تواجه سلاسل التوريد العالمية كابوساً بفعل وباء كورونا يتوقع البعض أن يزداد سوءاً، لكن بالنسبة لتركيا يمثل هذا الكابوس فرصةً هائلة مع توجيه شركات عالمية استثماراتها نحو أنقرة على حساب بكين.
وكشفت بداية تعافي النشاط الاقتصادي العالمي خلال الأشهر الأخيرة وعودة المصانع وخطوط الإنتاج في آسيا إلى الدوران بطاقتها شبه الكاملة عن "عنق زجاجة" يتمثل في التحديات التي تواجه سلاسل التوريد وعمليات الشحن.
وقال تقرير لوكالة موديز إن كابوس سلاسل التوريد، الذي تسبب في ارتفاع كبير في أسعار السلع بالنسبة للمستهلكين، على الأرجح سوف يزداد سوءاً في الفترة القادمة، وهو ما انعكس على ارتفاع التضخم وتخفيض توقعات النمو الاقتصادي للعام الجاري بصورة لافتة، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
ويمثل نقص رقائق الحاسبات والتكدس الهائل في الموانئ والنقص الحاد في سائقي الشاحنات تحديات ضاغطة على سلاسل التوريد العالمية، التي تواجه ظروفاً غير مسبوقة منذ تفشي وباء كورونا حول العالم قبل نحو عامين، وفرض إجراءات الإغلاق لمواجهته.
ماذا تعني مشاكل سلاسل التوريد؟
المقصود بسلاسل التوريد هو حركة البضائع من نقطة تصنيعها إلى نقطة عرضها للبيع للمستهلكين. وفي ظل وجود أغلب مصانع وخطوط الإنتاج في آسيا بشكل عام، والصين بشكل خاص (الصين تعرف بأنها مصنع العالم)، أدى توقف النشاط الاقتصادي بشكل كبير بفعل جائحة كورونا إلى تراجع كبير في الإنتاج بشكل عام.
لكن مع تطبيق الإجراءات الاحترازية وتوقف أغلب الأنشطة الاقتصادية، تراجع أيضاً الطلب على كثير من السلع وتراجع الاستهلاك بشكل عام، مقابل ارتفاع الطلب على منتجات بعينها مثل المطهرات الطبية والكمامات والحقن وغيرها من المستلزمات الطبية. وبشكل عام بدأت مشكلة سلاسل التوريد تطل برأسها مع تركيز الإنتاج بدرجة كبيرة في آسيا وارتفاع تكاليف الشحن، ناهيك طبعاً عن المشكلات السياسية المتزايدة مع ارتفاع حدة الصراع بين واشنطن وبكين.
ومع اكتشاف لقاحات كورونا أواخر العام الماضي وبدء حملات التطعيم، بدأ النشاط الاقتصادي يستعين عافيته شيئاً فشيئاً، وإن أعاق استدامة ذلك التعافي ظهور متحورات جديدة من الفيروس، أكثرها شراسة سلالة دلتا الهندية.
عادت المصانع وخطوط الإنتاج للدوران بقدرة شبه كاملة ومع التعايش مع الوباء وعودة الحياة إلى ما يشبه ما كانت عليه قبل الأزمة الصحية، ازداد الطلب على المنتجات، ولاح في الأفق مؤشرات على تعافي الاقتصاد العالمي بصورة سريعة، لكن كابوس سلاسل التوريد أطل برأسه مهدداً هذا التعافي.
وقال تقرير أصدرته وكالة موديز الإثنين 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إنه "بينما يواصل الاقتصاد العالمي تعافيه، الشيء الواضح جداً الآن هو أن هذا التعافي يتعرض لتحدٍّ كبير بفعل انقطاعات سلاسل التوريد التي بدأت تظهر في كل مكان".
سفن النقل العملاقة، التي تحمل عشرات الآلاف من الحاويات الضخمة، عالقة في المحيط الهادئ تنتظر دورها للرسو في ميناء لوس أنجلوس الأمريكي، بينما الميناء نفسه مكدس بالحاويات في ظل نقص كبير في سائقي الشاحنات التي تنقل تلك البضائع إلى مخازن المستوردين، ومن ثم يتم توزيعها على تجار التجزئة لتصل أخيراً إلى أيدي المستهلك.
