ما إن أدى أعضاء الحكومة التونسية الجديدة، برئاسة نجلاء بودن رمضان، القَسم أمام رئيس الجمهورية قيس سعيّد، حتى تتالت المواقف وردود الأفعال على الحكومة الجديدة، التي ضمّت 25 وزيراً ووزيرة، من بينهم عشرة وزراء نساء، أي ما يقارب 40% من مجمل أعضائها.
وقد تباينت المواقف من الحكومة، حيث رحب بها بعض الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية كحزب حركة الشعب، والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي أجرى أمينه العام نور الدين الطبوبي اتصالاً هاتفياً مع رئيسة الحكومة الجديدة، ليهنئها ويُعلمها بأن الاتحاد سيتفاعل بإيجابية مع الحكومة الجديدة، إذا ما التزمت بتعهداتها القديمة.
كما رحّب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة رجال الأعمال) بالحكومة الجديدة، داعياً إياها للاشتغال على عدة ملفات، أهمها ملفات اقتصادية ، وخصوصاً الاستثمار والتنمية الجهوية.
أحزاب أخرى، من بينها حزب التيار الديمقراطي، رحبت بحذر بهذه الخطوة، فيما اعتبرته استتباعاً لمسار 25 يوليو/ تموز -الذي تصفه قوى سياسية بأنه انقلاب دستوري- لكنها كانت حذرة في العلاقة بالملفات التي ستطرحها الحكومة الجديدة اقتصادياً واجتماعياً لمكافحة الفساد.
هذا ولم تصدر مواقف معارضة للحكومة الجديدة من الأحزاب الكبرى الرافضة للتدابير الاستثنائية، خصوصاً حركة النهضة، لكن حملة "مواطنون ضد الانقلاب"، التي نظمت التظاهرات والتحركات الاحتجاجية في الآونة الأخيرة، تحدّثت على لسان أحد نشطائها، بأن هذه الحكومة غير شرعية، وسيتم مواجهتها كما يواجه الانقلاب.
ألغام في طريق الحكومة
وفي خضم هذه المواقف المختلفة من تشكيل حكومة رئيسة الوزراء نجلاء بودن رمضان، أصدر البنك الدولي تقريراً حول "إحصائيات الديون الدولية"، جاء فيه أن إجمالي الديون الخارجية لتونس ارتفع إلى ما قيمته 41.038 مليار دولار أمريكي خلال سنة 2020.
وهذا ما يعسّر من مهام الحكومة الجديدة، التي لا يكفي أنها لا تحظى بإجماع وطني على شرعيتها، ولكنها أيضاً تواجه صعوبات اقتصادية كبرى، أبرزها ارتفاع المديونية وعدم توفر سيولة مالية كافية لسداد أجور الموظفين الحكوميين، بسبب العجز في الميزانية، الذي قُدر بـ11.9 مليار دينار تونسي.
فما هي هوية الحكومة الجديدة؟ وكيف ستواجه كل هذه التحديات السياسية والاقتصادية؟ وهل ستنجح في تجاوز العقبات السياسية وتوسّع دائرة الدعم لبرنامجها، إن وُجد، أم أنها ستُسهم في مزيد من تعميق الانقسام السياسي الحاصل في البلاد، خصوصاً أن هامش صلاحياتها محدود حسب مرسوم القرار الرئاسي عدد 117.
نجاعة الحكومة الجديدة
إذا استثنينا وزير الداخلية الأسبق ومنسق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيد سنة 2019، توفيق شرف الدين، ووزير الشباب والرياضة المقال من حكومة هشام المشيشي، كمال دقيش، ووزير الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج عثمان الجرندي، الذي لم يتغير منذ حكومة هشام المشيشي، نجد أن أغلبية أعضاء الحكومة المكونة من 25 وزيراً من التكنوقراط والكفاءات (موظفين سامين، أكاديميين، مهندسين، قضاة…).
