مثلما كانت قارة إفريقيا ساحة للصراع بين القوى الأوروبية الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين، ولاحقاً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في النصف الثاني منه. أصبحت هذه القارة الموبوءة بقيادات لا همَّ لها سوى مصلحتهم الخاصة واستمرار بقائهم في الحكم، ساحة جديدة للتنافس بين أمريكا والصين وروسيا، بالإضافة إلى بعض اللاعبين الأصغر حجماً مثل تركيا ودول الخليج.
ومن وجهة نظر أمريكية، تنمو القارة السمراء بسرعة كبيرة بوصفها منطقة تركيز عسكري أمريكي كبير، إلى جانب الأنشطة الصينية والروسية المستمرة في المنطقة. إذ يقول الجنرال جيفري هاريغيان، قائد القوات الجوية الأمريكية في أوروبا وإفريقيا، للصحفيين في ندوة رابطة القوات الجوية لعام 2021: "بينما ننظر إلى إفريقيا، أود أن أوضح لكم أن أكبر قلق لدينا هو كيف نتنافس مع روسيا والصين. من منظور عسكري واقتصادي، يبحث الروس والصينيون عن فرص لتوسيع نفوذهم".
أمريكا في مواجهة تمدد النفوذ الصيني على حسابها
حول ذلك، تقول مجلة National Interest الأمريكية إن الصين على وجه الخصوص لا تعد مورداً رئيسياً للأسلحة في إفريقيا فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على توسيع نفوذها الاقتصادي والعسكري في المنطقة بسرعة. في السنوات الأخيرة، أنشأ الصينيون قاعدة عسكرية في جيبوتي على مقربة من الوجود الأمريكي هناك.
وفي مايو/أيار الماضي، حذرت واشنطن من تزايد نفوذ الصين في إفريقيا ما يهدد المصالح الأمريكية في المحيط الأطلنطي؛ إذ قال الجنرال ستيفن تاونسند، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"، إن بكين تتطلع إلى إنشاء ميناء بحري كبير قادر على استضافة غواصات أو حاملات طائرات على الساحل الغربي لإفريقيا، مضيفاً أن الصين تواصلت مؤخراً مع دول تمتد من موريتانيا إلى جنوب نامبيا، عازمة على تأسيس منشأة بحرية. وإذا حققت ذلك، فستتمكَّن الصين من مركزة سفن حربية في أسطول بحري ممتد عبر المحيط الأطلسي وكذلك المحيط الهادئ.
ويقول الجنرال تاونسند: "الصينيون يتفوقون على الولايات المتحدة في بلدان معينة في إفريقيا. وستؤدي مشروعات الموانئ والبنى التحتية والمساعي الاقتصادية واتفاقياتها وعقودها إلى توغل صيني أكبر في المستقبل. وهم يقدمون رهانات آمنة وكبيرة في إفريقيا".
وفي عام 2009، تجاوزت الصين الولايات المتحدة في موقع أكبر شريك تجاري لإفريقيا، وبحلول عام 2015، وصلت تجارة الصين مع إفريقيا إلى 300 مليار دولار، وفقاً لمقال من المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية بعنوان "السعي وراء حلم الصين عبر إفريقيا: خمسة عناصر لاستراتيجية الصين في إفريقيا".
ويقول المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية إن الكثير من طموحات الصين التي تركز على إفريقيا يمكن وصفها من منظور نوع معين من الإمبريالية الاقتصادية، بالنظر إلى النطاق الهائل للمشاركة الصينية في المنطقة بأشياء مثل النفط الخام والمواد الخام وواردات الموارد الطبيعية من المنطقة. كذلك تواصل الصين تنفيذ العديد من مشاريع البناء في 51 دولة إفريقية.
