الخزانة خاوية، ولا أموال للرواتب في الأشهر القادمة، بات هذا حال تونس بعد عدة أشهر من تجميد الرئيس التونسي قيس سعيد للبرلمان وإقالته رئيس الوزراء، ووصلت الأزمة الاقتصادية التونسية إلى منعطف خطير يُخشى أن ينتهي بإفلاس البلاد، كما حدث مع لبنان.
وخلال الشهرين الماضيين، حاز الرئيس التونسي قيس سعيد دعماً شعبياً واسع النطاق لقراراته التي تزيد من سلطاته، والتي بلغت ذروتها بإعلانه مؤخراً أنه سيحكم البلاد بالمراسيم الرئاسية. لكنه بدأ يواجه الآن معارضة متنامية زادت من حالة الضبابية المحيطة بأخطر أزمة سياسية شهدتها تونس منذ عشر سنوات في الوقت الذي تتسارع فيه خطى الاقتصاد التونسي نحو الانهيار، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
موالون للرئيس ينقبلون عليه
تأتي هذه الانتقادات من معارضين شرسين وحلفاء سابقين على السواء، ومن أحزاب سياسية ووسائل إعلامية، بل من بعض المؤيدين أنفسهم الذين هتفوا في الشوارع مرحبين حين جمَّد سعيد البرلمان، وأقال رئيس الوزراء واستولى على السلطة في 25 يوليو/تموز.
ويوم الأحد 26 سبتمبر/أيلول، طالب ما لا يقل عن 2000 متظاهر في العاصمة تونس سعيد بإنهاء ما وصفوه بـ"انقلابه"، وكانت هذه التظاهرة أول احتجاج كبير على قراراته خلال شهرين.
وجاء في بيان مشترك من أربعة أحزاب سياسية، أحدها كان مقرباً في السابق من الرئيس، أن سعيد يسلك طريق الديكتاتورية وطالبوه بإنهاء "إجراءاته الاستثنائية" التي كان قد أكد أنها مؤقتة.
وقال الاتحاد العمالي العام التونسي للشغل، المعروف بنفوذه القوي، في بيان يوم الجمعة 24 سبتمبر/أيلول: "نعتبر الرئيس فاقداً للشرعية بانتهاكه الدستور"، وحذر سعيد من تركيز سلطات أكثر من اللازم في يديه دون حوار.
الأزمة الاقتصادية التونسية من أداة في يد سعيد إلى سيف مسلط عليه
سعيّد، الذي أقال رئيس الوزراء، وجمّد البرلمان، ومكَّن نفسه من الحكم بمرسوم، لم يعيِّن بعد حكومة جديدة، أو يوضّح أي سياسة اقتصادية شاملة، أو يصرح كيف سيمول العجز العام وسداد الديون.
ساعد الغضب من الأزمة الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب الوباء، في دفع دعم واسع النطاق على ما يبدو لتدخل سعيد في 25 يوليو/تموز الماضي.
لكن سعيّد يتعرض الآن لضغوط متزايدة لمعالجة المشاكل الاقتصادية في تونس بعد أن عرّضت الأزمة السياسية المكاسب الديمقراطية التي فاز بها التونسيون في ثورة 2011 التي أطلقت شرارة احتجاجات الربيع العربي للخطر.
وأوقف إجراءات سعيد ضد البرلمان المحادثات التي تأخرت كثيراً مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج قروض كان من المتوقع أن يفتح المزيد من المساعدة الاقتصادية وتجنب أزمة في المالية العامة.
يريد أن يصيغ الدستور بمفرده
وقال مكتب سعيد إنه سيتولى مسؤولية صياغة الإصلاحات السياسية والتعديلات الدستورية بمساعدة لجنة سيعينها.
وأثار هذا البند على وجه الخصوص قلق الاتحاد العمالي للشغل.
وجاء في بيان الاتحاد يوم الجمعة: "تعديل الدستور وقانون الانتخاب مسألة تهم جميع مكونات المجتمع". وطالب سعيد ببدء محادثات بدلاً من احتكار سلطة تغيير الدستور.
وأضاف الاتحاد: "لا حل للأزمة الحالية سوى التشاور والشراكة والحوار على أساس المبادئ الوطنية وسيادة تونس وخدمتها".
واعتقل عدداً من النواب
وجاء في إعلان مكتب الرئيس يوم الأربعاء 22 سبتمبر/أيلول أيضاً أن النواب سيخسرون رواتبهم ومزاياهم وحصانتهم من المحاكمة التي رفعها سعيد بالفعل. وقد اعتقلت السلطات التونسية خمسة نواب خلال الشهرين الماضيين، بينهم منتقدون للرئيس، وأطلقت سراح أحدهم، ياسين العياري، الأسبوع الماضي.
