النار، وأنه سيتم استهداف أي شخص يقدم على إطلاق النار، فيما تناقلت وسائل إعلام عن مصادر أمنية أن الجيش يغلق طرقاً في العاصمة ويطارد المسلحين.
وجاءت هذه التطورات بعد يوم من فشل عقد جلسة حكومة نجيب ميقاتي، بعد رفض الوزراء المحسوبين على حركة أمل وحزب الله حضورها إلا إذا تدخلت الحكومة لإقالة البيطار، فيما لا يخفي مراقبون أن تكون المواجهة في ملف التحقيق بانفجار المرفأ قد قفزت من التباينات القانونية إلى إشهار معركة سياسية.
وثمة مخاوف في الأوساط السياسية اللبنانية من أن ملف التحقيق في انفجار المرفأ قد يفجر الوضع السياسي والحكومي، في ظل حديث تقارير إعلامية عن أن البيطار يتجه لاتهام جماعة "حزب الله" بتلك الحادثة المأساوية، فيما اعتبر الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، أن عمل البيطار "فيه استهداف سياسي ولا علاقة له بالعدالة"، مطالباً باستبداله على الفور.
ويحذر مراقبون من انتقال المعركة السياسية هذه إلى الشارع، في ظل خشية من أن تستعيد البلاد مشهد الانقسام السياسي والطائفي حول المحكمة الدولية بقضية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005.
من هو القاضي اللبناني طارق بيطار، ولماذا يسعى حزب الله لتنحيته؟
منذ يوليو/تموز، دخل القاضي اللبناني طارق بيطار المكلف بالتحقيق في الانفجار المزدوج الذي هز مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/آب 2020، في مواجهة مع الطبقة السياسية، التي ترفض رفع الحصانة عن عدة وزراء سابقين ومسؤولين أمنيين، الذين يريد استجوابهم.
وبحسب وسائل الإعلام اللبنانية، فإن طارق بيطار ليس له انتماء سياسي في بلد مليء بالمحسوبية، وهو في نظر أسر الضحايا الرجل المناسب لهذه القضية، والشخص الذي يمكن أن ينقذ ماء وجه النظام القضائي في البلاد.
وهو نظام ترى هذه الأسر أنه يعتمد بشكل كبير على طبقة سياسية، رفضت أي فكرة عن تحقيق دولي، فيما لا تزال تنتشر شائعات تفيد بأن حزب الله قد يكون متورطاً في تخزين أطنان من نترات الأمونيوم التي كانت سبباً في تفجير الميناء.
وينحدر القاضي طارق بيطار، 46 عاماً، من منطقة عكار شمالي لبنان، ويحظى بتقدير كبير من قبل زملائه كما يقول تقرير لوكالة فرانس برس. ولم يُبد أي تعليق على التهديدات والضغوط التي يواجهها، وحتى عندما يهاجمه حسن نصر الله شخصياً، كما حصل بخطاب تلفزيوني، في 8 أغسطس/آب الماضي، قال فيه الأمين العام لحزب الله: "التحقيق مسيس، يجب أن يعمل بطريقة واضحة، أو على القضاء أن يجد قاضياً آخر".
وعاد نصر الله ليتهم لاحقاً بيطار بـ"الاستنسابية والتسييس"، وبالعمل "في خدمة أهداف سياسية". وتابع: "قلنا انتبه، لا تعمل استنسابياً ولا تسيس، قبل أن نقول عليك أن ترحل".
كما حمل نصر الله قبل أيام بشدة على بيطار لاستدعائه مسؤولين دون سواهم سياسيين وأمنيين لاستجوابهم، في وقت رفض القضاء طلبات عدة تقدم بها المدعى عليهم لكفّ يد بيطار عن القضية، وشدد على أن هذا "الموضوع لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل، ولا إمكانية لاستمراره، خصوصاً في الأيام القليلة المقبلة".
