لسنواتٍ طويلة، كان الجزائريون يتهامسون بشأن صحة عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس الجزائري منذ عام 1999 إلى 2019، بعد إصابته بجلطةٍ دماغية في 2014، ونادراً ما كان يُشاهَد في الأماكن العامة، مِمَّا ولَّدَ تكهُّناتٍ بأنه غالباً مات. وحين ارتفعت الأصوات، كان المسؤولون يدفعونه على كرسيه المتحرِّك للجلوس أمام الكاميرات، وكانت نظرة عينيه تائهة. تساءل الناس مَن يكون المسؤول حقاً. وبحلول العام 2019 سئموا من التمثيلية وأطاحوا بالرجل العجوز، كما تقول مجلة The Economist البريطانية.
توفي بوتفليقة في 17 سبتمبر/أيلول 2021، عن عمر يناهز 84 عاماً. ربما يتذكره الشباب الذين يشكلون معظم سكان الجزائر على أنه الرئيس العجوز المريض، ويأسفون على أنه لم يتغير شيء يذكر منذ الإطاحة به. يُذكر أن الحكومة الحالية دفنته في مقبرة لمقاتلي الاستقلال، مع القليل من التكريمات التي مُنحت لقادة سابقين.
بوتفليقة المقاتل وأول وزير خارجية جزائري
تقول المجلة: "قد يتذكر الجزائريون الأكبر سناً الرئيس بوتفليقة باعتزاز أكبر". كان بوتفليقة بالكاد بالغاً عندما انضمَّ إلى جيش التحرير الوطني في الحرب ضد الاحتلال الفرنسي. وبعد عامٍ من الاستقلال عام 1962، أصبح أول وزير خارجية جزائري، وكان حينها لا يزال في منتصف العشرينيات. شغل هذا المنصب لمدة 16 عاماً، وساعد في ترسيخ الدولة كعضوٍ مؤثِّرٍ في حركة عدم الانحياز، ومنارةٍ للنضال ضد الاستعمار، مِمَّا أكسبها لقب "مكة الثوار".
زار تشي جيفارا الجزائر على أمل إثارة الثورات الإفريقية. وتلقَّى نيلسون مانديلا في شبابه تدريباتٍ عسكرية من جنودٍ جزائريين. ودعا بوتفليقة، بصفته رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، ياسر عرفات لإلقاء كلمة أمام الهيئة في العام 1974، وهي لحظةٌ كانت تاريخيةً للقضية الفلسطينية. وعندما أخذ كارلوس الثعلب– المقاتل الفنزويلي بصفوف الفلسطينيين- وزراء النفط رهائن في هجومٍ على مقر منظمة الأوبك في فيينا عام 1975، طالَبَ بنقله إلى الجزائر العاصمة، والتقى به بوتفليقة وتفاوَضَ على إطلاق سراح بعض الرهائن.
غادَرَ بوتفليقة الجزائر في العام 1979 لتجنُّب تهم الفساد (التي أُسقِطَت في النهاية)، ثم عاد بعيداً عن الأضواء خلال الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات، التي قُتِلَ فيها 200 ألف شخص، في القتال بين الإسلاميين والجيش. وفي عام 1999، لجأت إليه الزمرة الحاكمة للجنرالات ورجال الأمن. وبعد خمسة أشهر من فوزه في الانتخاباتٍ، دفع بوتفليقة، من خلال استفتاءٍ على المصالحة الوطنية، من أجل منح عفو للإسلاميين وأفراد الميليشيات. وحُظِرَ انتقاد الجيش. ويُنسَب إلى بوتفليقة الفضل في إخراج الجزائر من "العشرية السوداء".
الرئيس القعيد رحل، ولكن نظامه لا
كان النظام يتذرَّع بالحرب الأهلية والحاجة إلى الاستقرار كلَّما أراد تبرير قمعه. أُجرِيَت الانتخابات بصورةٍ غير نزيهة، وفاز بوتفليقة بأربع دورات منها. استحوذت الزمرة الحاكمة على ثروة البلاد الهائلة من النفط والغاز، بينما كافح الشباب من أجل العثور على وظائف.
اتسمت حياة بوتفليقة الاستثنائية بالعظمة والشطط، لكنَّها انتهت بنهاية المطاف تحت وطأة القوة. ويمكن إرجاع مصدر هذا السقوط إلى شريان حياته: السعي وراء السلطة. في الواقع كان المطلعون من داخل النظام يعتقدون أنَّ الموت وحده سيجبره على الرحيل، إلى أن اضطر للاستقالة قبل عامين.
فقال أحد أفراد دائرته المقربة لموقع Middle East Eye البريطاني: "كان بوتفليقة عازماً على الاحتفاظ بالسلطة، لكن ليس فقط بسبب نزعة استبدادية ما. بل كانت فلسفته السياسية، وهي رؤية موروثة من أنظمة حكم ما بعد الثورة".
وأضاف: "القائد ليس مجرد قائد سياسي. القائد هو أب، وأب لا يتخلى عن أسرته أبداً. والجزائر هي أسرته، وكذلك كان الشعب الجزائري. كان قصر الرئاسة بالنسبة له هو منزله، منزل (آخر الساسة العظماء) للجزائر".
كان إحباط الجمهور يتزايد منذ سنواتٍ عندما قال النظام في العام 2019 إن بوتفليقة يسعى لعهدةٍ خامسة. وخرج عشرات الآلاف من المتظاهرين هاتفين "ارحل بوتفليقة". وأخيراً استسلم النظام. بعد أن ظلَّ قعيداً على كرسيه المتحرِّك، نقل الرئيس استقالته إلى زميلٍ له. وكانت هذه آخر مرة يراه فيها معظم الجمهور.
تقول المجلة البريطانية: "إنه مع ذلك، فإن أيَّ أملٍ في أن تؤدِّي استقالة بوتفليقة إلى إحداث تغييرٍ حقيقي قد تضاءل إلى حدٍّ كبير". لا يزال الجيش هو القوة المهيمنة في الجزائر. ورئيس الوزراء الأسبق، عبد المجيد تبون، الذي يُنظَر إليه على أنه من اختيار الجنرالات، انتُخِبَ رئيساً في العام 2019.
متى يرحل نظام الرئيس الراحل عن الجزائر؟
تجاهَلَ معظم الجزائريين الانتخابات الأخيرة وكانت نسب المشاركة هي الأدنى في تاريخ البلاد. وفي غضون ذلك، يُعتَقَد أن عدد السجناء السياسيين في الجزائر آخذٌ في الارتفاع. حاولت الحكومة تفكيك الحركات الاحتجاجية المؤيِّدة للديمقراطية، وهي الآن تلقي باللوم على جماعات المعارضة والمغرب، الذي قطعت معه العلاقات الدبلوماسية مؤخَّراً، في إثار الاضطرابات.
تقول المجلة البريطانية، إنه "في بعض الأحيان، لا تزال الحكومة تستخدم بوتفليقة، لكن الآن باعتباره كبش فداء. لقد تسبَّبَت أزمة كورونا في خسائر وواصَلَ الاقتصاد تعثُّره. ويشير المسؤولون أيضاً إلى شرور فرنسا الاستعمارية والمتآمرين الأجانب الآخرين، لكن يبدو أنه لم يتأثَّر معظم الجزائريين الذين وُلِدوا بعد الاستقلال بهذه السرديات المتهالكة. إنهم يتمنون أن ينتهي نظام بوتفليقة كما انتهى هو".