كان أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد ينادي دائماً بضرورة الالتزام بالدستور قبل أن يرسل دباباته لإغلاق أبواب البرلمان. قد يبدو هذا تناقضاً، لكن التناقضات في سياسات قيس سعيد وخطاباته ساعدت في دفعه إلى القصر الرئاسي في عام 2019.
لقد كان شعبوياً بأسلوب أرستقراطي، يدعي الديمقراطية بطريقته الخاصة، منتقداً بقوة الأحزاب السياسية والانتخابات البرلمانية، حسبما ورد في تقرير لمجلة Economist البريطانية.
ولقد أطلق عليه البعض لقب "الرجل الآلي" بسبب سلوكه وآرائه المحافظة. بينما يشبهه البعض الآخر برجل الدولة والمحامي الفرنسي الشهير "روبسبير" الذي اعتقل عدداً كبيراً من الخصوم السياسيين، وفقاً للمجلة البريطانية.
وفي 22 سبتمبر/أيلول 2021، أعلن سعيد تعليق أحكام الدستور وأنه سيحكم البلاد بموجب مرسوم. هذا الأمر قنن عملية انتزاع السلطة التي بدأها سعيد في يوليو/تموز 2021، عندما أعلن عن استخدام سلطات الطوارئ بموجب الدستور.
على الجانب الآخر، تعرضت تصرفات الرئيس قيس سعيد لانتقادات من جانب تونسيين بارزين وبعض الحكومات الغربية. وقال الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يتمتع بنفوذ قوي في البلاد، إن المرسوم الذي أصدره سعيد يمثل "تهديداً للديمقراطية"، واندلعت على إثره احتجاجات صغيرة في العاصمة تونس.
وما زال مجلس النواب التونسي مجمداً، وقد جُرّد أعضاؤه من الحصانة والرواتب والامتيازات الأخرى، واعتقلت الشرطة عدداً من النواب آخرهم يوم الأحد النائب عبد اللطيف العلوي وعلى مذيع تلفزيوني، بحسب محاميهما.
وقال المحامي سمير بن عمر، إن القضاء العسكري أمر بإلقاء القبض عليهما بتهمة "التآمر على أمن الدولة وإهانة الجيش" بعد بث برنامج على قناة "الزيتونة" التلفزيونية الموالية لحركة النهضة.
لكن التهديد الأكبر ربما يأتي من عدم التوافق بين أفعال سعيد وتطلعات الشعب، وحقيقة أنه يكرر أخطاء المشرعين الذين اغتصب سلطاتهم، حسب المجلة البريطانية.
إنه الاقتصاد يا قيس
ففي عامي 2018 و2019، طلب استطلاع الباروميتر العربي من مواطني 12 دولة عربية تسمية السمة الرئيسية للديمقراطية. ذكر التونسيون، أكثر من أي مجموعة أخرى، الاقتصاد: 55% قالوا إن الحكومة الديمقراطية هي حكومة "تضمن فرص العمل للجميع"، في حين ذكر 10% فقط من التونسيين أن الانتخابات الحرة والنزيهة هي السمة الرئيسية للديمقراطية.
ليس من المستغرب إذاً أن العديد من التونسيين أيدوا أفعال سعيد في يوليو/تموز 2021 أو تحملوا ذلك. لقد فشل النظام الديمقراطي الذي أقيم بعد ثورة 2011 في توفير فرص العمل. ومنذ عام 2012، كان النمو الاقتصادي أقل من 3%. وفي العام الماضي، ونتيجة جائحة فيروس كورونا، انكمش الاقتصاد بنسبة 8% وارتفع معدل البطالة رسمياً إلى 18%، وأسهم ضعف الدينار التونسي في ارتفاع التضخم (حالياً 6.2%).
أولى نتائج سياسات قيس سعيد الاقتصادية.. تراجع السندات ووقف مفاوضات صندوق النقد
لكن أكثر المشاكل إلحاحاً التي تواجه الرئيس سعيد هي الفوضى المالية في تونس. لقد قفز الدين العام من 39% في عام 2010 إلى 88% من الناتج المحلي الإجمالي. وخسر الدينار خلال نفس المدة نصف قيمته. وتبدو البلاد عالقة في فخ الديون، حيث يبلغ إجمالي عجز الميزانية 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ مدفوعات خدمة الديون السنوية من 7 إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي مايو/آيار 2021، بدأت الحكومة محادثات مع صندوق النقد الدولي. في مقابل تقديم حزمة مالية قدرها 4 مليارات دولار (10% من الناتج المحلي الإجمالي) لتونس، عرض الصندوق على الحكومة التونسية خفض الأجور العامة والتخلص التدريجي من دعم الغذاء والوقود.
وتأمل الحكومة في إبرام صفقة قبل إصدار السندات المزمع في أكتوبر/تشرين الأول. لكن سعيد أوقف المفاوضات؛ نتيجة لذلك انخفض سعر السندات التونسية.
جدير بالذكر أن الحكومات السابقة لم تهتم بمثل هذه المشاكل. فمنذ الثورة، أخذت السياسة شكلاً من أشكال الصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانيين. فيما يتعلق بالاقتصاد، لم يكن للأحزاب أي دور يذكر في تحسين الاقتصاد. وكانت أي محاولة لخفض الإعانات أو رواتب الدولة تواجه معارضة شرسة من الاتحاد التونسي للشغل، ولم تنفع أنصاف الإجراءات.
