تشهد تونس احتجاجات أسبوعية رافضة للإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد وانفرد من خلالها بالسلطات في البلاد، كما تخرج مظاهرات أخرى مؤيدة للرئيس، فإلى أي مدى قد يؤدي ذلك لتعميق الانقسام في الشارع؟
كان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية، بمعاونة حكومة قال إنه سيُعين رئيسها، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين.
ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى، وسط مؤشرات نحو اتجاه الرئيس إلى تعديل الدستور، وهو ما ألمح إليه سعيد نفسه، وأثار انتقادات ورفضاً من جانب بعض من أيدوا قرارات الرئيس الاستثنائية.
وبينما رفضت غالبية الأحزاب التّونسية قرارات سعيّد الاستثنائية، واعتبرها البعض "انقلاباً على الدستور"، كانت أحزاب أخرى قد أيدتها ورأت فيها "تصحيحاً للمسار"، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية (جائحة كورونا).
ماذا يعني تعيين أعضاء الحكومة؟
لكن مع مرور الوقت، بدأ الخلاف حول قرارات الرئيس ينعكس على الشارع التونسي؛ إذ انطلقت احتجاجات شعبية رافضة لما وصفوه "بالانقلاب"، وأخذت تلك الاحتجاجات صفة دورية أسبوعية، تقام الأحد، وارتفعت أعداد المشاركين فيها بصورة لافتة. وعلى الجانب الآخر، تواصلت أيضاً تجمعات مساندة للرئيس وقراراته، ليصل الخلاف حول الرئيس وقراراته إلى الشارع الذي يبدو منقسماً بصورة تقلق المراقبين.
وعلى الرغم من تعيين قيس سعيد نجلاء بودن كأول امرأة تتولى منصب رئيس الحكومة في دولة عربية، وتأدية أعضاء الحكومة اليمين الدستورية أمام الرئيس اليوم الاثنين 11 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن استمرار "الحراك" الرافض لانفراد الرئيس بالسلطة وتعامل سعيد معه يشير إلى أن العودة للمسار الديمقراطي في البلاد قد لا يكون قريباً؛ إذ يتوقع مراقبون أن سلطات بودن ووزرائها "ستكون محدودة" بناءً على التغييرات التي أقرّها الرئيس على السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ونشرت صحيفة The Independent البريطانية تقريراً حول الأوضاع في تونس بعنوان "احتجاج تونس يُظهِر خلافاً حول سيطرة الرئيس على السلطة"، رصد ما يعنيه الزخم المتصاعد في الشارع لانفراد الرئيس بالسلطة وما يصاحب ذلك من مؤشرات على ما يخشى مراقبون أن يكون عودة إلى "ديكتاتورية" الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
فأمس الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول، تجمَّع آلاف من المتظاهرين وسط العاصمة تونس للاحتجاج على انفراد الرئيس قيس سعيد بالسلطة مؤخراً، فيما يُسمِّيه منتقدوه "انقلاباً".
وتعكسُ الاحتجاجات خلافاً ظاهراً على نحوٍ متزايد في المجتمع التونسي حول إجراءات الرئيس. وكان حضور الشرطة مُعزَّزاً بصورة واضحة خلال التظاهرة، وأُبلِغَ عن اشتباكات هامشية حين حاول المحتجون تجاوز الحواجز التي وُضِعَت في شارع الحبيب بورقيبة. وأُدخِل صحفي تابع للتلفزيون الحكومي المستشفى بعد إصابته بالحجارة وزجاجات المياه التي ألقاها محتجون غاضبون.
وبحسب تقرير لرويترز، تثير الأعداد المتزايدة للمحتجين في الأسابيع الأخيرة مخاوف من أن تؤدي الأزمة السياسية إلى اضطرابات عنيفة وتحولها إلى مواجهات في الشوارع بين الطرفين، بعد أسبوع من تظاهر الآلاف تأييداً لسعيّد.
وقال المتظاهر ياسين بن عمر لرويترز: "لا نقبل بالانقلاب.. يكفي يعني يكفي"، ومنع انتشار الشرطة الكثيف المسيرة من التقدم في اتجاه وزارة الداخلية بشارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة، ولكن لم تقع أي اشتباكات رغم قيام بعض المتظاهرين بإلقاء زجاجات بلاستيكية.
وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني لرويترز: "نحن نتعامل مع كل المتظاهرين في كل الأسابيع بنفس المسافة وبحياد تام.. الأمن التونسي هو أمن جمهوري".
