تتعرض سلاسل التوريد في العالم لضغوط شديدة، ويحذر الاقتصاديون من استمرار ارتفاع الأسعار حول العالم ورفع نسب التضخم، حيث حفزت الاضطرابات في سلاسل التوريد والمخاوف الصحية العالمية صندوق النقد الدولي على خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2021، في حين رفع الصندوق توقعاته للتضخم محذراً من مخاطر ارتفاع الأسعار على الاقتصاد العالمي، فما أسباب ذلك؟
أزمة سلاسل التوريد.. كابوس جديد يهدد الاقتصاد العالمي
في أحدث تقرير عن التوقعات الاقتصادية العالمية لصندوق النقد الدولي، صدر يوم الثلاثاء 12 أكتوبر/تشرين الأول 2021، حثَّ الخبراءُ لدى المجموعة الاقتصادية الدولية، صانعي السياسة، على الاستعداد لاتخاذ إجراءات سريعة لتعزيز الانتعاش بسرعة أكبر من المتوقع، بسبب مخاطر التضخم الواضحة.
حيث ارتفعت الأسعار من الغذاء إلى الدواء إلى السيارات إلى الأجهزة الإلكترونية ورقائق الحواسب الآلية في جميع أنحاء العالم، وهو ما يُهدد الانتعاش العالمي، بعد أن قضى الوباء على الشركات والوظائف.
وعلى سبيل المثال، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2021، يوم الثلاثاء، بمقدار نقطة مئوية واحدة، وهي أعلى نسبة في أي اقتصاد من دول مجموعة السبع. وأشار صندوق النقد الدولي إلى اضطرابات سلاسل التوريد وضعف الاستهلاك، الذي كان مدفوعاً جزئياً باختناقات سلسلة التوريد، مثل نقص السيارات الجديدة، وسط نقص رقائق الكمبيوتر (أشباه الموصلات).
وخفضت مصانع السيارات منذ بداية العام من إنتاجها، وأصبح من الصعب العثور على أجهزة ألعاب PlayStations في المتاجر، حتى منتجو الألومنيوم يحذرون من انكماش محتمل في المستقبل، والسبب في كل ذلك نقص عالمي ومتعاقب في "أشباه الموصّلات"، التي تُعرف أيضاً بـ"الرقاقات"، وهي أصغر منتج في العالم، والأكثر طلباً في نفس الوقت.
في الوقت ذاته، استشهد الاقتصاديون بتقرير صندوق النقد الدولي بأزمة سلاسل التوريد، بانتشار متحور فيروس كورونا "دلتا"، وقالوا إن الأولوية القصوى للدول هي تطعيم عدد كافٍ من الأشخاص في كل دولة، لمنع حدوث طفرات خطيرة للفيروس. وشددوا على أهمية وفاء الاقتصادات الكبرى بتعهداتها بتوفير اللقاحات والدعم المالي لجهود التلقيح الدولية، قبل أن تؤدي المتغيرات الجديدة إلى خروج هش عن المسار الصحيح.
وخفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي لعام 2021 إلى 5.9% من 6% في تقريره الصادر في يوليو/تموز الماضي، نتيجة لتخفيض توقعاته للاقتصادات المتقدمة إلى 5.2% من 5.6%. ويعكس الانخفاض بحسب التقرير مشاكل في سلاسل التوريد العالمية، التي تسبّبت في عدم التوافق بين العرض والطلب.
ماذا عن اقتصادات الدول الناشئة والنامية؟
بالنسبة للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، تحسنت الآفاق بعض الشيء بحسب تقرير صندوق النقد الدولي المنشور الثلاثاء، إذ إن النمو في هذه الاقتصادات ثابت عند 6.4% لعام 2021، وتعكس هذه النسب الأداء القوي لبعض البلدان المصدّرة للسلع الأساسية، وسط ارتفاع أسعار الطاقة.
