"قد يكون إيمانويل ماكرون هو أول رئيس في العصر الحديث ينكر وجود أمة أخرى"، والمفارقة أن هذا التصريح الصادم جاء من الرئيس الذي تعهد يوماً بمراجعة إرث فرنسا الاستعماري تجاه الجزائر بل جاء للرئاسة بأصوات الفرنسيين الجزائريين وغيرهم من المسلمين الفرنسيين، فما هو سر هذا التقلب الهائل في العلاقة بين ماكرون والجزائر؟
عندما كان إيمانويل ماكرون مرشحاً رئاسياً كان يغازل المسلمين في بلاده وفي مقدمتهم الفرنسيون ذوو الأصول الجزائرية، كما كان ينتقد التطرف العلماني ضد الإسلام في فرنسا.
الأمر الذي جعل الجزائريين يتوقعون منه أن يكون أول رئيس فرنسي يقدم اعتذاراً عن جرائم الاستعمار الفرنسي البشعة التي استمرت على مدار 132 عاماً.
ولكن بات الآن يحمل لقب الرجل الذي ينكر وجود أمة جزائرية، في انحدار غريب في العلاقة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والجزائر.
تطورات العلاقة بين ماكرون والجزائر والجزائريين
ماكرون المرشح اعتبر الاستعمار الفرنسي للجزائر جريمة ضد الإنسانية ثم زارها
في الحملة الانتخابية عام 2017، غازل ماكرون الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله إن "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية"، بما في ذلك الاستعمار الفرنسي للجزائر، مما سبب صدمة للكثيرين في فرنسا.
وزار ماكرون الجزائر عندما كان وزيراً للاقتصاد، وبعد ذلك وهو مرشح للرئاسة، وبصفة عامة فإن زيارات أي مرشح رئاسي لبلد غريب تحمل دلالة قوية.
في البدء كانت دعوته لتخفيف صرامة قواعد العلمانية
كانت تصريحاته تجاه المسلمين في أكتوبر/تشرين الأول 2016 هي الأبرز، حيث أثارت جدلاً كبيراً في فرنسا، عندما قال إن باريس ارتكبت أخطاء في بعض الأحيان باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل، مشيراً إلى أن البلد يمكن أن يكون أقل صرامة في تطبيق قواعده بشأن العلمانية.
كما قال ماكرون إن "الدولة ينبغي أن تكون محايدة تجاه الدين.. وهو ما يأتي في صلب العلمانية.. فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة"، بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة.
بل إنه أيد في ذلك الوقت البوركيني، وهو لباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات المتدينات.
ولكن اليوم انقلب ماكرون على مواقفه، حيث يسعى لمنع أحواض السباحة من أن تخصص أوقاتاً منفصلة للنساء المسلمات.
ماكرون حامل لواء الإسلام والمعتصم بأصوات المسلمين والجزائريين
حمل ماكرون، المرشح في 2017، "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"، بهدف استقطاب أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، التي تمثل 6% من أصوات الناخبين الفرنسيين، وكان من المتوقع أن يتقاسمها كل من مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلونشون (4%)، والمرشح الاشتراكي بونوا هامون (2%).
يرجح أن نسبة كبيرة من أصوات المسلمين ذهبت في الجولة الأولى لماكرون بعد أن قدم خطاباً بدا مشجعاً ناحية المسلمين، وفي الجولة الثانية حصل ماكرون على أصوات 92% من مسلمي فرنسا في الجولة الثانية، بعد أن دعا إمام مسجد باريس ذو الأصول الجزائرية إلى انتخاب ماكرون.
الانفتاح على المهاجرين قبل الانتخابات
وقبل هذه الانتخابات قال ماكرون إن "العالم اليوم أمام مرحلة تتسم بالهجرات الجماعية، وعلينا الاستعداد للمزيد من تلك الهجرات". وأثنى في زيارة له لبرلين على سياسة ميركل في التعامل مع ملف اللاجئين وسياسة الباب المفتوح، مشيراً في نفس الوقت إلى أن "الاتحاد الأوروبي لم يتعامل مع هذه الملف بالشكل المطلوب". حتى إن المرشحة اليمينية الفرنسية مارين لوبان هاجمت آنذاك منافسها إيمانويل ماكرون ووصفته بـ"مفوض العولمة الماجنة والهجرة الجماعية".