هل يساعد الرئيس على تعميق الانقسام؟
وثبُت أنَّ إجراءات سعيد تحظى بشعبية بين أولئك الذين ينظرون إليه باعتباره محارباً للفساد يواجه النخب السياسية المكروهة في البلاد، لكنَّ آخرين قلقون من أنَّ إجراءاته تشير إلى عودة إلى الاستبداد الذي ثار التونسيون ضده في 2011، وهو الأمر الذي أشعل ما عُرف لاحقاً باسم "الربيع العربي"، بحسب تحليل الصحيفة البريطانية.
وبدأ آلاف التونسيين في الأسابيع الأخيرة تنظيم تظاهرات مضادة عند نهاية كل أسبوع. وتألَّف الحشد أمس الأحد بالأساس من رجال ونساء في منتصف العمر، وقالت رجاء مصمودي، وهي معلمة شاركت في تظاهرة الأحد، لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية إنَّها لا ترغب في رؤية تونس تعود إلى الديكتاتورية.
وقالت: "المستقبل في تونس مخيف جداً بالنسبة لي. فنحن حالياً لا نعلم ماذا ستكون مؤسساتنا. فليس لدينا برلمان، وليس لدينا ديمقراطية في بلادنا".
وكُتِبَ على كثير من اللافتات: "أنقذوا ديمقراطيتنا"، "الشعب يريد إسقاط الرئيس". ورفعت سيدة لافتة كُتِبَ عليها: "هل رأيتم رئيساً يصف شعبه بالحشرات قط؟"، في إشارة إلى خطاب سعيد يوم السبت الماضي، والذي وصف فيه متظاهري الأحد بـ"الحشرات" و"الشياطين".
وقالت المتظاهرة ربحة إنَّها قلقة من خطاب سعيد المثير للانقسام، وأضافت أنَّ الرئيس يجب أن يشجع شعبه على الوحدة وليس قتال بعضه البعض. وصوتت ربحة لسعيد في انتخابات 2019، التي فاز فيها بفارق كبير، وتشعر الآن بالتعرض للخيانة.
وقالت: "عملتُ على إقناع الحي الذي أسكن فيه بالتصويت له.. وكنتُ أقول لهم: (يجب أن تصوتوا لسعيد، إنَّه نظيف اليد، إنَّه أفضل). ولا يمكنكم تصور ما فعلتُه من أجله، حتى إنَّي كنتُ أروِّج له ليلاً! وحين فاز أحضرتُ لجيراني كعكاً". ودعا المتظاهر محمد سهيل، وهو مهندس يبلغ 63 عاماً، إلى عصيان مدني شامل للتصدي لتركيز سعيد للسلطة.
وبعد أن دعا المانحون الغربيون الرئيس إلى إقامة حوار سياسي شامل لإنهاء فترة الأزمة، إلى جانب جدول زمني واضح، قال سعيد إنه سيطلق حواراً مع ممثلي الشعب والشباب التونسي، خاصة من المناطق الداخلية، بشأن المستقبل خلال اجتماع يوم السبت مع وزير الداخلية المؤقت رضا غرسلاوي.
ويرى مراقبون أنه من المرجح أن يؤدي أي حوار لا يضم الأحزاب السياسية الرئيسية أو غيرها من عناصر المجتمع المدني مثل الاتحاد العام للشغل إلى معارضة أشد لتحركات الرئيس.
وأشار سعيد بشكل صريح إلى تعبئة الشوارع لدعم موقفه وسط بطء المناورات السياسية حول مستقبل تونس. وعلى الرغم من أن صحفيين من رويترز ووكالة الأنباء الرسمية قالوا إن نحو ثمانية آلاف متظاهر احتشدوا الأسبوع الماضي في تونس دعماً لسعيد، قال الرئيس في اليوم التالي إن "1.8 مليون شخص خرجوا لدعمه".
اعتقالات بحق معارضين لسعيد
ويرى محللون ونشطاء أن الرئيس قيس سعيد يسير على طريق عانى منه التونسيون من قبل طوال حكم بن علي، وهو ما أدى إلى اندلاع الثورة بالأساس، ويدلل أصحاب هذا الرأي على تعرض بعض منتقدي الرئيس للاعتقال.
وكان عامر عياد، وهو مذيع بقناة الزيتونة، قد تعرض للاعتقال الأسبوع الماضي بعد انتقاده سعيد وإلقائه قصيدة مناهضة للديكتاتورية على الهواء. واتهمه تحقيق عسكري بـ"التآمر من أجل الاعتداء على أمن الدولة الداخلي" و"ارتكاب عمل موحش ضد رئيس الجمهورية"، إلى جانب اتهامات أخرى.