عائلات ضحايا انفجار مرفأ بيروت تتمسك بالقاضي بيطار وحزب الله يرفضه
وتقول بعض عائلات ضحايا انفجار مرفأ بيروت إنها التقت في عدة مناسبات بالقاضي بيطار، واستمع إليهم ملياً، ووعدهم ببذل أقصى جهد في إطار القانون، للوصول إلى الحقيقة. تقول إحدى العائلات لفرانس برس: "لدينا ثقة كاملة به وفي العدالة التي يجسدها شخصياً على مستواه، علماً أنه في بلد فاسد مثل لبنان بعض القضاة يوالون الأحزاب السياسية، وبعيدين عن مبادئ النزاهة والحياد التي أظهرها طارق بيطار".
وتقول شقيقة أحد الضحايا وتدعى أنطونيلا حتّي، إن "التهديدات التي تستهدفه تؤكد لنا أنه يقوم بعمل جيد، وأن بوصلة تحقيقه تشير إلى الاتجاه الصحيح، أي تجاه من يختبئون للفرار من مسؤولياتهم ويخافون إلى درجة القيام بالمستحيل لإبعاده".
وفي 4 أغسطس/آب 2020، قُتل شقيق أنطونيلا، نجيب حتّي، وابن عمه شربل حتّي وصهره شربل كرم في انفجار مرفأ بيروت، حيث تم إرسال فريقهم لرجال الإطفاء قبل دقائق من التفجيرات. وتتحدث عائلات الضحايا، التي تبحث عن العدالة، عن طارق بيطار كقاضٍ صارم حريص على كشف الحقيقة في قضية يعتبرها مهمة.
وقال القاضي بيطار في مقابلة نادرة مع يومية "لوريان لوجور" اللبنانية، بعد أيام قليلة من تعيينه رئيساً للتحقيق، في فبراير/شباط 2021، إن "قضية الانفجار المزدوج في مرفأ بيروت مقدسة، هي مهمة بدءاً من اليوم، وأنا ضامن لها، وعلينا واجب تجاه الضحايا للوصول إلى الحقيقة".
وأضاف: "سأذهب حيث يقودني القانون والحق، لن يوقفني شيء، لا أعرف إلى أين سيقودني التحقيق، لكنني لن أتركه ينحرف".
تهديدات للقاضي بيطار: "سنقوم باقتلاعك"
في الوقت الذي يشل فيه المأزق السياسي والقضائي التحقيق في الكارثة التي خلفت 214 قتيلاً، وفقاً لعائلات الضحايا، وإصابة قرابة 6500 شخص كما دمرت عدة أحياء، انتقل هذا الملف إلى مرحلة جديدة من العراقيل التي تعترض طريق طارق بيطار في القيام بمهمته، وهي أكثر خطورة من سابقاتها، إذ تعرض القاضي لتهديد خطير.
هذا التهديد جاء على وجه التحديد من قبل مسؤول كبير في حزب الله، الحركة السياسية العسكرية القوية الموالية لإيران، وهو حزب تربطه علاقات وثيقة مع عدة شخصيات سياسية، وردت أسماؤها في التحقيقات التي يجريها القاضي بيطار.
"لقد سئمنا منك، سنمضي على طول الطريق بالوسائل القانونية، وإذا لم يفلح ذلك فسوف نقتلعك". كانت تلك هي الرسالة التي يُزعم أنه بعث بها، بحسب عدة وسائل إعلام لبنانية، رئيس جهاز الأمن في حزب الله وفيق صفا، ونقلها إلى القاضي عبر صحفي بقيت هويته سرية، كما تقول فرانس برس.
وأكد القاضي اللبناني، في 23 سبتمبر/أيلول الماضي، تعرضه لهذه التهديدات في رسالة وجهها إلى النائب العام في محكمة النقض، القاضي غسان عويدات، حسب وسائل إعلام لبنانية. وطلب عويدات من بيطار تحرير تقرير عن هذه التهديدات، التي كشف عنها لأول مرة على تويتر الصحفي إدمون ساسين، الذي يعمل في قناة LBC.