وهذه الحكومة الثالثة التي تضم وزراء تكنوقراط بعد حكومة رئيس الوزراء المهدي جمعة سنة 2014، التي تم تعيينها ساعتها لإدارة مرحلة صعبة جداً شهدت اغتيالات سياسية للزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وصياغة دستور الجمهورية التونسية الثانية سنة 2014، وحكومة التكنوقراط الثانية لرئيس الوزراء المعزول هشام المشيشي، التي لم تُكمل عهدتها بسبب تفعيل رئيس الجمهورية للفصل 80 من الدستور، ضمن قراءة قانونية خاصة له.
وقالت رئيسة الوزراء الجديدة، نجلاء بودن، في كلمتها بمناسبة تأدية الوزراء الجدد اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، إن "الحكومة ستعمل على تحقيق النجاعة، مع ضبط أدقّ لوظائف الوزارات والمؤسسات العمومية، وتطوير طرق عملها، من أجل وضع شؤون المواطن في صميم اهتماماتها، وتجسيد مبدأ المراقبة والمُساءلة والمحاسبة"، مضيفة أنها ستقوم "باختيار الكفاءات الأقدر على إدارة الشأن العام، وتنفيذ المشاريع والإصلاحات بمرونة وثبات، فضلاً عن التسريع في تنشيط الدورة الاقتصادية، وفتح مجال المبادرة لجميع الفئات والجهات، وتحسين عيش المواطن، وتوفير خدمات ذات جودة".
ويرى ملاحظون أن النجاعة السياسية لحكومة التكنوقراط أو الكفاءات ومدى قدرتها على إدارة الشأن العام، والمحافظة على مسافة واحدة من الفاعلين السياسيين في البلاد، في هذه الفترة الانتقالية، أمر صعب ومحير، خصوصاً أن هذه المرحلة سياسية بامتياز، بسبب انقسام الشارع التونسي بين مؤيد ومعارض لقرارات الرئيس قيس سعيد (انقلاب دستوري كما يسميه معارضو القرارات)، وهو ما يشترط في المسؤولين الحنكة السياسية والقدرة على التفاوض، لا فقط مع الأطراف الداخلية، ولكن كذلك مع المانحين الدوليين في علاقة بالقروض والمساعدات. وهو ما لا يتوفر في غالبية أعضاء الحكومة الجديدة، بسبب قصر عمر تجربتهم السياسية، وعدم خوضهم لتجارب حزبية وتنظيمية، ولا علاقات مفيدة لهم مع صناع القرار الدوليين، بحسب سيرهم الذاتية.
خلاصة ما سبق هو أن قدرة حكومة التكنوقراط أو الكفاءات على إدارة الشأن العام والحفاظ على مسافة واحدة من الأحزاب المنظمات المتصارعة والمنقسمة على نفسها تبدو مسألة نسبية جداً، في ظل وجود أرضية سياسية رخوة، وولاء كلي من نجلاء بودن رمضان، لرئيس الجمهورية، الذي يُعتبر جزءاً من الصراع الدائر حالياً على السلطة.
عامل استقرار أم تأزيم؟
العنصر النسائي، الحاضر بقوة داخل الحكومة الجديدة، اعتبره البعض عملية اتصالية ذكية من الرئيس قيس سعيد، ليُفند بها تصنيفه كمحافظ متشدد معارض للمساواة بين الرجل والمرأة، كما يصفه منتقدوه من الليبراليين والنسويات، ورسالة إيجابية للمجتمع الدولي بأن نظامه منفتح ويعطي مكانة معتبرة للمرأة.
