العالم بأسره يتابع الموقف في ألمانيا بعد نتائج الانتخابات التي أعادت الاشتراكيين للصدارة ووجهت هزيمة غير متوقعة لتكتل ميركل المسيحي، فالحكومة الجديدة تعني الكثير لأوروبا وحلف الناتو والصين.
هذا التوصيف للمشهد ليس من قبيل المبالغة، فعلى مدى 16 عاماً من قيادة المستشارة أنجيلا ميركل، لعبت ألمانيا دوراً محورياً في تماسك الاتحاد الأوروبي رغم مغادرة بريطانيا في أعقاب بريكست، كما قادت التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين عام 2015، وساعدت على الصمود في وجه السياسة الانعزالية والعدائية لدونالد ترامب مما ساهم في عدم تفكك حلف الناتو.
نعم. الناخب الألماني لا يهتم كثيراً بالسياسة الخارجية لبلاده عند الإدلاء بصوته، بل ينبع اختياره من برامج الأحزاب فيما يتعلق بالملفات الداخلية مثل الضرائب وسياسة الهجرة والبرامج الاجتماعية وغيرها. وهذه الحقيقة تنعكس مباشرة على البرامج الانتخابية للأحزاب الكبيرة والصغيرة، إذ لا تشغل السياسة الخارجية حيزاً كبيراً من تلك البرامج.
لكن هذا الاستقرار الألماني الذي استمر لمدة 16 عاماً من سيطرة مطلقة لميركل جعل ألمانيا -أكبر بلد أوروبي من حيث عدد السكان- في موقف رمانة الميزان داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، مما ساهم في ضبط الإيقاع في أكثر أوقات الاضطراب والاختلافات داخل التكتلين.
ماذا تعني نتائج الانتخابات الألمانية؟
ومن المهم أن نبدأ المشهد بقراءة نتائج الانتخابات العامة التي أجريت الأحد 26 سبتمبر/أيلول حتى نستكشف مدى تعقيد المشهد بعد ظهور تلك النتائج. جاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي في المركز الأول بفارق ضئيل وحصل على 25,7% من الأصوات، بينما جاء تكتل المحافظين بزعامة ميركل في المركز الثاني وحصل على 24,1%، وثالثاً جاء حزب الخضر بحصوله على 14.8% ثم الحزب الديمقراطي الحر رابعاً وحصل على 11.5% وتراجع البديل من أجل ألمانيا (الحزب اليميني المتطرف) إلى المركز الخامس بأقل من 10% ثم حزب اليسار الراديكالي دي لينك بنحو 5%.
هذه هي المرة الأولى التي يفقد فيها تكتل ميركل (تحالف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي) صدارة الانتخابات العامة، منذ عام 2005، كما أنها المرة الأولى أيضاً التي تقل فيها النسبة التي يحصل عليها عن 33%، وهو ما يراه كثير من المحللين في رغبة غالبية الألمان في التغيير في مرحلة ما بعد ميركل.
وفي السياق نفسه، يعتبر تصدّر الحزب الاشتراكي الديمقراطي المشهد الانتخابي بمثابة زلزال لم يكن متوقعاً بالأساس، فيما يمثل عودةً قوية لأقدم حزب سياسي ألماني كان يرى الكثيرون أنه لن يعود في المستقبل القريب.
ومن الملامح الهامة أيضاً في تلك الانتخابات التراجع الكبير لليمين المتطرف الذي يمثله حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي كان قد حلّ ثالثاً في انتخابات 2017. هذا الحزب معادٍ للهجرة والمهاجرين وللاتحاد الأوروبي وكان يمثل صعوده مؤشراً خطيراً بالنسبة للساسة الأوروبيين المؤمنين بأفكار الاتحاد والتعاون، ومن ثم يمكن القول إن هناك حالة من الارتياح داخل أروقة الاتحاد الأوروبي سببها تراجع اليمين المتطرف بالأساس، حتى وإن لم يتم التصريح بذلك علناً.
