أثارت مشاهد إطلاق النار والقذائف في شوارع بيروت الفزع؛ خوفاً من عودة شبح الحرب الأهلية إلى لبنان، فماذا حدث؟ وما قصة "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع، التي اتهمها حزب الله بالبدء بإطلاق الرصاص؟
الأحداث الدامية بدأت ظهيرة اليوم الخميس 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عندما أطلق "مجهولون" النار على محتجين مشاركين في مظاهرة دعا إليها حزب الله وحركة أمل أمام قصر العدل (مقر وزارة العدل اللبنانية)؛ للمطالبة بعزل القاضي المسؤول عن التحقيق في تفجير مرفأ بيروت.
كان مرفأ بيروت قد تعرض لانفجار هائل مطلع أغسطس/آب من العام الماضي، أودى بحياة 217 شخصاً وأصاب نحو 7 آلاف آخرين، فضلاً عن أضرار مادية هائلة في أبنية سكنية وتجارية. ووقع الانفجار في العنبر رقم 12 من المرفأ، الذي تقول السلطات إنه كان يحوي نحو 2750 طناً من مادة "نترات الأمونيوم"، كانت مصادَرة من سفينة ومخزنة منذ عام 2014.
ويتصاعد التوتر السياسي بشأن التحقيق في انفجار المرفأ، إذ يدعو حزب الله إلى عزل قاضي التحقيقات طارق بيطار، متهماً إياه بالتحيز. ويريد بيطار استجواب عدد من كبار السياسيين ومسؤولي الأمن، ومنهم حلفاء لحزب الله، بسبب الإهمال الذي أدى إلى انفجار المرفأ.
وينفى جميع من يتهمهم بيطار ارتكاب أي جريمة. وعلى الرغم من أن التحقيق لا يشمل أياً من أعضاء حزب الله فإن الجماعة تتهم بيطار بإجراء تحقيق مسيس يركز على ناس معينين فحسب.
ومن بين هؤلاء بعض أقرب حلفاء حزب الله ومنهم شخصيات بارزة في حركة أمل الشيعية كانوا يشغلون مناصب وزارية. وأوضحت وثائق أن محكمة لبنانية رفضت، اليوم الخميس، أحدث دعوى بحق بيطار، مما يسمح له باستئناف العمل.
أين وقعت الاشتباكات؟
قال الجيش اللبناني، في بيان له، إن المتظاهرين تعرضوا لإطلاق نار في منطقة الطيونة ـ بدارو، مضيفاً أنه سارع إلى تطويق المنطقة والانتشار في أحيائها، وباشر البحث عن مطلقي النار لتوقيفهم.
وعلى مدى ساعات، تواصَل إطلاق نار كثيف في منطقة الطيونة والشوارع السكنية الداخلية، وكذلك في منطقتي الشياح (أغلبية شيعية) وعين الرمانة (أغلبية مسيحية)، وتقع الطيونة على تقاطع بين عين الرمانة والشياح.
وقال الجيش اللبناني في بيان، إن إطلاق النار استهدف المحتجين في أثناء مرورهم عبر ساحة الطيونة الواقعة في منطقة فاصلة بين الأحياء المسيحية والشيعية. وقال حزب الله وحليفته حركة أمل الشيعية، إن مسلحين أطلقوا النار على محتجين من أسطح مبانٍ في بيروت مصوّبين النار على رؤوسهم، في هجوم قالتا إنه استهدف "جر البلد لفتنة".
ولاحقاً، أفاد شهود لـ"رويترز" بانتشار مسلحين مؤيدين لـ"حزب الله" و"أمل"، وإطلاقهم النار باتجاه أبنية يشتبه في أنه حصل منها إطلاق النار على المظاهرة بالمنطقة القريبة من مقر "قصر العدل" في بيروت. وأدت تلك الاشتباكات الدموية إلى سقوط 6 قتلى وإصابة 33 شخصاً آخرين، بحسب بيانات من الجيش ومسؤولي الصحة اللبنانية.
المنطقة التي شهدت تبادل إطلاق النار هي أحد خطوط التماس في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في عام 1975، وهو ما يلقي الضوء على عمق الأزمة السياسية المتعلقة بالتحقيق في الانفجار الكارثي ويقوض جهود الحكومة لمواجهة إحدى أبرز حالات الانهيار الاقتصادي في التاريخ.