كما تعرَّضت قناة الزيتونة لمصادرة معداتها من جانب السلطات. وتقول الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في تونس إنَّ ذلك سببه عمل القناة بصورة غير رسمية دون ترخيص.
وقال جوهر بن مبارك، الناشط السياسي البارز وأحد منظمي الاحتجاجات ضد سعيد، لرويترز: "نحن ضد الانقلاب.. نرفض خطاب الانقسام"، وأضاف أنهم يجب أن يكونوا أوفياء "لشهداء ثورة 2011".
ودعا الاتحاد العام التونسي للطلبة إلى الإفراج عن أحد قياداته، وهو الطالب عثمان العريضي، بعد أن تم "اعتقاله" أمس الأحد، على هامش المسيرة الرافضة لقرارات الرئيس قيس سعيد.
وقال الاتحاد العام التونسي للطلبة، في بيان، إنه "تم اختطاف الطالب عثمان العريضي هذا اليوم (الأحد) أثناء انسحابه من المسيرة السلمية المناهضة للإجراءات التي قام بها رئيس الجمهورية". وأضاف أن "هذا الاعتقال جاء بعد تداول معطيات خاطئة من بعض الصفحات (الإلكترونية) مفادها محاولة طعن أمني".
وأعرب الاتحاد عن "تجريمه لهذا السلوك البوليسي القائم على اختطاف مواطن وتلفيق تهم واهية"، داعياً إلى "إخلاء سبيل العريضي وإسقاط التهم الكاذبة في حقه"، محملاً السلطات "مسؤولية سلامته الجسدية والنفسية".
وقالت إيمان الطريقي، محامية وناشطة، عبر صفحتها بـ"فيسبوك": "كنت متواجدة بالصدفة مع عضوي هيئة مكافحة التعذيب عندما شاهدت الشاب عثمان العريضي يتوجه لرئيس منطقة باب بحر (مركز شرطة) للتشكي من أعوان (عناصر أمن) بالزي المدني يلتقطون له صوراً ويحاولون التفرد به لاقتياده لجهة غير معلومة".
وأضافت: "فتكفل رئيس المنطقة (مركز الشرطة) باصطحابه لتلقي سماعه (أقواله) وهناك التحق مجموعة من الأعوان لاتهامه بالاعتداء عليهم"، وتابعت: "بعد الاتصال بالنيابة العمومية أحالت الملف لسماع جميع الأطراف في فرقة حرس (درك) بن عروس (منطقة)"، بحسب الأناضول.
وعلى الجانب الآخر، أدانت نقابة الصحفيين التونسيين اعتداءات قالت إن معارضي الرئيس قيس سعيد ارتكبوها بحق صحفيين ومصورين، أثناء تغطيتهم احتجاجات بالعاصمة تونس، بحسب تقرير للأناضول.
وقالت نقابة الصحفيين في بيان، إن "الصحفيين والمصورين تعرضوا إلى اعتداءات فظيعة من قبل معارضي قيس سعيد خلال تغطيتهم وقفة احتجاجية نظموها بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس".
وذكرت أن "المحتجين استهدفوا فريق التلفزة التونسية (للتلفزيون الرسمي) الذي تمركز فوق أحد الأكشاك (دكان صغير) لتغطية الأحداث بقوارير الماء والحجارة، بعد رفعهم شعارات ارحل في وجوههم". وأضاف البيان: "ندين هذا الاعتداء الفظيع والاعتداءات التي طالت أغلب الصحفيين والمصورين العاملين على تغطية الاحتجاجات في الشارع".
وبدورها، أدانت حركة النهضة الاعتداء الذي طال الفريق الصحفي للتلفزيون الرسمي، خلال تغطيته المسيرة المناهضة لإجراءات سعيّد. وقالت "النهضة" في بيان إن "الحريات لا تتجزأ وإن احترام الصحافة والصحفيين وحمايتهم مسألة مبدئية وأساسية في بناء المجتمع الديمقراطي".
وأضافت: "تبعاً لما تعرض له الفريق الصحفي للتلفزيون الرسمي من اعتداء بالعنف أثناء تغطيته للمسيرة المناهضة للانقلاب والمطالبة بالعودة إلى الدستور وحماية الحريات، فإن الحركة تدين بشدة الاعتداء".