واستهدفت السلطات أيضاً رجال أعمال وقضاة، حيث عاقبت بعضهم بالإقامة الجبرية وحظر السفر وتجميد الأرصدة.
وفي البداية، كان العديد من التونسيين يشعرون بسعادة غامرة لدى علمهم بالإجراءات الاستثنائية التي اتخذها سعيد. وعلقوا آمالهم في إنقاذ الاقتصاد التونسي المتدهور، وإصلاح السياسات الفوضوية في البلاد ومعالجة الفساد المستشري على رئيس يرون أنه محصن من الفساد، وتجاهلوا تحذيرات خصوم سعيد ومنتقديه من ديكتاتورية قراراته.
على أن سعيد لم يتمكن من وضع خارطة طريق طال انتظارها لتغيير مسار البلاد وأثار قلقاً برفضه التعامل مع الجماعات المدنية أو الساسة الآخرين لتحديد مسار البلاد.
وبعد مرور شهرين دون نتائج، بدأ الاستياء- أو على الأقل نفاد الصبر- من إجراءات سعيد يتفاقم. وخرجت مجموعة صغيرة من المتظاهرين للاحتجاج عليه مطلع هذا الشهر؛ وتظاهر آلاف آخرون يوم الأحد في تونس العاصمة.
وكتبت الصحفية التونسية سارة قريرة على صفحتها على فيسبوك بعد فترة وجيزة من اكتساب قيس المزيد من السلطات: "الإمبراطور قيس، أول سلالته".
لكن الاختبار الحقيقي لشعبية سعيد سيكون في مدى قدرته على معالجة المأساة الاقتصادية التي هي السبب الأساسي في هذه الحالة من الاضطراب. إذ تعاني البلاد من ارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستويات المعيشة وانتشار الفقر الذي يدفع آلاف التونسيين إلى المخاطرة بالهجرة عبر البحر المتوسط إلى أوروبا كل عام.
وواصلت الأسعار ارتفاعها، حسبما ورد في تقرير لوكالة "Reuters"
لم يقدم بديلاً للمفاوضات مع صندوق النقد
وقد أوقف سعيد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بخصوص خطة الإنقاذ دون أن يوضح خططه الاقتصادية، وإن كان قد اكتسب شعبية بين بعض التونسيين بمقترحاته إجبار رجال الأعمال الأثرياء المتهمين بالفساد على تمويل مشاريع الإعمار في المناطق الفقيرة.
تقول مونيكا ماركس، أستاذة سياسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك أبو ظبي التي تدرس تونس: "الجدار الذي يندفع قيس نحوه وقد يرتطم به هو الاقتصاد. والتوقعات مرتفعة للغاية".
وأضافت: "ولا شك أنه ستنشأ فجوة كبيرة بين التوقعات الشعبوية، التي هي أعلى من أي وقت مضى، وحقيقة ما يمكن أن يقدمه قيس بالفعل".
الخزانة خاوية
وقال معهد الإحصاء الحكومي إن البطالة وصلت إلى 17.8%، وتفاقم العجز المالي إلى أكثر من 11% في 2020. وانكمش الاقتصاد بنسبة 8.2% العام الماضي، بينما نما الدين العام إلى 87% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
لا يرى كل من نقابة العمال ذات النفوذ والمقرضون الأجانب سوى القليل من الخيارات في استئناف عملية صندوق النقد الدولي.
بينما تحتاج تونس نحو أربعة مليارات دينار شهرياً لدفع الأجور وتسديد الديون، فإن خزانة الدولة لديها 544 مليون دينار فقط، بحسب بيانات البنك المركزي الصادرة يوم الإثنين الماضي.
وسددت تونس أكثر من مليار دولار من الديون هذا الصيف من احتياطيات العملات الأجنبية، لكن يجب أن تجد حوالي 5 مليارات دولار أخرى لتمويل عجز الميزانية المتوقع والمزيد من سداد القروض.
هل تتجه تونس إلى مصير لبنان
الأزمة السياسية الآن وغياب أي برنامج ورؤية اقتصادية واضحة يسرّعان الانهيار الكامل، حسب تقرير رويترز.
وقال المحلل الاقتصادي معز جودي إن الوضع حرج للغاية في الاقتصاد والمالية العامة على وجه الخصوص، "نحن على وشك الانهيار منذ شهور".
وتوقع أن تركيز سعيّد على السياسة يمكن أن يحوّل تونس إلى لبنان آخر يعيش في خضم أزمة مالية وصفها البنك الدولي بأنها من أعمق الانكماشات في التاريخ الحديث.
لقد دفع ثلاثة أرباع سكان لبنان إلى براثن الفقر وفقدت عملته المحلية 90% من قيمتها في العامين الماضيين.