وأعادت المشاهد إلى الأذهان الحرب الأهلية في البلاد، إذ بثت قنوات التلفزيون المحلية مقاطع لرصاصات ترتطم بالمباني وترتد عنها وأشخاص يهرولون بحثاً عن مكان للاختباء. وقال مصدر عسكري إن واحدة من الضحايا امرأة أصيبت بطلق ناري أثناء وجودها في منزلها، مضيفاً أن جميع القتلى حتى الآن من الشيعة. وقال شاهد من رويترز، إن المدرسين في مدرسة قريبة طلبوا من الأطفال الاستلقاء ووجهوهم إلى الأرض وأيديهم على رؤوسهم.
ما قصة "القوات اللبنانية" التي يتهمها حزب الله؟
وفي بيان تعليقاً على الأحداث الدامية، وجّه حزب الله اتهاماً مباشراً لحزب "القوات اللبنانية"، إذ قال إن "مسلحين من حزب القوات اللبنانية المسيحي هاجموا محتجين من الجماعة ومن حركة أمل.
وقال الحزب الشيعي المدعوم من إيران، في بيانه: "مجموعات من حزب القوات اللبنانية انتشرت في الأحياء المجاورة وعلى أسطح البنايات ومارست عمليات القنص المباشر للقتل المتعمد".
بينما رد سمير جعجع، رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات، بالقول إن "السبب الأساسي لهذه الأحداث هو السلاح المنفلت بأيدي البعض"، في إشارة مباشرة إلى حزب الله، مضيفاً أن "السلم الأهلي هو الثروة الوحيدة المتبقية وعلينا التعاون للوصول إليه".
ولا يعتبر هذا العداء بين حزب القوات اللبنانية ورئيسه جعجع من جهة، وحزب الله من جهة أخرى، وليد الخلاف الحالي بشأن الموقف من بيطار قاضي التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، بل هو عداء ترجع جذوره وبداياته إلى سنوات الحرب الأهلية وما تلاها.
وحزب القوات اللبنانية الحالي هو بالأساس منظمة عسكرية أسسها عام 1976 بشير الجميّل كي تكون الذراع العسكرية للجبهة اللبنانية، وهي أحد أطراف الحرب الأهلية ويهيمن عليها المسيحيون، وقال مؤسس القوات وقتها إن السبب لـ"تأسيس القوات اللبنانية تنظيمي وتحضيري؛ تحسباً لتحديات عسكرية تحيط بمسيحيي لبنان".
وكانت "القوات اللبنانية" أحد أبرز الأطراف في الحرب الأهلية بلبنان، التي استمرت نحو 15 عاماً وشهدت تبدلات في التحالفات، إذ قامت معارك بين "القوات" من جهة والجيش بزعامة ميشال عون (الرئيس الحالي) رغم كونهما ينتميان إلى المسيحيين وكانا متحالفين في بداية الحرب. والأمر نفسه ينطبق على "حرب الإخوة" بين حركة أمل (مدعومة من سوريا) وحزب الله (مدعوم من إيران) عام 1988، والتي شهدت تقسيم المناطق الشيعية بينهما.
لكن العداء بين القوات اللبنانية من جهة وحزب الله وحركة أمل من جهة أخرى لم يشهد أي تحسن على الإطلاق، بل جاء اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان ليعمق ذلك العداء. فقد نص الاتفاق على نزع أسلحة جميع الحركات والميليشيات اللبنانية والبدء في تشكيل الجيش الوطني اللبناني، مع استثناء حزب الله من ذلك الاتفاق؛ لكونه "سلاح المقاومة" في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد اتفاق الطائف، الذي دعمه سمير جعجع وعارضه ميشال عون (الرئيس الحالي) ما تسبب في قتال شرس بين قوات الجانبين، دخل جعجع في نزاع مع النظام السوري برئاسة حافظ الأسد (وكانت وقتها سوريا لاعباً رئيسياً في لبنان)، ما أدى إلى خضوع زعيم "القوات" للمحاكمة في تهم عديدة، منها اغتيال رئيس الحكومة السابق رشيد كرامي في 1987.