القاضي بيطار.. ضغط شعبي يدعمه في مواجهة ضغط سياسي يريد إقصاءه
وقبل أيام من ورود أنباء عن تهديدات ضده، أصدر طارق بيطار مذكرة توقيف غيابياً، في 16 سبتمبر/أيلول، بحق يوسف فنيانوس، الذي رفض مراراً استجوابه. وهذا الوزير السابق للأشغال العامة والنقل، المحسوب على تيار "المردة"، وهو حزب سياسي حليف لحزب الله، ومقرب من النظام السوري، ملاحق بتهمة "النية المحتملة للقتل والإهمال".
وفي رد منهم على قرار بيطار، قدم محامو الوزير السابق شكوى أمام محكمة النقض، طالبوا فيها أن يحال التحقيق في التفجير المزدوج لميناء بيروت إلى قاضٍ آخر بدل بيطار، المتهم بـ"الارتياب المشروع". من جانبه، ندد الوزير بما سمّاه "السلوك المنحرف" للقاضي.
وناشدت عائلات ضحايا انفجار المرفأ بحماية القاضي بيطار، وتقول أنطونيلا حتي إنه يجب توفير الحماية لبيطار حتى يقوم بمهمته على أكمل وجه، مضيفة لـ"أ ف ب": "إذا ثبت أن هذه الدولة الفاشلة، التي تديرها نفس الأحزاب التي تهدد القاضي وتحمي المشتبه بهم، غير قادرة على حماية بيطار، فنحن أسر الضحايا، مستعدون للقيام بذلك، نتناوب لحراسته في منزله ونوفر له حراساً شخصيين خلال تنقلاته".
وفي الوقت الذي تواصل فيه أسر الضحايا التعبئة على مستوى الشارع والإعلام للحفاظ على مستوى الضغط على الطبقة السياسية، أتى وزير العدل اللبناني الجديد هنري خوري ليؤكد، في 23 سبتمبر/أيلول، أنه سيتخذ كل الإجراءات الضرورية لضمان حماية القاضي.
ليس القاضي بيطار، الذي عين في فبراير/شباط، على رأس هذا التحقيق عندما كان يشغل رئيس المحكمة الجنائية منذ 2017، هو القاضي الوحيد الذي تعرض لكمّ كبير من الضغوط، بل سبقه في ذلك القاضي فادي صوان، الذي كلف قبله بنفس الملف، إلا أنه تم إبعاده في 18 فبراير/شباط، بقرار من محكمة النقض، استجابة لطلب وزيرين كان اتهمهما بالإهمال.
وكان القاضي بيطار قد استدعى مؤخراً من جديد رئيس الحكومة السابق حسان دياب، والنواب والوزراء السابقين، علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق للتحقيق، وأبلغهم بيطار هذا القرار لصقاً على مكان إقاماتهم، ولدى مختار المحلة لكل منهم، وعلى باب مكتب المحقق العدلي.
والثلاثاء 12 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كشفت وسائل إعلام لبنانية عن تجميد التحقيق في انفجار بيروت، بسبب شكاوى قضائية من وزيرين سابقين، بعد أن أصدر المحقق العدلي في القضية، القاضي بيطار، مذكرة توقيف بحق وزير المالية السابق علي حسن خليل، لامتناعه عن المثول أمامه للتحقيق.
وتسبب انفجار المرفأ، في 4 أغسطس/آب 2020، في مقتل 214 شخصاً على الأقل، وإصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، فضلاً عن دمار واسع في العاصمة. وعزت السلطات الانفجار إلى تخزين كميات كبيرة من نترات الأمونيوم من دون إجراءات وقاية. وتبين لاحقاً أن مسؤولين على مستويات عدة سياسية وأمنية وقضائية كانوا على دراية بمخاطر تخزين هذه المادة ولم يحركوا ساكناً.