ومع ذلك، بعد شهرين من توليه السلطة، لم يعلن سعيد سوى عن القليل من البرامج الاقتصادية، باستثناء الخطط غير المكتملة لمكافحة الفساد واستخدام العائدات لتمويل التنمية. تتمثل استراتيجيته لخفض التضخم في مطالبة الشركات بتقديم خصومات. وفي التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2021، وبعد شهرين من التأخير، عيَّن قيس سعيد رئيسة الوزراء نجلاء بودن رمضان، وهي أول امرأة تشغل هذا المنصب، وهي أيضاً أستاذة جيوفيزياء غير معروفة، ومن غير الواضح مدى السلطة التي ستمارسها.
في الواقع، ليس هناك الكثير من الوضوح بشأن خطط سعيد. لقد تحدث من قبل عن رؤيته للديمقراطية، إذ يختار الناخبون مرشحين غير حزبيين للمجالس المحلية وكذلك إجراء انتخابات غير مباشرة للمناصب العليا. حسب رؤيته، سيؤدي هذا إلى اختيار المشرعين على أساس الجدارة بدلاً من الانتماء الحزبي أو الأيديولوجي. وكانت طبيعته المركزية واحدة من المشاكل العديدة مع النظام القديم. فكان يُنظر إلى الحكومات المحلية، التي يجب أن تؤدي دوراً كبيراً في السياسة الاقتصادية، على أنها مصدر للوظائف الممتازة للموالين للحكم.
وقال مكتب سعيد إنه سيتولى مسؤولية صياغة الإصلاحات السياسية والتعديلات الدستورية بمساعدة لجنة سيعيِّنها.
وأثار هذا البند على وجه الخصوص قلق الاتحاد العمالي للشغل.
وجاء في بيان الاتحاد: "تعديل الدستور وقانون الانتخاب مسألة تهم جميع مكونات المجتمع". وطالب سعيد ببدء محادثات بدلاً من احتكار سلطة تغيير الدستور.
أكاديمي بلا خبرة يشيِّد نظاماً شديد المركزية
لكن تغيير النظام سيكون عملية طويلة ومثيرة للجدل، في بلد يواجه أزمة وشيكة. فما هو موجود اليوم، بعد المراسيم التي أصدرها سعيد، هو نظام شديد المركزية يقوده أكاديمي ليس لديه الخبرة ولا الميل لحل مشاكل تونس الاقتصادية، حسب الصحيفة البريطانية.
لقد استولت الحكومة على كل السلطات: حتى الأمور التافهة تتطلب الآن موافقة القصر الرئاسي، وفقاً لـ"Economist".
إن منتقدي الديمقراطية الفتية في تونس مغرمون بالإشارة إلى أنها أنتجت عشر حكومات في عشر سنوات، ولم تكن أي منها فعالة. هذا صحيح بما فيه الكفاية، لكن يجدر بنا أن نتذكر أن نظام الحكم الذي كان سائداً قبل اندلاع الثورة التونسية – حكم الرجل الواحد لمدة 23 عاماً- لم يكن ناجحاً أيضاً.
تعاني البلاد من ارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستويات المعيشة وانتشار الفقر الذي يدفع آلاف التونسيين إلى المخاطرة بالهجرة عبر البحر المتوسط إلى أوروبا كل عام.
وواصلت الأسعار ارتفاعها بعد انفراد سعيد بالسلطة، حسبما ورد في تقرير لوكالة "Reuters".
تقول مونيكا ماركس، أستاذة سياسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك أبو ظبي التي تدرس تونس: "الجدار الذي يندفع قيس نحوه وقد يرتطم به هو الاقتصاد. والتوقعات مرتفعة للغاية".
وأضافت: "ولا شك أنه ستنشأ فجوة كبيرة بين التوقعات الشعبوية، التي هي أعلى من أي وقت مضى، وحقيقة ما يمكن أن يقدمه قيس بالفعل".
الخزانة خاوية
وقال معهد الإحصاء الحكومي إن البطالة وصلت إلى 17.8%، وتفاقم العجز المالي إلى أكثر من 11% في 2020. وانكمش الاقتصاد بنسبة 8.2% العام الماضي، بينما نما الدين العام إلى 87% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
لا يرى كل من نقابة العمال ذات النفوذ والمقرضون الأجانب سوى القليل من الخيارات في استئناف عملية صندوق النقد الدولي.
بينما تحتاج تونس نحو أربعة مليارات دينار شهرياً لدفع الأجور وتسديد الديون، فإن خزانة الدولة لديها 544 مليون دينار فقط، بحسب بيانات البنك المركزي الصادرة يوم الإثنين الماضي.
وسددت تونس أكثر من مليار دولار من الديون هذا الصيف من احتياطيات العملات الأجنبية، لكن يجب أن تجد حوالي 5 مليارات دولار أخرى لتمويل عجز الميزانية المتوقع والمزيد من سداد القروض.
هل تتجه تونس إلى مصير لبنان؟
الأزمة السياسية الآن وغياب أي برنامج ورؤية اقتصادية واضحة يسرّعان الانهيار الكامل، حسب تقرير رويترز.
وقال المحلل الاقتصادي معز جودي إن الوضع حرج للغاية في الاقتصاد والمالية العامة على وجه الخصوص، "نحن على وشك الانهيار منذ شهور".
وتوقع أن تركيز سعيّد على السياسة يمكن أن يحوّل تونس إلى لبنان آخر يعيش في خضم أزمة مالية وصفها البنك الدولي بأنها من أعمق الانكماشات في التاريخ الحديث.
لقد دفع ثلاثة أرباع سكان لبنان إلى براثن الفقر وفقدت عملته المحلية 90% من قيمتها في العامين الماضيين.