الصراع الذي تكشَّف بين القوى العسكرية والمدنية للحكم في السودان كان أمراً متوقعاً، بسبب طبيعة الاتفاقات التي أسست الشراكة بين العسكريين والمدنيين بالسودان، والتي كان واضحاً منذ البداية أنها شراكة غير متكافئة.
وأعلنت مصادر حكومية سودانية، الأحد 26 سبتمبر/أيلول 2021، أن المكون العسكري بالمجلس السيادي علّق جميع الاجتماعات مع المكون المدني، مشيرة إلى تداول أنباء عن سحب حراسات وزراء الحكومة الانتقالية في ظل الأجواء المشحونة بين الطرفين.
تأتي تلك الخطوة في ظل تصاعد الخلافات خلال الأيام الماضية بين المدنيين والعسكريين في السودان، خاصة في أعقاب الإعلان عن محاولة انقلاب فاشلة خلال الأسبوع الماضي.
من جانبه دعا "تجمع المهنيين" السودانيين" إلى استكمال الثورة".. وطالب بإنهاء الشراكة بين العسكريين والمدنيين بالسودان، وإلغاء الوثيقة الدستورية التي تنظم المرحلة الانتقالية.
مصير الشراكة بين العسكريين والمدنيين بالسودان محتّم منذ البداية
عندما ثار الشعب السوداني على حكم عمر البشير الاستبدادي، الذي استمر عقوداً فإن عملية عزل البشير من الحكم لم تتم من قِبل قوى العدالة والتغيير التي قادت الاحتجاجات ضد الرئيس السوداني، بل تمت إقالة البشير من قِبَل المكون العسكري والميليشياتي للحكم في السودان.
ومنذ بداية الثورة السودانية، التي لعبت فيها النقابات المهنية، وقوى اليسار على وجهة الخصوص، كان تركيز هذه القوى على اجتثاث المكون الإسلامي الحركي، في النظام السوداني مقابل التحالف مع المكون العسكري والميليشياتي.
ولكن الواقع أنه على مدار عقود تراجع المكون الإسلامي الحركي في نظام البشير خاصة بعد خلافه مع رئيس الجبهة الإسلامية الراحل حسن الترابي، لصالح زيادة قوة المكون العسكري في النظام، وكذلك المكون الميليشياتي الذي يمثله محمد حمدان دقلو.
ولكن العداء الغريزي لليسار السوداني تجاه الإسلاميين افترض أن المشكلة الرئيسية هي في المكون الإسلامي، وكان على استعداد أن يتحالف مع المكون العسكري والميليشياتي بل أن يسمح لهم بالسيطرة الفعلية على البلاد، في مقابل إقصاء الإسلاميين.
وفي هذا الصدد، كان غريباً إصرار القوى المدنية في الثورة السودانية على إطالة أمد المرحلة الانتقالية، وعدم إجراء انتخابات بدعوى أن الانتخابات سوف تؤدي إلى عودة الإسلاميين وهو ما سمح فعلياً بتعزيز سيطرة العسكريين والميليشياتيين على السلطة.
ومنذ الإطاحة بالبشير، حدثت وقائع كثيرة تثبت أن العسكريين والميليشياتيين ممثلين في رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح برهان، ومحمد حمدان دقلو يعززون سيطرتهم على السلطة، ولكن القوى المدنية كانت مصرة على طريقة تفكيرها.
الغريب هو كيف تثق القوى المدنية في عسكريين وميليشياويين انقلبوا على قائدهم وهم ليس لديهم أيديولوجيا أو مبادئ سياسية محددة، ولكن القوى اليسارية السودانية تكرر نفس الخطأ بالارتماء في أحضان الاستبداد العسكري نكاية في الإسلاميين خصومهم السياسيين وهو الخطأ ذاته الذي ارتكبه حسن الترابي عندما تآمر مع البشير عام 1989 للإطاحة بحكومة الصادق المهدي التي كان يشارك بها الترابي بشكل فعال لينتهي به الأمر في سجون البشير بعد ان كان شريكه في السلطة.