واليوم يفرض ماكرون عقوبات على الجزائر ضمن دولة مغاربية أخرى؛ لأنها ترفض استقبال المهاجرين الذين تريد فرنسا إعادتهم.
علماً أن فرنسا لم تستقبل أي هجرة كبيرة في ذروة هجرة اللاجئين من سوريا، وفي الوقت ذاته، لم تشهد البلاد ارتفاع معدل الجريمة، بما يمكن تحميل العرب والمسلمين مسؤوليته، كما شهدت تراجعاً محلوظاً في الأعمال الإرهابية.
زيارة تاريخية للجزائر
في ديسمبر/كانون الأول 2012، زار الرئيس الفرنسي الجزائر لمدة 15 ساعة، حيث تجول في شوارع العاصمة، وهو يلوح للمواطنين الجزائريين في شرفات منازلهم.
وأعلن في ختام الزيارة "أن الجزائر وباريس اتفقتا رسمياً على "إرجاع جماجم الشهداء الجزائريين وإنهاء القضية نهائياً".
كما دعا إلى "ضرورة الوصول لحل نهائي لقضية الذاكرة الذي ظلت لسنوات محور نقاش وخلاف بين البلدين".
الاعتذار عن الماضي الاستعماري للجزائر ولكن يوجه للفرنسيين فقط
نُظر إلى ماكرون على أنه يختلف عن أي رئيس فرنسي في الاعتراف بماضي بلاده الاستعماري خاصة في الجزائر.
ولقد اعتذر ماكرون بالفعل، ولكن ليس للجزائريين.
فلقد طلب الصفح من أرملة المناضل الشيوعي الفرنسي موريس أودانر الذي اختفى عام 1957 عن سن 25 عاماً، مؤكداً أن زوجها عُذب وقُتل من قبَل جنود فرنسيين بالجزائر لمجرّد أنه كان نشطاً في طلب استقلال هذا البلد.
وكانت خيوط مقتل موريس أودان، الذي كان يدرّس الرياضيات بجامعة الجزائر، قد بدأت تنكشف بعد عام واحد من اختفائه، عندما أكد المؤرخ الفرنسي بيير فيدال أن المناضل الشيوعي توّفي تحت التعذيب، محمّلاً المسؤولية المباشرة لمسؤول المخابرات الفرنسية بالجزائر بول أوساريس. هذا الأخير بَقي ينفي الاتهامات حتى بدأ الاعتراف في العقد الأخير من حياته (توفي عام 2013) بارتكابه جرائم تعذيب في الجزائر تحت غطاء رسمي، ومن ذلك تعذيب ثم قتل أودان بالسكين.
واعتبر ذلك اعترافاً من قبَل ماكرون هذه المرة باستخدام بلاده نظاماً للتعذيب خلال حرب الجزائر التي تُعرف كذلك بالثورة الجزائرية (1954-1962)، كان من ضحاياه جزائريون وفرنسيون.
لم تُخفِ الحكومة الجزائرية ارتياحها لتصريحات ماكرون، مُعتبرة إياها خطوة إيجابية يجب تثمينها.
غير أن الباحث في التاريخ الجزائري خميلي عكروت، يحمل رأياً آخر؛ إذ يقول لموقع دويتش فيليه DW الألماني: "في تصوري أن ماكرون استخدم قضية أودان حتى يجعل منها شجرة تخفي كل الجرائم التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين".
ويضيف أن "الدولة الفرنسية رفضت الاعتراف بالمسؤولية في مقتل أودان طوال عقود؛ لأنها كانت تخشى المتابعة"، والآن "بعدما تقادمت القضية، جاء هذا الاعتذار الاستعراضي".
اعتراف بمقتل زعيم جزائري دون اعتذار
في مارس/آذار 2021، أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعترف بأن "الزعيم الوطني الجزائري"، المحامي علي بومنجل "تعرض للتعذيب والقتل" على يد الجيش الفرنسي خلال الحرب الجزائرية في عام 1957، ولم ينتحر كما حاولت باريس الترويج له للتغطية على الجريمة في حينه.
وقالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون أدلى بنفسه بهذا الاعتراف "باسم فرنسا" وأمام أحفاد بومنجل الذين استقبلهم، وذلك في إطار مبادرات أوصى بها المؤرخ بنيامين ستورا في تقريره حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر التي وضعت أوزارها في عام 1962، وما زالت حلقة مؤلمة للغاية في ذاكرة عائلات ملايين الفرنسيين والجزائريين.
وفي عام 2018، أقرّ المجلس الدستوري الفرنسي بداية 2018 قانوناً بتوسيع دائرة تعويضات حرب الجزائر لتشمل جميع الضحايا بعدما كانت محصورة على الفرنسيين.
إعادة جماجم شهداء الجزائر
في نهاية عام 2017 عبَّر الرئيس الفرنسي عن استعداد بلاده لإرجاع جماجم موجودة في متحف باريسي، تعود لمقاومين جزائريين قُتلوا بداية احتلال بلادهم، وهو تصريح جاء بعد استقبال باريس للمرة الأولى في تاريخها وزيراً للمجاهدين (المقاومين) الجزائريين.
وفي مطلع يوليو/تموز 2020، عشية الذكرى الثامنة والخمسين لاستقلالها، استعادت الجزائر التي استعمرتها فرنسا 132 عاماً، رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية قتلوا في السنوات الأولى للاستعمار، وكانت محفوظة منذ عقود في متحف الإنسان في باريس.
تقرير لجنة ستورا مخيب للآمال
بدا أن تكليف ماكرون للمؤرخ بنيامين ستورا بتقييم علاقة فرنسا بذكرى استعمار الجزائر وحرب الاستقلال، العمل الأكثر جدية في محاولات معالجة إرث فرنسا الاستعماري وعلاقتها بالجزائر.
ولكن جاءت تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إزاء ماضي فرنسا الاستعماري مخيبة للتوقعات، وعند مقارنة ما فعلته فرنسا التي تقدم نفسها بلد الحريات والتنوير في هذا الملف وبين تجربة جنوب إفريقيا، يبدو الأمر محرجاً للغاية لباريس.
وبدت أن مبادرة ماكرون لم تحقق غرضها، إذ وجهت اتهامات لستورا من قِبَل الجزائريين برفضه "اعتذار" فرنسا عن 132 سنة من الاستعمار للجزائر، وهو ما نفاه المؤرخ الشهير.
ففي نفس يوم تسلم تقرير ستورا، عادت مساعي التسوية في ملف الذاكرة التاريخية بين الجزائر وفرنسا إلى نقطة الصفر، بعد أن صدر بيان للرئاسة الفرنسية، في 20 يناير/كانون الثاني 2021، استبعد اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر ورفضها مبدأ الاعتذار.
كما أعربت الجزائر عن رفضها للتقرير ووصفته بأنه "غير موضوعي" منتقدة عدم "اعتراف فرنسا رسميا بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها خلال احتلالها للجزائر"، وفق ما جاء على لسان وزير الاتصال عمار بلحيمر عقب صدور التقرير.
وفي تقريره، أشار ستورا إلى أن "المبالغات في ثقافة الاعتذار" لا تساعد بالضرورة في مواجهة الماضي.
وقال: "لا أعرف ما إذا كان خطاب الاعتذار الرسمي كافياً ليضمد جراح الذكريات المؤلمة. في رأيي، الأهم هو تحسين المعرفة بما كان عليه النظام الاستعماري، بواقعه اليومي وأهدافه الأيديولوجية وكيف قاوم البعض في الجزائر وفرنسا نظام الهيمنة هذا".
ومن أبرز ما أوصى به ستورا في تقريره المكون من 150 صفحة، "تشكيل لجنة تسمى الذاكرة والحقيقة، وتُوثق شهادات الناجين من حرب الاستقلال الجزائرية، وذلك بتنسيق بين باحثين فرنسيين وجزائريين".
كما أوصى التقرير بـ"ضرورة زيادة التعاون بين فرنسا والجزائر، وأن يتمكن الجزائريون الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا (يعرفون باسم الحركى) خلال حرب الاستقلال الجزائرية، من التنقل بسهولة بين البلدين، وتيسير منحهم التأشيرات".