هل تراجعت أولوية إفريقيا لدى أمريكا؟
حالياً، يتولى حوالي 6500 جندي أمريكي متمركزين في إفريقيا عملية تدريب قوات الحلفاء المحلييين، وإجراء مجموعة من مهام مكافحة الإرهاب والسعي لتوسيع الأمن الأمريكي وسط حالة عدم الاستقرار والتهديدات الأمنية والتدخلات الأجنبية المحتمل أن تكون ضارة بالمصالح الأمريكية، كما تقول مجلة ناشونال إنترست.
لسنوات عديدة، كانت إفريقيا مكاناً رئيسياً للجهود الأمريكية المستمرة لمكافحة التمرد وعمليات مكافحة الإرهاب، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح من الواضح بشكل متزايد أن القارة الإفريقية هي مجال تركيز مهم ضروري لمنافسة القوى العظمى.
ويقول الجنرال جيفري هاريغيان إنه إلى جانب العديد من المطالب التشغيلية الأوروبية الملحّة، فإن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) والقوات الجوية لم تنسيا إفريقيا، وتحاولان "كشف تلك الأشياء الشائنة بطبيعتها وإعادة تأكيد التزامنا تجاه شركائنا الأفارقة"، وذلك حسبما قال المسؤول العسكري الأمريكي.
وبحسب المجلة الأمريكية، ربما ترسل الولايات المتحدة مقاتلات شبحية من طراز إف-35 إلى القارة الإفريقية لمهام الردع والتشغيل المشترك بين الدول الحليفة أو لغرض إضافة وجود "قوة عظمى" أكبر للوجود الأمريكي في القرن الإفريقي. وربما لا تكون هناك حاجة إلى وجود قوة برية كبيرة، بل يكفي زيادة المراقبة على ارتفاعات عالية أو زيادة دوريات فرقة عمل القاذفات أو أنواع أخرى من تدريبات الاستعداد لحرب القوى العظمى.
النفوذ الروسي في إفريقيا
خلال الحرب الباردة، أنفق الاتحاد السوفييتي مليارات الدولارات على مساعدات عسكرية لحلفائه الأفارقة، إلا أن انهيار الحكم الشيوعي في أوائل التسعينيات أجبر روسيا على التراجع عن دورها الواسع على الساحة العالمية.
لكن اليوم، تواجه أمريكا معضلة تمدد النفوذ الروسي في إفريقيا وإن كان أصغر حجماً من الصيني، فبعد ثلاثة عقود تقريباً من انهيار الإمبراطورية السوفييتية، يحمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عاتقه مهمةَ إعادة بناء نفوذ موسكو الدولي في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتعتمد الحملة، في جزء منها، على بناء تحالفات مع دول نامية خارج القنوات الرسمية، غالباً من خلال وكلاء مثل متعهدي شركات أمن خاصة وشركات تجارية ومستشارين.
ويتزامن النشاط الروسي في القارة مع تراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في تلك المناطق. وتتمثل مساعي روسيا لممارسة النفوذ السياسي في إفريقيا عبر شركات الأمن الخاصة مثل "فاغنر" التي بدأت تدور أحاديث عن انتشارها في مالي والساحل، وذلك بعد تدخلاتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى. وتحقق موسكو مساعيها كذلك عبر الشركات التي تسعى للوصول إلى موارد إفريقيا مثل النفط والذهب والماس، وفقاً لمسؤولين أوروبيين.
وحازت شركة روسية مؤخراً على عقدٍ للتنقيب عن الذهب في السودان، وذلك حيث يشرف متعهدون تابعون لها أيضاً على تدريب قوات سودانية، وفقاً لوزارة الخارجية الروسية ومسؤولي الأمن الأوروبيين.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، سافر 43 رئيساً إفريقياً إلى منتجع سوتشي الروسي لحضور قمة "روسيا إفريقيا" الأولى. وعقد القادة تشابكات مع شركات حكومية روسية عاملة في مجالات الدفاع والتنقيب عن الغاز والنفط، واشتروا ما قيمته 12.5 مليار دولار من السلع والمعدات الزراعية الروسية، وعقود المصافي والسكك الحديدية.