وفي ألمانيا، تنص المادة 39 من الدستور على أن يعقد البرلمان اجتماعه الأول في مدة أقصاها شهر بعد الانتخابات، وفي الانتخابات الماضية التي شهدت صعود اليمين المتطرف حدث تأخير في عقد الاجتماع كان سببه اعتراض الكتل النيابية على أن تجاور كتلة البديل من أجل ألمانيا في قاعة البرلمان.
لكن ربما يكون أبرز تداعيات الانتخابات هذه المرة متمثلاً في الائتلاف الحكومي ومن سيضم ذلك الائتلاف. نعم، الانتخابات الماضية أيضاً لم يفُز فيها أي حزب أو تكتل بأغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة، لكن ميركل تحالفت مع الاشتراكيين وتشكلت الحكومة الحالية التي يشغل فيها أولاف شولتس رئيس الحزب الاشتراكي منصب نائب ميركل ووزير المالية.
هذا التحالف ليس وارداً، على الأقل بحسب موقف كل منهما، وبالتالي فهناك حتمية لأن يتحالف أي منهما مع الخضر (المركز الثالث) والليبراليين (الحزب الديمقراطي الحر – المركز الرابع) كي يحظى بأغلبية كافية لتشكيل الحكومة ومن ثم الفوز بمقعد ميركل أي المستشارية.
شولتس رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي وآرلان لاشيت (خليفة ميركل في قيادة التكتل المهزوم انتخابياً) يريدان منصب المستشار كما أعلنا، وهو ما سيعقد أكثر من مهمة تشكيل ائتلاف حكومي سريعاً، خصوصاً أن المرة الماضية استغرق الأمر 6 أشهر كاملة حتى خرجت الحكومة للنور.
كيف سيتأثر الاتحاد الأوروبي؟
إذا كانت ملفات السياسة الخارجية لا تمثل عنصراً فاعلاً في قرار الناخب الألماني، فإن الموقف سيكون مختلفاً تماماً هذه المرة في كواليس المفاوضات بين الأحزاب بغرض تشكيل الائتلاف الحكومي، بحسب تحليل عن دور السياسة الخارجية والشق العسكري في الانتخابات الألمانية.
إذ أدى الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وتداعياته إلى بروز قضية الناتو وكيفية اتخاذ القرار في داخله، أو بمعنى أكثر مباشرة الانفراد الأمريكي بذلك القرار، إلى وجود ملفات السياسة الخارجية على الساحة الانتخابية الألمانية بصورة لم تحدث من قبل.
وبالتالي فإن هذه الملفات ستكون حاضرة خلال مفاوضات تشكيل الحكومة، وهنا تكمن المشكلة؛ إذ إن حزبي الخضر والليبراليين (صانعي الملوك هذه المرة) يتبنيان مواقف مختلفة وبعضها متناقض فيما يخص أغلب ملفات السياسة الخارجية. فالخضر والليبراليون يعارضان بشدة وجود الأسلحة النووية، على سبيل المثال، وهو ما يعني أنهما سيشترطان وضع التخلص من تلك الأسلحة شرطاً للانضمام للائتلاف الحكومي، مما يعني تحديات كبيرة أمام الناتو والاتحاد الأوروبي أيضاً.
وفيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي ودور ألمانيا فيه، يمكن القول إنه باستثناء حزبي البديل من أجل ألمانيا ودي لينك (كلاهما على الأرجح ليسا من ضمن المستهدفين في أي تحالف لتشكيل الحكومة من الأصل)، فإن أصحاب المراكز الأربعة الأولى يتفقون تقريباً وبشكل عام على أهمية أن تواصل ألمانيا دورها القيادي داخل الاتحاد الأوروبي على جميع المستويات.
وهذا التوجه قد سبب وجود مؤشرات على ملامح ارتياح ورضى عبّر عنها بعض مسؤولي المؤسسات الأوروبية، بعد أن بدا جلياً أن الأحزاب السياسية الموالية لأوروبا ستستمر في حكم البلاد لمدة أربع سنوات، بحسب تقرير لموقع يورونيوز.