الأرشيف السري للاستعمار.. ملف معقد يوتّر علاقات الجزائر وفرنسا
تصرّ الجزائر على فتح واستعادة الأرشيف السري الذي يخصّ فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد، وهو الأرشيف الذي تحتفظ به باريس منذ عقود. وسبق أن قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن "فتح الأرشيف جزء لا يتجزأ من الذاكرة الوطنية".
غير أن الجزائر تجابه برود فرنسا رغم جهود "المصالحة الوطنية"، خصوصا أن فتح الأرشيف قد يكون بوابة لكشف حقائق مثيرة للجدل، حسب موقع دويتش فيله الألماني.
وليس هذا الأرشيف سوى جزءٍ من ملف الذاكرة المعقد بين الجزائر وفرنسا، إذ تطالب الجزائر باريس بتسوية قضايا مهمة منها قضية المفقودين الجزائريين في حرب الاستقلال، وكذلك التعويض عن الأضرار التي خلفتها التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، واستكمال استرجاع رفات قادة المقاومة الشعبية.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد سمح برفع السرية عن أرشيف لفائدة الباحثين الجامعيين، كان مشمولاً بقانون سرية الدفاع الوطني حتى عام 1970، وضمنه وثائق ومستندات فرنسية حول حرب التحرير الجزائرية التي أفضت إلى إنهاء الاستعمار الفرنسي. غير أن عدداً من الباحثين الجامعيين قالوا إن الخطوة لم تسهل كثيراً من عملهم وإن الاطلاع على الوثائق لا يزال صعباً للغاية.
كما أن الجزائر ترى أن هذه الخطوة غير كافية، وترى أن الأرشيف لا يخصّ فقط ما يتعلق بالأجهزة الفرنسية، بل كذلك يخص "أرشيفاً جزائرياً خالصاً تم الاستيلاء عليه" من قِبَل السلطات الفرنسية.
وتكرّر الاتهام مع تصريح تبون مؤخراً بأن هناك أرشيفاً "يخص الدولة العثمانية وجدته فرنسا بالجزائر وأخذته".
وتقول صحيفة "لوموند" إن فرنسا، غداة مغادرتها الجزائر، حوّلت ما يصل إلى 10 كيلومترات من الأرشيف الذي أخذته من الجزائر إلى خدمة أرشيفات ما وراء البحار التابعة لمؤسسة أرشيف فرنسا.
تجاهل العنصرية واستهداف الجزائريين وغيرهم من المسلمين
في أكتوبر/تشرين الأول 2020: في ذروة حملة ماكرون على ما يسميه الانفصالية الإسلامية، تعرضت سيدتان محجبتان من أصل جزائري لاعتداء، حيث تم طعنهما بسلاح أبيض أسفل برج إيفل بباريس، ولم يلق الأمر اهتماماً من الرئيس الفرنسي.
بل الأغرب أن القوانين التي مررها ماكرون ضد المسلمين، كان من بينها حظر أكبر منظمة إسلامية معادية للإسلاموفوبيا في فرنسا، بل أصبح الحديث عن وجود إسلاموفوبيا في فرنسا محظوراً.
اعتراف لا اعتذار
بعد أن توقع الجزائريون أن يكون ماكرون هو الرئيس الفرنسي الذي يعتذر عن جرائم باريس في بلادهم، خيَّب الرجل آمالهم.
إذ تركز خطوات الرئيس الفرنسي على اعتراف بأخطاء الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، لكنه لا يفكر في تقديم اعتذار رسمي، حسب ما قال مكتبه في مطلع 2021.
وسبق أن قال خلال جولة إفريقية: لا إنكار للاستعمار ولا توبة.
فالطبقة السياسية الفرنسية، بما فيها الرئيس ماكرون، تحمل شبه إجماع على رفض الاعتذار للجزائر، لأسباب يعددها المراقبون بين ما هو سياسي وما هو مادي.
وعلى عكس ما يشاع فقط كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، له موقف أكثر تقدمية من مواقف ماكرون تجاه الجزائر، حيث اعترف بوجود آلام خلال فترة الاستعمار.