ورغم نفي جعجع جميع التّهم، تمت إدانته وحُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى السجن مدى الحياة. وقضى جعجع 11 سنة في زنزانة داخل مبنى وزارة الدفاع اللبنانية، وخرج بعفو من البرلمان عام 2005، بعد خروج الجيش السوري من لبنان.
"القوات" وعداء دائم مع حزب الله
ومنذ خروج سمير جعجع من السجن وعودته لقيادة حزب القوات اللبنانية، كان موقفه ثابتاً في انتقاد "سلاح حزب الله"، معتبراً إياها قضية جوهرية لفرض مفهوم الدولة اللبنانية وحصر السلاح بيد الدولة، وهو الموقف نفسه الذي كرره اليوم في أعقاب الاشتباكات الدامية.
ولحزب القوات حالياً 17 مقعداً في المجلس النيابي اللبناني، كما شاركت "القوات" في الحكومات اللبنانية المتعاقبة. ويمثل جعجع أبرز المعارضين المسيحيين لحزب الله، ويتهمه منتقدوه بأنه يتلقى دعماً من السعودية والولايات المتحدة.
وأمس الأربعاء، رفض جعجع ما وصفه بأنه أي خضوع "للترهيب" من جانب حزب الله، داعياً اللبنانيين إلى الاستعداد لإضراب سلمي إذا حاول "الطرف الآخر" فرض إرادته بالقوة، وذلك على خلفية الصراع الدائر حول قاضي التحقيق في تفجير المرفأ، وهو ما أدى إلى أحداث اليوم الدامية.
وقال الخبير العسكري العميد المتقاعد أمين حطيط، لوكالة سبوتنيك الروسية، إن "الذي حصل اليوم في الطيونة من الواضح أن هناك فريقاً يريد أن يمارس حقه الدستوري بالتظاهر والتعبير عن رأيه برفض سلوكيات المحقق العدلي، طارق بيطار، وفريق يريد أن يمنعه بالقوة من ممارسة هذا الحق، كان للفريق الذي ينتمي إلى (حركة أمل) و(حزب الله) و(تيار المردة) أن يمارس حقه المشروع بالتظاهر بشكل سلمي ويسلك الطريق الذي نظمت قوى الأمن الداخلي السير فيها بموجب قرارات إدارية ومنعت وقوف السيارات، وكان كل ذلك بعلم القوى الأمنية وفقاً للقانون".
واستدرك حطيط قائلاً: "ولكن هناك قناصين من جهة معروفة رفضت هذا السلوك من قبل المعترضين على القاضي طارق بيطار، وأرادت أن تمنع التظاهرة السلمية ولجأت رغم وجود الجيش اللبناني في المنطقة إلى استعمال السلاح وإطلاق النار، وأصابت وجرحت وقتلت بعض الأشخاص من المظاهرة السلمية".
وأشار حطيط إلى أن "الوضع في لبنان مفتوح على كل الاحتمالات، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أن يبقي الأمور تحت السيطرة، ولذلك اليوم عندما شاهدنا النار تنطلق من عين الرمانة على مستديرة الطيونة عادت الذاكرة مباشرة إلى 13 أبريل/نيسان 1975 (بداية الحرب الأهلية)، وطرح السؤال: هل سيكون 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بمثابة 13 أبريل/نيسان 75؟".
ولكن إميل لحود النائب السابق في البرلمان اللبناني، كان أكثر تفاؤلاً، إذ قال للوكالة الروسية إن هناك رغبة وحلماً لدى كثيرين ممن كانوا متزعمين في أيام الحرب الأهلية بلبنان، بأن ترجع الحرب الأهلية المشؤومة، ليأخذوا دورهم في البلاد.
ويرى لحود أن "هذه الرغبة لن تتحقق، لأن هناك أطرافاً واعية في الجهة الأخرى، وتعرف وتعي مخاطر هذه المرحلة ولن تنجر إلى هذا المخطط الجهنمي، وأقصد قوى المقاومة، وهي بالتأكيد لن تنجر إلى هذا الدرك، لكن هذا لا يعني السكوت عن هذه الأمور، ولنترك العدالة والقضاء الفعلي يحقق ويأخذ قراره في هذا المجال".