أهم الأحداث التي تظهر فشل هذه الشراكة
مذبحة القيادة العامة
كانت المشاكل في الشراكة بين العسكريين والمدنيين في السودان واضحة، منذ مذبحة القيادة العامة للجيش السوداني، التي وقعت بعد عزل البشير، عندما اقتحم مئات الأفراد بزي عسكري ساحة الاعتصام في محيط قيادة الجيش بالخرطوم، وعدد من الولايات في الثالث من يونيو/حزيران 2019، مما أوقع مئات القتلى والجرحى والمفقودين، وهي الأحداث التي وُصفت بالمجزرة وهزت الشارع السوداني.
ويعتقد على نطاق واسع أن قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو "حميدتي" متورطة بها، ومع ذلك وضعت قوى الحرية والتغيير يدها في يد حميدتي الذي أصبح نائباً لرئيس مجلس السيادة السوداني الحاكم ويعتقد أنه أقوى رجل في البلاد بفضل سيطرته على قوات الدعم السريع التي تعد امتداداً للجنجاويد، والتي تدين له بولاء شخصي كما أن لديه موارد مالية ضخمة عبر استغلال وتهريب الذهب في البلاد.
ونفذت المذبحة في ذروة الثورة السودانية، عندما فتح الجنود النار على مئات الأشخاص الذين كانوا معتصمين في العاصمة الخرطوم، في استعراضٍ وحشي للقوة كان هدفه الإعلان للمتظاهرين المدنيين أنهم، وإن كانوا نجحوا في إسقاط عمر البشير قبلها بشهرين، فإن الجيش هو حاكم البلاد الفعلي والجهة التي ستقرر مستقبل البلاد، حسب وصف تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وتتفاوت التقديرات بشأن عدد ضحايا مذبحة القيادة العامة بين من مئة أو أكثر إلى 250 شخصاً.
وقد أصدر رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قراراً بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في الانتهاكات، التي حدثت في فض الاعتصام.
ويفترض أن اللجنة التي كلفت بالتحقيق في مجزرة القيادة العامة يجب أن تعمل على تحديد المسؤولين عن فض الاعتصام بالتحريض أو المشاركة، أو الاتفاق الجنائي أو ارتكاب أي انتهاكات أخرى، وتحديد وحصر عدد الضحايا من الشهداء والمصابين والجرحى والمفقودين، وقيمة الخسائر المالية والجهات والأشخاص المتضررين من ذلك.
وبعد أكثر من عامين، ما زالت جثث ضحايا مذبحة القيادة العامة راقدة في غياهب النسيان بإحدى مشارح العاصمة السودانية، ويتم عرقلة التحقيق بشكل فج، حسب تقرير The New York Times.
التحالف مع الثلاثي المعادي للربيع العربي
كان واحد من مؤشرات تآمر الجناح العسكري الميليشياتي في المؤسسة الحاكمة السودانية على الثورة السودانية، هو تحالفهم الواضح مع مصر والسعودية والإمارات المعادين للربيع العربي، خاصة أن حميدتي كان مقاول توريد المقاتلين السودانيين إلى حرب اليمن ولصالح حفتر في ليبيا، إضافة لعلاقته مع الإمارات في مجال تجارة وتهريب الذهب.
وبطبيعة الحال، لا يحتاج المرء إلى كثير من المعرفة ليتأكد له أن الدول الثلاث تعادي أي مسار ديمقراطي في المنطقة، حتى لو كان هذا العداء أقل من عدائهم للإسلام السياسي المعتدل.
وقد يكون الهدف الأول لهذا الثلاثي هو إقصاء الإسلاميين من الحكم في السودان، ولكن بعد تحقيق هذا الهدف، سيكون الهدف الثاني منع إقامة ديمقراطية في البلاد، وحبذا لو انتهى الأمر بالنسبة لهم بإقامة حكم عسكري حتى ولو بواجهة مدنية، وخاصة إذا كان الحاكم صديقاً لهم مثل البرهان أو حميدتي.