إلا أن هذه الخطوة تعتبر الشجرة التي تُخفي غابة التحديات والصعوبات التي ستواجهها الحكومة الجديدة، فبالإضافة للأزمة الاقتصادية والمالية، هنالك وضع سياسي شائك محفوف بالمخاطر، يعترض السيدة بودن رمضان وفريقها الحكومي، لتنفيذ برنامج الرئيس السياسي وإدارة المرحلة الحالية، إلى أن تتم صياغة دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، وكذلك الشأن بالنسبة للقانون الانتخابي. وهو ما يعني التمهيد عملياً لحل البرلمان الحالي، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، خصوصاً إذا ما تحركت النيابة العمومية بخصوص العديد من النواب، الذين تعلقت بهم قضايا فساد أو جرائم انتخابية، أثارتها محكمة المحاسبات في تقريرها السنوي لسنة 2019، ما سيفرغ تقريباً نصف البرلمان المُجمد من أعضائه.
العديد من الأصوات من داخل حملة "معارضة الانقلاب" شككت في مشروعية الحكومة الجديدة، بما أنها لم تكن منتوجاً انتخابياً ولا علاقة لها بتمثيلية الأحزاب الممثلة في البرلمان المجمد.
وهذا ما يعني تجذر المعارضة لقرارات الرئيس قيس سعيد، سواء تلك التي اتخذها يوم 25 يوليو/تموز بتجميد البرلمان وحل حكومة هشام المشيشي، أو القرار الرئاسي عدد 117 في 22 أيلول،سبتمبر 2021، الذي يخول لرئيس الجمهورية الجمع بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، وتعيين رئيس حكومة ووزراء جدد، وفرض برنامجه السياسي على أجندة الحكومة الجديدة.
من جانبه، رأى الباحث والمفكر الإسلامي، صلاح الدين الجورشي، أن حكومة نجلاء بودن رمضان تواجه صعوبات أساسية وكبرى، أولها مسألة "الشرعية" التي ستعترض هذه الحكومة، في كل خطوة تخطوها على المستوى الداخلي والخارجي.
وأشار الجورشي في تصريحات إعلامية إلى أن المأزق الآخر الذي ستعلق فيه رئيسة الحكومة الجديدة هو محدودية الصلاحيات المخولة لها، وأنه لا هامش لها للتفاوض بدون استقلالية عن رئيس الجمهورية.
كما أن اتجاه رئيسة الحكومة الجديدة بودن رمضان نحو "الانفتاح على كل الأطراف"، مثلما جاء في خطابها الذي ألقته بمناسبة تأدية الوزراء الجدد اليمين الدستورية لن يكون أمراً سهلاً، ولا حتى متاحاً، في ظل الخطوط الحمراء التي وضعها الرئيس قيس سعيد على هذه المسالة بالذات، وخصوصاً في العلاقة بالحوار مع حركة النهضة، حزب الأغلبية نسبياً في البرلمان المجمد.
بل إن الرئيس قيس سعيد ذهب إلى أبعد من ذلك في مسألة الانفتاح على الأطراف المكونة للمشهد السياسي بتونس، عندما أعلن في خطابه الذي ألقاه بتاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عن قيام حوار وطني يضم الشباب والتونسيين دون أن يتحدث عن تشريك الأحزاب أو المنظمات الوطنية في الحوار، حتى تلك الموالية له من حزب حركة الشعب، أو الداعمة له كالاتحاد العام التونسي للشغل، صاحب المبادرة الأساسية للحوار الوطني.
وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الرئيس وحكومته ماضون في سياق تغيير سياسي منفرد، حتى وإن أبدت رئيسة حكومته رغبتها في الانفتاح على جميع الأطراف، وهو أمر يُنبئ بتقلبات سياسية قادمة، ربما تؤدي لمزيد من اشتعال الوضع السياسي بتونس، خصوصاً إذا ما ذهب سعيّد في اتجاه حل البرلمان، اعتماداً على القضاء الذي يرأسه بموجب القرار الرئاسي عدد 117، وغلق أبواب قرطاج والقصبة على أي نوع من الحوار مع الأحزاب السياسية والمكونات السياسية، سواء تلك المعارضة له أو الداعمة لسياساته.