في الوقت ذاته، حافظ الصندوق على وجهة نظره بأن النمو العالمي سيتراجع إلى 4.9% في عام 2022. ومن بين الاقتصاديات الرائدة تم تقليص توقعات النمو للولايات المتحدة بنسبة 0.1 نقطة مئوية إلى 6% هذا العام، في حين تم تخفيض التوقعات الخاصة بالصين أيضاً بنسبة 0.1 نقطة مئوية إلى 8%.
وشهدت العديد من الاقتصادات الرئيسية الأخرى خفضاً في توقعاتها، بما في ذلك ألمانيا، التي من المتوقع أن ينمو اقتصادها الآن 3.1% هذا العام، بانخفاض 0.5 نقطة مئوية عن توقعات يوليو/تموز، كما تم تخفيض التوقعات المستقبلية لليابان بنسبة 0.4 نقطة مئوية إلى 2.4%.
اضطرابات سلاسل التوريد أكثر ضرراً وأطول زمناً
وفي الوقت الذي يقول فيه صندوق النقد الدولي إن التضخم سيعود إلى مستويات ما قبل الوباء بحلول منتصف عام 2022، فإنه يحذر أيضاً من أن التأثير السلبي للتضخم يمكن أن يزداد أكثر، إذا تبين أن اضطرابات سلاسل التوريد المرتبطة بالوباء تكون أكثر ضرراً وطويلة. وقد يؤدي ذلك إلى تشديد البنوك المركزية في وقت سابق للسياسة النقدية، ما يُعيق الانتعاش.
ويقول تقرير لصحيفة "Wall Street Journal" الأمريكية، تعقيباً على تقرير صندوق النقد، إنه على الرغم من المراجعة التصاعدية في توقعات الأسعار، فإن توقعات عودة التضخم إلى مستويات ما قبل الوباء تستند إلى وفرة المعروض من العمالة في الاقتصادات المتقدمة التي ينبغي أن تؤثر على الأجور.
ومع ذلك، يحذر الاقتصاديون من أن بعض العوامل قد تزيد من الضغط التضخمي المستمر. من بينها نقص المساكن، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات قبل البناء الجديد. كما أن ارتفاع أسعار الواردات من المواد الغذائية والنفط سيُبقي أسعار المستهلك مرتفعة في البلدان الناشئة والنامية. قد تؤدي اضطرابات العرض المطولة أيضاً إلى دفع الشركات إلى زيادة الأسعار، ما يؤدي إلى زيادة الطلب على زيادات الأجور من قبل العمال.
كتب الاقتصاديون في تقريرهم: "إذا بدأت الأسر والشركات والمستثمرون في توقع استمرار ضغط الأسعار من الطلب المكبوت، فإن هناك خطراً من أن تنجرف توقعات التضخم على المدى المتوسط إلى الأعلى وتؤدي إلى ارتفاع الأسعار".
"أعباء خطيرة" على الأسر في الدول الفقيرة
يقول التقرير أيضاً إن نقص الإمدادات الناجم عن الاختناقات اللوجيستية في سلاسل التوريد، بالإضافة إلى شهية المستهلك التي تغذيها الحوافز للسلع، تسببت في زيادات سريعة في أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة وألمانيا والعديد من الدول الأخرى.
لقد وضعت الزيادات في أسعار الغذاء أعباء خطيرة بشكل خاص على أسر الدول الفقيرة. ارتفع مؤشر أسعار المواد الغذائية والمشروبات التابع لصندوق النقد الدولي بنسبة 11.1% بين فبراير/شباط وأغسطس/آب، حيث ارتفعت أسعار اللحوم والدواجن والقهوة بنسبة 30% و29% على التوالي.
يتوقع صندوق النقد الدولي الآن أن يصل تضخم أسعار المستهلكين في الاقتصادات المتقدمة إلى 2.8% في عام 2021 و2.3% في عام 2022، ارتفاعاً من 2.4% و2.1% على التوالي في تقريره الصادر في يوليو/تموز. بل إن الضغط التضخمي أكثر وضوحاً في الاقتصادات الناشئة والنامية، حيث ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 5.5% هذا العام و4.9% العام المقبل.