كان سماح أو تغاضي قوى الحرية والتغيير عن تزايد نفوذ قوى الثورة المضادة العربية في السودان، معناه أنهم يربطون الحبل حول رقابهم، وأنهم سيصبحون الطرف الأضعف في معادلة الشراكة بين العسكريين والمدنيين بالسودان.
التطبيع مع إسرائيل
بموجب اتفاق تقاسم السلطة في السودان، يفترض أن يكون الدور العسكري شرفياً إلى حد كبير، إلا أن المدنيين قد اشتكوا مراراً من تجاوزات عسكرية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، خصوصاً لقاء البرهان ورئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتنياهو سراً وإطلاق مسار التطبيع، إضافة إلى مفاوضات السلام الداخلية التي أفضت إلى اتفاق جوبا.
ويعتقد أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بحسب محللين، كان هو الشرط الأمريكي الأول أمام السودان مقابل مغادرته القائمة، خاصة في ظل تحركات أمريكية بالمنطقة دفعت الإمارات والبحرين إلى توقيع اتفاقيات إبراهام.
كان التطبيع مع إسرائيل مؤشراً واضحاً على سعي العسكريين لتقوية وضعهم بأي ثمن، وهو تطبيع مآله الطبيعي إضعاف القوى المدنية حتى لو تقبله بعضهم رغم أنه يفترض أنه يخالف مبادئ أغلب أعضائها لاسيما اليساريين والقوميين.
فمنذ البداية كانت هناك مؤشرات إلى أن التطبيع قد يتحول إلى أداة في يد العسكريين لتعزيز سيطرتهم على السلطة والنكوص بالاتفاقات مع القوى الثورية التي أُبرمت بعد الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير.
وأظهر إصرار العسكريين السودانيين على التقدم صوب التطبيع تجاهلاً واضحاً لشركائهم من القوى المدنية، حيث سبق أن انتقد تجمُّع المهنيين السودانيين لقاء رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، معتبراً أن مثل هذه القرارات من سلطة الحكومة المنتخبة وليس من السلطة الانتقالية.
واعتبر التجمع أن اللقاء يمثل خرقاً للوثيقة الدستورية، وقال إن "اختطاف القرار تحت أي ذريعة واهية يمثل خرقاً للوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية ويهدد عملية الانتقال الديمقراطي وتماسكها".
كما أن التطبيع تضمن قدراً كبيراً من اللقاءات والقرارات السرية مثل لقاء البرهان مع نتنياهو، وهي قضايا أكبر من أن تتخذ فيها سلطة انتقالية غير منتخبة القرارات وحدها.
وأظهر التطبيع محدودية سلطة رئيس الحكومة عبدالله حمدوك والقوى المدنية الشريكة للعسكر على القرار السوداني.
بل أظهر أن حمدوك رئيس الوزراء التكنوقراط القادم من مؤسسات الأمم المتحدة أقرب لمواقف القوى العسكرية منه للقوى المدنية حيث ساهم في مسيرة التطبيع رغم تحفظه عليه في بعض التصريحات، وشارك في اللقاء التطبيعي المعلن عبر الإنترنت مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو.
ورغم أن التطبيع قد يكون له بعض الأرباح الاقتصادية والسياسية للسودان، فإن في حقيقة الأمر مفيد بالأساس للجناح العسكري للسلطة.
فمن المعروف أن تقبّل الغرب والمجتمع الدولي للسودان يحتاج إلى مشاركة القوى المدنية الليبرالية والسياسية في السلطة خاصة عبر تقديم واجهة مقبولة للعالم الغربي والمؤسسات الدولية مثل رئيس الوزراء الحالي عبد الله حمدوك، إذ يحتاج العسكريون السودانيون لواجهات مدنية ليقبلهم الغرب الذي يتحرج من التعامل مع الحكم العسكري الفج.