وتحاول الإدارة الفرنسية طيّ الصفحة بدعوة الجزائريين إلى التطلع للأمام والكف عن التركيز على الماضي، في وقت يؤكد فيه الجزائريون أنهم لن ينسوا جرح مليون ونصف مليون شهيد، سقطوا في مجازر جماعية ارتُكبت كما جرى عام 1945 وإبان الثورة الجزائرية.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قال، العام الماضي، إن بلاده تنتظر اعتذاراً رسمياً عن الاحتلال الاستعماري الفرنسي.
الإشادة بتضحيات الحركي بعد الإساءة للإسلام
الانقلاب في العلاقة بين ماكرون والجزائر أو بالأحرى موقف ماكرون تجاه الجزائر، سبقه انقلاب في علاقته مع مجمل المسلمين.
فالرجل الذي جاء بأصوات المسلمين الفرنسيين، صدم مسلمي العالم جميعاً، حينما قال بلهجة تخلو من أي لياقة: "إن الإسلام دين في أزمة"، وصدر عنه تصريحات فهم منها تأييده لإعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول.
ويبدو أن ماكرون قد وجد أن هذا التوجه يقوي موقفه قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي يتوقع أن يواجه فيها المرشحة اليمينية المتطرفة ماريان لوبان وخاصة بعد فشل محاولاته الإصلاحية الداخلية أمام حركة السترات الصفراء، وبعد أن وجد رد فعل ضعيفاً من قِبَل أغلب الدول الإسلامية باستثناء تركيا وباكستان ضد إساءته للإسلام، قرر الانتقال لمرحلة أكثر خطورة من خطته الشعبوية، بدأها بفرض عقوبات على تأشيرات المواطنين القادمين من دول المغرب العربي.
وها هو ينتقل إلى إهانة الجزائريين بشكل فج، حينما ينكر وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
ولكن يمكن تقصي جذور الاشتباك الحالي بين ماكرون والجزائر، عندما طلب ماكرون، الصفح من الحركيين الجزائريين الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي، الذي عانوا من معاملة سيئة بعد فرارهم من الجزائر بعد استقلالها إلى فرنسا.
أي أن ماكرون يعتذر للجزائريين الذين خانوا بلادهم عن سوء معاملة باريس لهم بعد نهاية الاستعمار، بينما يرفض الاعتذار للشعب الجزائري الذي مارست باريس بحقه جرائم إبادة على مدار 130 عاماً.
إنه نموذج فج لازدواجية المعايير، يشبه تماماً إلزام فرنسا وبقية الدول الأوروبية لألمانيا بالتبرؤ من ماضيها النازي ودفع تعويضات عنه، بينما ترفض باريس أن تفعل ذلك عن استعمارها للجزائر، علماً بأن جرائم فرنسا في الجزائر هي أضعاف جرائم النازي في فرنسا.
وأخيراً وصلت علاقة ماكرون والجزائر إلى أدنى مستوياتها بالتصريح الصادم الذي أنكر فيه الرئيس الفرنسي فيه وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
لماذا تغيرت مواقفه؟
والسؤال الذي تثيره تقلبات العلاقة بين ماكرون والجزائر: ما الذي تغير بين مغازلة ماكرون المرشح للجزائريين في شوارع مارسيليا وتحيته لهم في شرفات المنازل في شوارع الجزائر العاصمة؟ علماً أنه من ناحية الجزائر لم يكن هناك أي مبادرات سلبية خلال تلك الفترة.
يبدو الأمر خليطاً من طابع شخصي لماكرون يميل إلى اختلاق معارك وهمية، وفي الوقت ذاته حاجته الماسة حالياً للبحث عن نصر رخيص يشغل به الفرنسيين عن كارثة فقدان عشرات المليارات من الدولارات جراء إلغاء أستراليا المهين لصفقة الغواصات الفرنسية لصالح بدائل بريطانية وأمريكية عاملة بالطاقة النووية.
وليس أسهل من إشعال المشاعر الفرنسية العنصرية تجاه كل ما هو عربي ومسلم، وخاصة الجزائريين الذين يمثلون أكبر جالية عربية مسلمة في فرنسا، والأهم البلد الذي انتهت الإمبراطورية الفرنسية على يديه، لكسب حفنة من أصوات الفرنسيين المتطرفين على غرار ما فعله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت عام 2016.