وكتبت جيتا جوبيناث، المستشارة الاقتصادية ومديرة الأبحاث بصندوق النقد الدولي: "بينما يمكن للسياسة النقدية عموماً أن تنظر من خلال الزيادات المؤقتة في التضخم، يجب أن تكون البنوك المركزية مستعدة للتصرف بسرعة إذا أصبحت مخاطر ارتفاع توقعات التضخم أكثر جوهرية في هذا التعافي المجهول".
وفي حين أن الزيادات في أسعار السلع الأساسية قد دعمت بعض الاقتصادات الناشئة والنامية، فإن العديد من أفقر بلدان العالم قد تخلفوا أكثر عن الركب، حيث كانوا يكافحون من أجل الحصول على اللقاحات اللازمة لفتح اقتصاداتهم. لا يزال أكثر من 95% من الأشخاص في الدول منخفضة الدخل غير محصنين من الفيروس، على عكس معدل التطعيم الذي يقارب 60% في البلدان الغنية.
في النهاية، حثّ الاقتصاديون في صندوق النقد الدولي الاقتصادات الكبرى على توفير السيولة الكافية وتخفيف عبء الديون للدول الفقيرة ذات الموارد المحدودة في مجال السياسة العامة. تقول السيدة جوبيناث: "لا يزال الاختلاف الخطير في الآفاق الاقتصادية عبر البلدان مصدر قلق كبير".
"اضطرابات سلاسل التوريد ستزداد سوءاً"
في السياق، يقول تقرير لشبكة CNN الأمريكية، إن كابوس سلاسل التوريد يرفع الأسعار للمستهلكين ويبطئ الانتعاش الاقتصادي العالمي. ولسوء الحظ تحذر مؤسسة موديز للأبحاث الاقتصادية من أن اضطرابات سلاسل التوريد "ستزداد سوءاً قبل أن تتحسن".
وحذّرت وكالة Moody's Analytics الأمريكية، في تقرير، يوم الإثنين 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021، من أن اضطرابات سلاسل التوريد باتت تظهر الآن في كل زاوية من العالم، وهي تهدد استمرار الانتعاش الاقتصادي العالمي الذي اكتسب القوة بعد انحسار الجائحة.
يقول التقرير إنه لعوامل عدة، سيتعطل الإنتاج العالمي لأن عمليات التسليم لا تتم في الوقت المناسب، وسترتفع التكاليف والأسعار على المنتجات المختلفة. وكتبت وكالة موديز في التقرير أن نمو الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم لن يكون قوياً نتيجة لذلك.
وقالت موديز إن "الحلقة الأضعف" قد تكون نقص سائقي الشاحنات، وهي مشكلة ساهمت في الازدحام في الموانئ، وتسببت في جفاف محطات الوقود في بريطانيا مؤخراً. ولسوء الحظ، حذّرت وكالة موديز من أن هناك "غيوماً مظلمة تغطي المستقبل الاقتصادي" لأن عدة عوامل تجعل التغلب على قيود العرض أمراً صعباً بشكل خاص.
وأبرز هذه العوامل هي الاختلافات في كيفية مكافحة الدول لكورونا، حيث تهدف الصين إلى عدم وجود حالات إصابة، في حين أن الولايات المتحدة "أكثر استعداداً للتعايش مع كوفيد كمرض متوطن". وكتب المحللون: "يمثل هذا تحدياً خطيراً لمواءمة القواعد واللوائح التي بموجبها يتحرك عمال النقل داخل وخارج الموانئ والمحاور حول العالم". بالإضافة إلى عدم وجود "جهد عالمي منسق لضمان التشغيل السلس لشبكة النقل اللوجستية العالمية".