ولكن مع تصدّر العسكريين لمشهد التطبيع مع إسرائيل، فإن هذا يعطيهم مساراً بديلاً ليحظوا بالقبول الأمريكي، يجعلهم يستغنون ولو جزئياً عن الواجهات المدنية المشار إليها، وقد يحاولون استغلال التطبيع للبقاء في السلطة، وعدم تسليم رئاسة مجلس السيادة الحاكم إلى القوى السياسية، في ظل دعم إقليمي لهم، خاصة أنهم أقدر على المضي قدماً في التطبيع من المدنيين.
كما أن مخالفة بنود اتفاق تسليم السلطة عبر الانفراد بقرارات التطبيع قد تكون مقدمة لمخالفة البنود الخاصة بتسليم السلطة لشخصية مدنية لترؤّس مجلس السيادة الذي أظهر أنه الحاكم الفعلي للبلاد وليس الحكومة.
العسكريون لم يسلموا السلطة في الموعد المتفق عليه
لا يبدو تلكؤ العسكريين السودانيين في تسليم السلطة أمراً يحتاج إلى كثير من البحث، ولكن الغريب هو سماح القوى الثورية بذلك.
فلقد حدد الإعلان الدستوري، المُوقع في أعقاب انتفاضة 2018-2019 التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، موعداً لتسليم قيادة مجلس السيادة في مايو/أيار 2021. غير أن اتفاق سلام تم توقيعه في أكتوبر/تشرين الأول عدل المواعيد بشأن تسليم السلطة دون تحديد تاريخ جديد.
وكان محمد الفكي سليمان، وهو أحد أعضاء مجلس السيادة من المكون المدني، قد وجَّه اتهاماً صريحاً للمكون العسكري، شريك السلطة الانتقالية في البلاد، بمحاولة السيطرة على الأوضاع السياسية. وقال الفكي خلال مقابلة مع تلفزيون السودان الرسمي: "هناك محاولة من المكون العسكري لتعديل المعادلة السياسية وهذا مخل بعملية الشراكة"، معتبراً أن ذلك "انقلاباً حقيقياً أو ما يعرف بالانقلاب الأبيض".
وقال سليمان إن تسليم السلطة للمدنيين ليس شيئاً ثانوياً، مضيفاً أنه يفضل اقتراحاً بأن يتم ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
لكن المعطيات الحالية واللغة التصعيدية التي ينتهجها البرهان وحميدتي، والخطوات التصعيدية في شرق السودان، لا تشير إلى أن عملية تسليم رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين قد تتم بصورة سلسة كما يريد المدنيون، وعلى الأرجح لن تتم في نوفمبر/تشرين الثاني كما اقترح سليمان.
العسكريون استخدموا المدنيين لتمرير القرارات الصعبة بينما يطلقون خطباً عصماء
من الأمور اللافتة في الشراكة بين العسكريين والمدنيين في السودان، أن المكون العسكري في السلطة استخدم القوى المدنية لتمرير القرارات الاقتصادية التي تثير سخط الناس، وكذلك كواجهات مدنية للحصول على إعفاء لديون السودان من المؤسسات الدولية.
الأهم أن أداء العسكريين السياسي والإعلامي كان أفضل من القوى المدنية؛ إذ يواصل عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، تقديم نفسه كقائد حازم في مواجهة الاحتلال الإثيوبي لمنطقة الفشفة التي استعادت الخرطوم السيادة على أغلبها لأول مرة منذ سنوات، إضافة إلى أزمة سد النهضة، والمناورات بين الجيشين السوداني والمصري وتوقيع اتفاق السلام مع الحركات الجنوبية وهي أحداث تعزز إحساس السودانيين بحاجتهم للعسكريين.