هذا التأخير يتسبب في ارتفاع أسعار السلع بشكل كبير، وهو ما يتحمله المستهلك في نهاية المطاف وينتج عنه ارتفاع التضخم وتباطؤ التعافي الاقتصادي. والصورة في ميناء لوس أنجلوس تتكرر في جميع الموانئ حول العالم دون استثناء.
كيف تستفيد تركيا من ذلك الكابوس؟
وهنا ينطبق القول العربي الشهير "مصائب قوم عند قوم فوائد"، إذ تستفيد تركيا بصورة مباشرة من هذا الكابوس الذي تعاني منه سلاسل التوريد، ويرجع ذلك لعدة أسباب أبرزها الموقع الجغرافي والإمكانيات الإنتاجية والموارد الطبيعية في الدولة التي تربط بين قارتي أوروبا وآسيا.
ففي بداية أزمة كورونا الصحية، وجد العالم نفسه محروماً من منتجات الصين، عندما أغلقت الصين حدودها تماماً للتعامل مع الوباء الذي كانت بؤرته مدينة ووهان، وهو ما أثر بشكل كبير على سلاسل التوريد من الصين، في وقت ارتفع فيه الطلب على المنتجات الطبية بالأساس، وهنا وجدت أوروبا تحديداً، وغالية دول العالم بشكل عام، ضالتها في تركيا.
وشهد عام 2020 حصول 128 دولة على إمدادات طبية من تركيا، بعضها كان في صورة تبرعات والبعض في صورة تصاريح بالاستيراد أو صفقات شراء مباشرة، بحسب تقرير لصحيفة حريات التركية بعنوان "تركيا تسعى لاستبدال الصين كمورد رئيسي للمنتجات الطبية عالمياً".
وكان مجلس الأعمال التركي – الأمريكي قد وضع استراتيجية في منتصف 2020 تهدف إلى أن تصبح أنقرة بديلاً لبكين في سلسلة التوريد العالمية، وهي الخطة التي تبناها السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، وذلك على الرغم من الخلافات السياسية بين أنقرة وواشنطن، بحسب تقرير لموقع Paturkey.
لكن هذا لا يعني أن الجانب التركي يتبنى الطرح الأمريكي في معاداة الصين، فقد دشنت أنقرة وبكين خطاً للسكك الحديدية لنقل البضائع بين البلدين في ديسمبر/كانون الأول 2020، وهو ما يمثل فائدة كبرى للجانبين، خصوصاً لأنقرة، التي أصبحت نقطة وصل رئيسية في سلاسل التوريد العالمية يربط بين الصين من جهة وأوروبا والأمريكتين وإفريقيا أيضاً من جهة أخرى.
الاستثمارات تتدفق على تركيا
لكن استفادة تركيا لا تتوقف عند عملية إرسال واستقبال البضائع والمنتجات من وإلى الصين وأوروبا وباقي قارات العالم، فأنقرة تمتلك إمكانيات هائلة في مجال التصنيع وخطوط الإنتاج جعلتها قبلة للشركات العالمية، التي وجهت جانباً كبيراً من استثماراتها بالفعل إلى تركيا.
فتركيا تتمتع ببنية تحتية هائلة في قطاعات إنتاجية متعددة، كالأثاث والمنسوجات والأدوية والتعبئة والتغليف، وهو ما جعل شركات عالمية عاملة تلك القطاعات في توجيه استثماراتها في الإنتاج نحو أنقرة.