وقام فرانس تيمرمانس، نائب رئيسة المفوضية الأوروبية، بتهنئة زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي شولتس، مشيراً إلى "نتيجة قوية"، وكتب فرانس تيمرمانس: "نتائج الانتخابات الألمانية تؤكد أن العدالة الاجتماعية وحماية المناخ والتحول الأخضر لاقتصادنا ومجتمعنا تسير جميعها جنباً إلى جنب من أجل تحقيق رؤية ديمقراطية اجتماعية قوية".
رئيس البرلمان الأوروبي، دافيد ساسولي، من جانبه، قام بتهنئة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وكتب على صفحته من تويتر قائلاً: "أهنئك أولاف شولتس بفوز الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، مضيفاً قوله: " ليس هناك وقت نضيعه، فأوروبا بحاجة إلى شريك قوي وموثوق في برلين لمواصلة عملنا المشترك من أجل التعافي الاجتماعي وتحقيق رؤية اقتصاد أخضر".
لكن في ظل التباينات داخل برامج تلك الأحزاب وتفاصيلها، يصبح من الصعب التكهن بما قد تسفر عنه المفاوضات المعقدة لتشكيل الائتلاف الحكومي المنتظر، وقال رافيل لوس الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "يجب أن نرى حكومة بقيادة أولاف شولتس تكون أكثر انفتاحاً على إيمانويل ماكرون، حين يتعلق الأمر بمسائل الإصلاح الاجتماعي".
لكن كيف ستكون ردة فعل الأوروبيين في حال اضطر شولتس إلى التخلي عن نصف برنامجه لاستمالة اليمين الليبرالي، ذلك أن الحزب الليبرالي لن يقبل بتاتاً بزيادة الضرائب على أغنى الأغنياء التي يريدها الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر.
هل يواجه حلف الناتو خطر التفكك؟
إذا كانت نتائج الانتخابات الألمانية قد تركت انطباعاً مبدئياً بالراحة لدى الأوروبيين، سواء بسبب تراجع اليمين المتطرف أو بسبب ما يشبه الاتفاق على دور ألمانيا في تقوية الاتحاد الأوروبي، فعلى الأرجح لا تنطبق تلك الحالة فيما يخص حاضر ومستقبل حلف الناتو.
ونشرت مجلة Politico الأمريكية مقالاً يلقي الضوء على تداعيات الانتخابات الألمانية على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مع التركيز على ملفي الناتو والحرب الباردة مع الصين، انطلق من أن تشكيل ائتلاف حكومي ألماني متشدد أكثر تجاه الصين يمثل ارتياحاً لدى واشنطن، لكن نفس الائتلاف على الأرجح سيكون أقل تعاوناً فيما يتعلق بحلف الناتو.
وبحسب مقال المجلة الأمريكية فإنه رغم غموض المشهد في أعقاب ظهور النتائج، خصوصاً فيما يتعلق بمن سيكون خليفة ميركل، فإن المؤشرات تُرجح أن أي ائتلاف حكومي ينتج عن المخاض العسير الحالي، والمتوقع أن يمتد لفترة، ائتلاف حكومي يمثل مشكلة فيما يخص حلف الناتو تحديداً.
وهذه النتيجة تبدو منطقية تماماً بالنظر إلى برامج الأحزاب الألمانية المتعلقة بالإنفاق العسكري، فالحزب الاشتراكي الديمقراطي برئاسة شولتس لا يدعم بشكل صريح رفع ميزانية الدفاع إلى 2% من الموازنة العامة، وهو أحد الأهداف الرئيسية للناتو، وإن كان لا يرفض ذلك أيضاً.
وعلى الرغم من أن تكتل ميركل يدعم رفع ميزانية الدفاع لتحقيق أهداف الناتو بشكل صريح، فإن ذلك لم يحدث خلال السنوات الأربع الماضية، بسبب عدم تحمس شريك التكتل في الائتلاف وهم الاشتراكيون، لكنَّ الخضر (أصحاب المركز الثالث) والليبراليين (أصحاب المركز الرابع) يرفضون ذلك صراحةً، ويريدون أن يكون الإنفاق العسكري ألمانيّاً خالصاً.