كما أن الزعيم الميليشياوي محمد حمدان دقلو الذي لم يكمل تعليمه الجامعي يتلقى دروساً في اللغة الإنجليزية ويتعاقد مع شركات علاقات عامة دولية، ويواصل تقديم نفسه كزعيم ديناميكي مرن يلقي العظات على القوى المدنية، ويعزز علاقته حتى بخصومه السابقين، من متمردي دارفور، ويقدم نفسه كممثل للغرب السوداني برمته الذي ازداد ثقله السكاني في البلاد جراء الهجرة الكبيرة من الشمال السوداني للخارج.
وهو الشخص الوحيد في السودان المسلح بالمال والسلاح معاً، مع شبكة علاقات إقليمية تشمل دول الخليج وليبيا ومصر، بل يعتقد أن لديه اتصالات خارجية حيث يعتقد أن الاتحاد الأوروبي قد دفع أموالاً لقوات الدعم السريع المتهمة بتنفيذ انتهاكات في دارفور بسبب دورها في منع الهجرة غير الشرعية والتهريب.
وبالنظر إلى وجود جنود قوات الدعم السريع التابعة له التي يُعتقد أنها أقوى قوة عسكرية سودانية حالياً، وثروات كبيرة خلفه، فإنه غالباً ما يجري الحديث عنه باعتباره القوة الحقيقية وراء السلطة في السودان، ورغم أنه يريد تصوير نفسه على أنه حامي الثورة، فإن قوات الدعم السريع التي يقودها لها تاريخ دموي في دارفور، علاوة على دورها في مذبحة القيادة العامة.
وبعد إقالة البشير، نشرت منظمة العفو الدولية هذا الصيف أدلة جديدة مقلقة تُبين أن قوات حكومية سودانية تشمل قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها، مستمرة في تدمير القرى وارتكاب أعمال القتل خارج نطاق القانون، وجرائم العنف الجنسي في دارفور.
ويبدو التناقض بين صمت القوى المدنية على جرائم دقلو، ودفعها لمحاكمة البشير وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية أمراً غريباً، وهو تناقض يبدو أنها أول من ستدفع ثمنه.
كما أن الإعلانات المتعددة عن إحباط إنقلابات أو الاضطرابات مثل تلك التي تحدث في الشرق السوداني، تثير الريبة، وهل هي تهديدات حقيقية أم أنها مناورات من العسكريين لتخويف الناس وإحكام قبضتهم على السلطة.
والحقيقة أنه لا يحتاج الأمر إلى كثير من الفطنة، ليتوقع المرء منذ توقيع اتفاق تسليم السلطة أن العسكريين لن يسلموها في ظل غياب ضغوط حقيقية، خاصة أن قبول القوى المدنية بفكرة البدء برئاسة العسكريين للمجلس السيادي الانتقالي كان أمراً غريباً، لأنه ببساطة سمح للعسكريين بتبريد الزخم الثوري، بل وتعزيز سلطتهم على مقاليد الحكم، خاصة أنه في بلد كبير مثل السودان أغلب سكانه يعيشون في الريف، فإن قدرات القوى اليسارية تتركز فقط في العاصمة وبعض المدن الكبرى.
والأهم أن تركيز قوى الحرية والتغيير على التوجهات العلمانية المستفزة لكثير من السودانيين، والصراع مع الإسلاميين يستفيد منه الجناح العسكري الميليشياتي، لأنه معناه انقسام القوى المسيّسة، بما يتيح لهم الانفراد بالسلطة.
واليوم في ظل تراجع الزخم وراء قوى الحرية والتغيير وضعف الأحزاب التقليدية مثل الأمة والاتحادي ونبذ الإسلاميين، ودعم دول الجوار للعسكريين، فإن احتمالات انفرادهم بالحكم تبدو كبيرة، حتى لو حدث تهدئة جديدة بين الطرفين تطيل أمد الشراكة بين العسكريين والمدنيين بالسودان، وقد يتم هذا الاستيلاء على الحكم عبر انتخابات صورية أو شبه صورية، تسفر عن تنصيب جنرال أو قائد ميليشيات ثري رئيساً للبلاد، حتى يستنى له خلع البدلة العسكرية دون أن يتخلى عن سلاحه.