فمع بدء مرحلة الانتعاش الاقتصادي، أدت الانقطاعات التي أصابت سلاسل الإنتاج وخاصةً في البلدان الآسيوية، إلى نشوء عجز في مواجهة الطلب المتزايد. كما أدت الزيادة الهائلة في تكاليف النقل لمسافات طويلة إلى تحويل تركيا لمركز استثمار وإنتاج جاذب للعديد من الشركات العالمية الأجنبية، وخاصة الأوروبية الموردة من الدول الآسيوية مثل الصين، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وفي هذا الإطار، وجهت العديد من الشركات الأوروبية وعلى رأسها شركتا الأثاث السويدية الشهيرة "إيكيا"، والملابس الجاهزة "إل ب ب" ومقرها بولندا، مراكز إمداداتها إلى مناطق أقرب وأكثر استقراراً مثل تركيا. والأمر نفسه ينطبق على شركة الأدوية الألمانية "بورينغر إنغلهايم"، وشركة التعبئة والتغليف "دي دبليو روسابليس" الدولية ومقرها بلجيكا.
وخلال الأسابيع الماضية، أعلنت العديد من الشركات الدولية التي تتخذ من أوروبا مقراً لها، والعاملة في مجالات مثل الأثاث والأدوية والمنسوجات والتغليف، خططها الاستثمارية الجديدة في تركيا، التي تتمتع ببنية تحتية وفرص لوجستية قوية.
وأعلن كريم نيشل، نائب المدير العام، المدير المالي لـ "إيكيا" في تركيا، أن الشركة تخطط لشراء المزيد من المنتجات من تركيا وزيادة إنتاجها الحالي، وأضاف نيشل، لمراسل الأناضول، أن "إيكيا" ستقوم بتصنيع وتصدير الكراسي وخزائن الكتب والملابس والمطابخ ومستلزماتها في تركيا.
وبدورها، أعلنت "إل ب ب"، أنها تعمل على تحويل قسم من قدراتها الإنتاجية من آسيا إلى تركيا، بسبب قرب الأخيرة من أوروبا. وصرح مسؤولو "إل ب ب" أنهم عقدوا اجتماعات مع ممثلي صناعة النسيج التركية، وأنه رغم ارتفاع تكاليف الإنتاج إلا أنه في تركيا يبقى ذا فائدة أكبر من الناحية الاستثمارية وكذلك من حيث النقل وضمان استمرارية سلسلة التوريد.
كما كشفت شركة الأدوية الألمانية "بورينغر إنغلهايم"، عن عزمها إقامة استثمارات كبيرة في تركيا. وأفادت تقارير إعلامية بأن "بورينغر إنغلهايم"، بدأت مشروعاً لتوطين إنتاجها في تركيا، بالتعاون مع شركة "عبدي إبراهيم" المحلية للمنتجات الدوائية.
وأشارت إلى أن الشركة تعتزم تصنيع منتجات دوائية لأمراض السكري والجهاز العصبي المركزي وأمراض القلب والأوعية الدموية في تركيا، بالإضافة إلى إجراء مجموعة من الأبحاث السريرية والدراسات الدوائية.
وستستثمر الشركة الألمانية في تركيا مبدئياً ما قيمته 150 مليون ليرة (17 مليون دولار)، ومن المقرر أن يرتفع هذا المبلغ إلى مليار ليرة (113.63 مليون دولار) في المستقبل.
من جهتها، أعلنت شركة "دي دبليو روسابليس" الدولية للتغليف ومقرها بلجيكا، توجيه مجموعة من أنشطتها التجارية إلى تركيا. وبينما اشترت "دي دبليو روسابليس" شركتي "إيتاب إنجكسيون"، و"إيتاب دوغان" التركيتين لإنتاج الصناديق والمنصات والحاويات المستخدمة في أغراض التخزين والنقل، تخطط لتصدير جزء كبير من منتجاتها إلى تركيا.
وتحاول هذه الشركات، تجاوز ارتفاع أسعار الشحن عالمياً، واستغلال البيئة الاستثمارية الجاذبة في تركيا، لإعادة الاستقرار لصناعاتها وسلاسل إمداداتها إلى أوروبا وآسيا وإفريقيا، في تأكيد لمدى استفادة أنقرة من كابوس سلاسل التوريد الذي تعاني منه آسيا المنتجة وأوروبا وأمريكا المستهلكة.