النقطة الأخرى التي تُسبب قلقاً في أروقة الناتو حالياً تتعلق بموقف حزبي الخضر والليبراليين من الأسلحة النووية، التي تمثل ركناً أساسياً في استراتيجية الردع التي يتبناها الحلف، إذ يرفض الحزبان تماماً وجود تلك الأسلحة، ويريدان التخلص منها عالمياً، وهو ما يشير إلى أن أي ائتلاف حكومي قادم في ألمانيا لن يكون على الأرجح حريصاً على استمرار الدور الألماني في الحلف بنفس القدر الذي كان موجوداً خلال حقبة ميركل.
وفي ظل الرغبة المعلنة من الرئيس الفرنسي في تشكيل جيش أوروبي مستقل عن الناتو، فإن ائتلافاً حكومياً ألمانياً يتولى فيه شولتس منصب المستشار خلفاً لميركل ويضم مع الاشتراكيين الخضر والليبراليين قد يُمثل خطراً حقيقياً على استمرارية حلف الناتو والتعاون العسكري عبر الأطلسي بشكل عام، بحسب المحللين.
ماذا عن الحرب الباردة ضد الصين؟
إذا كانت نتائج الزلزال السياسي الألماني في أعقاب الانتخابات بعثت بعضاً من الراحة في أوروبا، وكثيراً من القلق في أروقة حلف الناتو، فقد بعثت أيضاً ببصيص من الأمل عبر الأطلنطي إلى واشنطن، فيما يتعلق بالحرب الباردة التي تشنها الولايات المتحدة ضد الصين.
فائتلاف حكومي مكون من الاشتراكيين والخضر والليبراليين، وهو ما يبدو بالفعل أقرب إلى أرض الواقع ويسمى إعلامياً الائتلاف الجامايكي نسبة إلى ألوان الأحزاب الثلاثة الأصفر والأخضر والأحمر، التي تشبه علم جامايكا، سيتخذ موقفاً أكثر تشدداً تجاه الصين من ذلك الذي تبنته حكومة ميركل في السنوات الأربع الأخيرة، بحسب مقال Politico.
وكانت جميع الأحزاب الألمانية قد بدأت تُغير من نظرتها إلى الصين في السنوات القليلة الماضية، ولا يزال ذلك التغيير قائماً حتى اليوم، لكن في ظل قيادة ميركل لم تتخذ برلين أي مواقف حادة تجاه الصين، بسبب الاعتبارات الاقتصادية من جانب، ولأن القضية ليست مُلحة من جانب آخر، وهو ما أثار استياء واشنطن بالطبع.
صحيح أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي برئاسة شولتس لا يتخذ مواقف أكثر صرامة تجاه الصين، أي يشبه تكتل ميركل، إلا أن حزبي الخضر والليبراليين لهما مواقف حادة تجاه الصين وروسيا، على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان ومدى احترام القانون الدولي من جانب بكين وموسكو على التوالي.
وفي حالة تشكيل ائتلاف حكومي بقيادة شولتس، فإن الخضر والليبراليين سيكونون أكثر جرأة في انتقاد الصين وروسيا، عكس الحال إذا ما استمر تكتل ميركل في قيادة الائتلاف الحكومي، وانضمام الخضر والليبراليين لذلك التكتل، على أساس أن ميركل تمكنت دائماً من السيطرة على شركائها في الحكومة، وهو ما يتوقع أن يطبقه لاشيت أيضاً.
لكن في كل الأحوال، قد لا تتمكن أي حكومة ألمانية جديدة من التحالف بشكل مباشر وعلني مع الولايات المتحدة ضد الصين أو روسيا، لأنه على الرغم من أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن غالبية الألمان يعتقدون بوجود حرب باردة بالفعل بين واشنطن وبكين، فإن 18% منهم فقط يرون ألمانيا جزءاً من حلف أمريكي ضد الصين.
والخلاصة هنا هي أن السياسة الخارجية التي قد تنتهجها أي حكومة ألمانية جديدة، بعد 16 عاماً من استقرار عنوانه أنجيلا ميركل، ستشهد تغييرات ضخمة تنعكس ليس فقط على البلاد نفسها أو القارة العجوز، ولكن على أقدم حلف عسكري عالمي وهو الناتو، وأيضاً على الصين وروسيا والعالم بأسره، بحسب المحللين.